أقلام فكرية
نظرية دارون في التطور بين النقد والنقد المضاد
في العدد 44 من (الفلسفة الآن)، ادّعى بيتر ويليمز في مقال له انه وجد العديد من المغالطات المنطقية في نظرية العالم البريطاني البايولوجي ريتشارد دوكنز. مقاله هذا أثار عدد من الردود المتلاحقة المبيّنة ادناه من الأساتذة البايولوجيين والمختصين وهم كل من ماسيمو بيجليوتش وجوشوا بانتا وكرستين بوسو وباولا كراوس وتروي دكستر وكيري هانسكنخت ونوريس موث.
نظرية التطور الدارونية الجديدة هي النموذج المقبول حاليا في توضيح تاريخ وتنوّع الحياة على الارض. ولكن منذ ان نشر دارون كتابه أصل الأنواع تعرضت النظرية للهجوم من مختلف الجبهات. بعض هذه الانتقادات تم طرحها في الميدان الفلسفي، حيث اتُهمت نظرية التطور بكونها غير متماسكة او متناقضة منطقيا.
ربما أشهر نقد فلسفي لنظرية التطور طرحه كارل بوبر الذي اتّهم الدارونية بالقول "الدارونية ليست نظرية علمية قابلة للاختبار، وانما هي برنامج بحث ميتافيزيقي" (السعي غير المنتهي، 1976). غير ان بوبر تراجع عن نقده بعدما اتضح له ان هناك في نظرية التطور اكثر مما فهمه من الفحص السريع لها: "انا غيّرت رأيي حول المكانة المنطقية والاختبارية لنظرية الاختيار الطبيعي، وانا مسرور لتكون لدي الفرصة للإنكار" (ديالكتيك، 32: 344-346 ).
في عدد المجلة الفلسفية أعلاه، طرح بيتر وليمز قائمة باحدى عشرة مغالطة منطقية يدّعي فيها ان البايولوجي ريتشارد دوكنز Richard Dawkins قد ارتكبها في مختلف كتاباته. فيما يلي سنفحص كل واحدة من هذه المغالطات والتعليق على مدى تبنّيها من جانب دوكنز. المقال لا يعني دفاعا عن دوكنز وانما كتمرين تحفيزي في معالجة الاطار المنطقي لنظرية التطور الحديث ومضامينها الفلسفية الواقعية او المتخيلة.
المغالطات:
1- التناقض الذاتي self-contradiction
وهو ادّعاء الشيء ونفي الادّعاء ذاته. يقتبس وليمز من رسالة مفتوحة لدوكنز الى ابنته، ينصحها فيها للتفكير بنفسها، وان تقرر ما اذا كان الادّعاء تمّ بناءً على الدليل او السلطة، وان تسأل عن دليل متى ما ادّعى شخص ما معرفته بالحقيقة. المشكلة هي ان دوكنز يخلط بين الدليل والدليل التجريبي، هو يبدو انه استنتج ان دوكنز ايضا يساوي بين المعرفة والمعرفة العلمية. اذا كان موقف المعرفة العلمية ذاته ليس مرتكزا على الدليل التجريبي، يتبع ذلك ان دوكنز يناقض ذاته باقتراح خطة عمل لبنته لم تُسند بالطرق المقترحة من جانب دوكنز.
من الملاحظ ان وليمز بالغ كثيرا في أهمية نصيحة دوكنز. يبدأ دوكنز باقتراح خطة عمل معقولة لبنته اذا ارادت تقييم ادّعاء شخص ما بالحقيقة، هو لا يقول ان نصيحته علمية، ولا انه يساوي بين المعرفة والمعرفة العلمية.
وحول ما يُعتبر دليلا، يعرّف قاموس التراث الامريكي المعرفة العلمية بـ: "الحقائق المتوفرة، الظروف، وغيرها، التي تشير الى ما اذا كان الشيء حقيقيا وسليما ام لا ". من هذا المنظور، معظم الدليل هو في الحقيقة تجريبي. الاستثناء الوحيد سيكون التفكير المنطقي اوالرياضي، رغم ان معظم الناس لا يعتقدون بهذا كـ "دليل" بقدر ما هو "سبب" لتفضيل استنتاج معين.
اخيرا، الدليل التجريبي (وهو ليس بالضرورة علميا) لإدّعاء دوكنز يمكن توفيره: المرء يحتاج فقط لمقارنة عدد القرارات الناجحة التي يتخذها الناس حول امورهم المالية مثلا على اساس قراءة أبراجهم مقابل اتّباع نصيحة الخبير المالي (اذا كانت نصيحة الاخير مدعومة بالدليل التجريبي على آداء مختلف المحفظات المالية).
2- المصادرة على المطلوب Begging the question
وهي استعمال الاستنتاج من حجة معينة كأحد المقدمات المُستخدمة لتأسيس ذلك الاستنتاج، أي ان المقدمة تفترض صحة الاستنتاج بدلا من دعمه. المشكلة هنا هي ان دوكنز يفترض توضيحا طبيعيا ومتدرجا لتنوّع الحياة على الارض. هو يدّعي ان هذا يجب ان يكون صحيحا للمرء بدون مغادرة كرسيه (تبرير فلسفي وليس علمي)، لأن أي من التوضيحات الاخرى يمكن استبعادها كون الافتراض الاساسي (المبدأ الاول) لايمكن ان يأتي من أي افتراض آخر. يستنتج وليمز ان دوكنز اتخذ هذا الموقف الفلسفي (الغير علمي) لأنه يريد استبعاد المصمم الذكي القبلي.
في الحقيقة، ما كان يجب لدوكنز القول ان المرء يستطيع ان يرى حقيقة التطور الداروني بدون مغادرة كرسيه. البايولوجيا التطورية هي علم تجريبي، وهي فقط لأننا بعد اكثر من قرن ونصف من التحقيق استنتجنا انها احسن التوضيحات المتوفرة لتاريخ الحياة على الارض. لكن هناك تمييزات حاسمة فشل وليمز في عملها: 1- التدرج الداروني هو فقط واحد من مجموعة واسعة من التوضيحات الطبيعية للتطور(اخرى تتضمن لاماركية، وorthogenesis، وsaltationism)(1). وبينما هو في الحقيقة التفسير المقبول حاليا على نطاق واسع من جانب العلماء، لكن من الخطأ اعتباره اللعبة الوحيدة في المدينة بسبب مقبوليته) كل من دوكنز ووليمز يجب ان يأخذا بالاعتبار اهمية التمييز بين الطبيعية الفلسفية والطبيعية المنهجية.(2) الطبيعية الفلسفية هي الموقف بان كل ما هو واقعي هو طبيعي، لا مكان هناك لما فوق الطبيعة . ولكن ما يتبنّاه كل العلماء هو الطبيعية المنهجية، الموقف العملي بان احسن طريقة للعثور على توضيح قابل للاختبار للظاهرة هو ان نفترض بان القوانين الطبيعية فقط هي التي تعمل. وبينما اصحاب نظرية الخلق يولون اهمية كبيرة لهذا "التحيز" المزعوم، في الحقيقة كل واحد منا يتصرف كطبيعي منهجي في معظم الأوقات. نحن نرغب المراهنة على ان سيارة ويلمز لو تعطلت في المرة القادمة هو سوف لن يذهب للكنيسة ويطلب من القس اصلاحها، بدلا من ذلك هو سوف يأخذها الى الميكانيكي، يبحث عن حل طبيعي للمشكلة. وحتى لو لم يجد الميكانيكي أي علاج، فان وليمز سوف لن يلجأ الى الله، ولكن سوف يتخلى عن السيارة مفترضا ان الحقائق هي ببساطة غير كافية للعثور على العلاج الطبيعي الصحيح، وانه من الأفضل استعمال وسيلة اخرى للنقل.
3- المأزق الكاذب The false Dilemma
خياران اثنان فقط يُطرحان عندما تكون هناك خيارات ممكنة اخرى . يقتبس وليمز من دوكنز قوله ان تفسير وليم بالي الخارق للطبيعة في تعقيدية الحياة وخيار دارون الطبيعي هما يمكن ان يحدثا في وقت واحد دون اعتماد احدهما على الاخر. وليمز يقتبس من ميكائيل بول Michael pool في توضيح الاختلاف بين التوضيحات بالنسبة لوكالة وتلك المتعلقة بالآليات. لايجب ان يكون الاثنان متناقضين طالما ان وكيل معين (لنقل الله) يمكنه استعمال آلية معينة (لنقل اختيار طبيعي) لتحقيق أي هدف يريده.
نحن نرى مشكلتين في موقف وليم: الاولى انه يراوغ حول بالي. بالي لم يكن يتحدث حول الله فقط كوكيل يقرر التعقيدية البايولوجية، هو اعتقد في الله ايضا كونه آلية. وبكلمة اخرى، من المفارقة التاريخية ان نرى بالي كتطوري مؤمن طالما هو كان يدافع عن العقيدة المسيحية التقليدية بان الله خلق الانسان وكل شيء اخر مباشرة، وليس من خلال فعل القوانين الطبيعية. ثانيا، بينما على المستوى الاكثر عمومية بول هو صحيح في ان الوكالة والآلية ليستا معتمدتين على بعضهما بالضرورة، لكن فكرة"الله فعل ذلك" ببساطة لاترقى الى مستوى التوضيح العلمي (او، في الحقيقة، كأي نوع من التوضيح)، لأنها لاتضيف أي شيء للمخطط التوضيحي.
4- مغالطة المراوغة The fallacy of Equivocation
المراوغة هي كلمة تُستعمل في سياقين مختلفين ويُفترض ان يكون لها نفس المعنى في كلا السياقين، بينما يتم تفضيل معنى معين. وليمز هنا يرى دوكنز غيّر معنى كلمة "تصميم"، صاغها لتوضيح لماذا ظهور التصميم في الكائنات البايولوجية هو فقط ذلك الظهور. يقول دوكنز ان هناك اشياء طبيعية كأنها في الظاهر نتيجة تصميم، مثلا صخرة معينة تبدو على شكل وجه الرئيس الامريكي. هو يدّعي ان هذا نفس نوع الظاهرة التي تغري الناس للاعتقاد ان عين الفقريات مصممة. المشكلة هي ان النوع الاول من "التصميم" هو واضح (أي، الناس مباشرة يدركون ان الوجه لم يكن منحوتا)، بينما الثاني اكثر دقة ووليم يدّعي انها لذلك تعود لصنف مختلف.
يرى البعض ان وليم كان صائبا جزئيا هنا: دوكنز اختار فعلا مثالا سيئا ولأسباب خاطئة جوهريا. التشابه بين النتوء الصخري ووجه الانسان هو نتيجة سبب عشوائي بالكامل (اشكال الرياح، استمرارية الصخرة وغيرها)، بينما الكائنات البايولوجية هي محصلة لعمليتين اثنين: تغيير في الـ DNA (الذي هو عشوائي) والاختيار الطبيعي (الذي هو كل شيء الاّ عشوائي). هذا يفسر لماذا دوكنز كان غير قادر على التعامل مع المشكلة. غير ان النقطة الاساسية لدى دوكنز يمكن انقاذها عبر استعمال مقارنة أفضل. هناك عمليات طبيعية غير بايولوجية تعطي انطباع المصمم الذكي وتزودنا بموازي اكثر قربا الى التطور. فمثلا، في العديد من السواحل الصخرية هناك حصى مرتبة حسب الحجم تشغل حيزا بدءاً من خط الماء باتجاه الداخل بشكل غير عشوائي تماما. هذا ليس بسبب ان شخصا ما جمع كل الحصى من المحيط ووزنها بعناية وبنى الساحل. بل ان الشكل خُلق بفعل عمل مشترك لعمليتين اثنين: الفعل (العشوائي) للامواج وتأثير الجاذبية (غير العشوائي).
5- اللاتتابع The Non Sequitur
هو تعليق او ادّعاء لا ينطلق منطقيا مما قيل سلفا، بل يُعرض كما لو كان كذلك.
وليمز هنا يترك الساحة تماما لإقتباس من ستيفن بار الذي يتّهم دوكنز بمحاولة الدفاع عن العلم ضد ادّعاءات كونه "كئيب" و"جاف"، بينما لايعترف بان "الجمهور" يثير تلك المعارضات لـ الإلحاد، وليس للعلم ذاته. ظاهرا، يبدو دوكنز انه لا يرى الاختلاف بين العلم والالحاد.
من الصعب فهم بالضبط ماهي التهمة هنا، وخصوصا لماذا هذا سيكون مثالا لعدم التتابع. نحن نأخذ هدف وليمز المقصود من النقد هو الانتقال من اكتشافات العلوم الى الموقف الفلسفي من الالحاد. دوكنز يعلن احيانا ان إلحاده تعزز بالفهم العلمي للعالم: كلما اكتشف العلم الكثير عن الطبيعة كلما قلّت مساحة التدخل الماورائي المباشر. الان، اذا كان دوكنز يعني بالالحاد ما تضمّنه التطور منطقيا، عندئذ هو بالتأكيد خاطئ. ومن جهة اخرى، لإشتقاق استنتاج فلسفي (اخلاقي، وجودي وما شابه) من افضل ما موجود من المعرفة في العالم هو بالتأكيد ليس غير منطقي، وعمله سيكون شيئا عقلانيا. لذلك، فان التمييز الهام هو بين الالحاد المبلغ عنه بالعلم (والذي هو معقول)، وذلك الالحاد الذي جُعل ضروري منطقيا بواسطة العلم (والذي هو غير منطقي).
6- المعايير المزدوجة Special Pleading
هي المغالطة بأن ينتقد احد آخرين لعدم مراعاة معايير وقواعد معينة بينما يعفي نفسه من ذلك دون تبريرات كافية. المغالطة هنا تكمن في حقيقة ان دوكنز من جهة يرفض "الله" كتوضيح، على اساس لا وجود هناك لطريقة تخبرنا من أين جاء الله ذاته.
نحن نرى ثلاث مشاكل في موقف وليمز:
1- الاختيار الطبيعي لم يُقصد به ابدا كنظرية في أصل الحياة، بينما نظرية "الله فعل ذلك" واضحة .
2- دوكنز سينشغل في معايير مزدوجة خاصة اذا لم يعرض تفسيرا لكيفية بدء الاختيار الطبيعي (ليس الحياة)، طالما ان المبدأ التوضيحي الموازي لـ "الله" هنا هو الاختيار، وليس الحياة (الحياة هي ما مطلوب توضيحه من جانب أي "فرضية"). لكن البايولوجيا التطورية فعلا لديها توضيح لكيفية مجيء الاختيار الطبيعي للوجود: انه حدث حالما كان هناك سكان من استنساخ ذاتي، متغير، جزيئات. لا وجود لمثل هذا التوضيح في الله.
3- مرة اخرى، "الله فعلها" ليس توضيحا وانما طريقة خيالية للاعتراف بالجهل: التوضيح هو تفسير لآلية (مثل الاختيار الطبيعي)، وليس تسمية توضع على الحقائق.
7- التفكير الرغبوي Wishful Thinking
وفيه يتم عرض عقيدة لأنها او لأن نتائجها يُراد ان تكون صحيحة.
يقتبس وليمز من كتابات دوكنز بان لا احد يعرف كيف نشأت الحياة على الارض، بل انها يجب ان تكون نشأت بفعل أسباب طبيعية. اذا كان دوكنز يصل لهذا الاستنتاج – كما يدّعي وليمز – بسبب موقفه الفلسفي من الطبيعية (مثل الإلحاد)، عندئذ هو في الحقيقة يكون منخرط في تفكير رغبوي (مع انه ليس اكثر من الجانب الآخر عندما يقول ان الحياة يجب ان تكون نشأت بفعل خالق خاص). غير ان هناك تفسير اكثر اعتدالا لإدّعاء دوكنز: هو فقط كونه عالم جيد في قبول منهجي بان الطريقة الوحيدة للعثور على توضيح علمي لأصل الحياة هو الافتراض المبدئي بانه لا يتضمن تدخّل ماورائي. ربما لا يحب احد ما فكرة ان العلم مقيّد بالتوضيحات الطبيعية، لكن من الصعب ان نرى أي نوع من التجارب او الفرضيات القابلة للاختبار تنشأ من إدخال امر ما ورائي الى هذه المسائل. وايضا نحن نشير الى ان إعلان وليمز بان هناك "كمية كبيرة من الدليل العلمي المضاد" لنظرية طبيعية لأصل الحياة هو ببساطة أمر زائف (انظر مثلا ظهور الحياة على الارض: رؤية تاريخية وعلمية، لفراي Fry، مطبعة جامعة روتجرس، 2000).
8- صرف الانتباه عن القضية الأساسية The Red Herring
وفيه ان مقدمة او موضوع غير ملائم يتم ادخاله في النقاش لصرف الانتباه عن الموضوع المراد نقاشه. عادة، اللاملائمة تكون ماكرة ودقيقة جدا كي تبدو ملائمة لمنْ لا يركزون انتباههم جيدا.
هذه في الحقيقة صيغة اخرى للمعارضة التي برزت تحت المغالطة رقم 6، ولكن بحيلة مختلفة. يدّعي وليمز ان المشكلة الحقيقية لنظرية التطور هي في توضيح أصل البروتينات المحفزة (انزيمات) واتّهام دوكنز في صرف انتباه قرائه عنها عبر إدخال الاختيار الطبيعي كتوضيح للكيفية التي اصبحت بها الانزيمات اكثرا تعقيدا بدءاً من جزيء بسيط.
مرة اخرى، التطور عبر الاختيار الطبيعي لم ولن يُقصد به كنظرية لأصل الحياة. من المفارقة، انهم اصحاب نظرية الخلق هم من صرف الانتباه عن هذه القضية طالما هم يستمرون في سوء تفسير نظرية التطور. الاختيار الطبيعي قادر تماما على تغيير وتحسين الأفعال التحفيزية للبروتين، والذي هو كل ما تدّعيه النظرية. من جهة اخرى، صحيح اننا لانزال لا نعرف كيف نشأت بالأصل المستنسخات الاولى، لكن ما نحتاجه لنظرية طبيعية للاصل هو ان المستنسخين الأوائل first replicators كانوا بسيطين جدا لينشأوا عشوائيا، وهو افتراض محتمل. اخيرا، من المثير للانتباه ان وليمز يُدخل مفهوم "التعقيدية اللااختزالية" للبروتينات كما لو انها كانت مقبولة في العلم على نطاق واسع. انها ليست كذلك.
9- حجة رجل القش Straw man argument
وفيها يُعطى انطباع بدحض حجة الخصم في حين ان ما تم دحضه هو حجة لم يعرضها الخصم، وتسمى الحالة مهاجمة رجل القش.
انها مغالطة شائعة لأنه من السهل اساءة فهم موقف شخص آخر. ان محل الإشكال هنا هو حين يعلن دوكنز ان الفرق بين العلم والدين هو ان الاول مرتكز على الدليل "والحصول على نتائج" بينما لا ينطبق ذلك على الدين. وليمز، بغرابة، يعتبر هذا كهجوم على المسيحية بالذات ويؤكد بان هناك تقاليد مسيحية قوية في تقييم العقلانية.
اولاً، كان دوكنز يستهدف الدين بشكل عام وليس المسيحية خصيصا. ثانيا، النقد كان ان الدين ليس مرتكزا على الدليل، وهو ليس نفس الشيء في اتّهام الناس المتدينين بعدم تقييم العقلانية. يمكن للمرء بناء جدال عقلاني لمصلحة وجود الله ولكن لا يمكن للمرء إعطاء اي دليل لدعم هكذا بناء. العلم هو مكوّن لا ينفصم من ثنائية العقلانية والدليل: بدون الاخير(الدليل) سوف لن يكون هناك اختلاف عن المنطق او الفلسفة. اخيرا، بينما صحيح ان هناك تقاليد عظيمة للتحقيق العقلاني ضمن المسيحية، لكننا نحتاج لتذكير وليمز بان الكنيسة دائما ما وضعت قيودا قاسية على مثل هكذا "تحقيق حر"، لنتذكر فقط برونو Bruno وكوبرنيكوس وغاليلو.
التقليد العلمي للكنيسة الكاثوليكية هو بالتأكيد تجسّد جيدا باليسوعيين (على سبيل المثال، هم اداروا مرصد الفاتيكان الفلكي في ايطاليا)، ومع ذلك كان اليسوعيون هم من عارض غاليلو ورفضوا الاعتراف بالدليل الملموس الذي كان يعرضه من خلال تلسكوبه. ان أفضل مثال عن الاختلاف في كيفية تعامل الدين والعلم هو في رؤية العلاقة بين العقلانية والايمان.
10- التركيز على الشخص لا على ما يقول Ad Hominem
وفيها يتم مهاجمة الفرد بدلا من الحجة. دوكنز، وفي ضوء شخصيته الفضة، يشبّه الناس الذين يؤمنون بالله بالاطفال الذين يؤمنون ببابا نويل. ويلمز يعتبر هذا كهجوم على الشخص، وعليه فهو مغالطة منطقية. يستمر وليمز بعد ذلك، بغرابة نوع ما، للقول انه حتى الاطفال هم احيانا صائبون ولذلك لايستطيع المرء رفض العقائد الطفولية كليا. نحن نوبخ دوكنز للغته والتي من المؤكد تثير الغضب. من جهة اخرى، هذا لا يرقى الى مغالطة لأن دوكنز لا يستعمل معادلة "الايمان بالله = تفكير طفولي" كحجة ضد وجود الله. بالعكس، هو يبدأ بمقدمة ان الله هو قصة خيالية ومن ثم يستنتج (باسلوب منطقي سليم، اذا قبل المرء المقدمة) بان الايمان بالله هو طفولي كالايمان في قصة خيالية. بالطبع الأطفال (او الكبار الطفوليون) يمكن ان يكونوا صائبين في أشياء معينة، لكن سقراط (في حوار مينو) يجادل بطريقة مقنعة ان العقيدة الصحيحة بدون سبب لا شيء فيها يمكن التفاخر به.
11- تسميم البئر poisoning the well
وهو شكل من الهجوم على الشخصية يحدث قبل الدخول في صلب النقاش مشجعا المشاهدين للوقوف ضد الجانب المعارض قبل ان يعرض موقفه.
دوكنز مرة اخرى استُهدف في لغته. في بعض كتاباته هو يدّعي ان لا عالم مؤهل يشك في حقيقة التطور، وهو ما معناه بان المرء لا يجب ان يولي اهتماما لحجج تُعرض من ناس لا يؤمنون بالتطور، لأنهم ببساطة غير مؤهلين للخوض في هذه المسائل.
كما في حالات اخرى، نحن نتفق مع نقد لغة دوكنز والتي هي بوضوح فيها كثير من المبالغة (لو بحث احد بجد سيجد خبيرا مؤهلا يشك بميكانيكا الكوانتم والتي هي وفق معظم الحسابات أفضل نظرية علمية). دوكنز يمكن اعتباره "يسمم البئر" هنا. مع ذلك، نحن نجد وليمز بدوره غير نزيه نوع ما(ويعتمد على المغالطة في ذاتها عندما يستشهد بثلاثة مختصين ومؤلفين غير منحازين لجانبه: وليم ديمبسكي، جوناثان ويلس، وتوماس وودورد. جميع الافراد الثلاثة هم من المدافعين عن الديانة المسيحية ولذلك لا يمكن اعتبارهم غير منحازين ايديولوجيا (لاحظ بينما دوكنز هو ملحد علني، هناك عدد كبير من الناس المتدينين من مختلف الجماعات الدينية هم من بين العلماء التطوريين). كذلك، ديمبسكي لديه شهادات في الرياضيات والفلسفة، وودورد يدرّس الثيولوجي في مدرسة مسيحية اصولية، ويلس لديه شهادة بالكيمياء البايولوجية وبايولوجيا الجزيئات. لا احد منهم مؤهل للتعليق على التطور لسبب بسيط وهو ان شهاداتهم ليست في العلوم البايولوجية العضوية. مثلا، ماسميو بجلوسي لديه دكتوراه في علم النبات، والذي هو علم بايولوجي عضوي، لكنه لايشعر ابدا انه مؤهل للتعليق على معقولية ميكانيكا الكوانتم. تماما مثلما احد لديه دكتوراه هو غير مؤهل اوتوماتيكيا للخوض في كل الموضوعات.
العلوم الفلسفة وحدود المنطق
هذا النقاش بالكامل مرتكز على مفهوم المغالطات المنطقية. لكن التفكير يمكن ان يكون منطقيا صحيحا في نفس الوقت الذي يكون فيه مضللا وخادعا. فمثلا، احدى المغالطات الكلاسيكية هي (بعد ذلك، لهذا بسبب ذلك)، حيث يستدل المرء ان السبب لنتيجة معينة هو حدث ما باعتبار ان السبب المزعوم سبق النتيجة في وقت قصير(مثل انا استيقظت في الصباح مع ألم في المعدة، انا تناولت مشروبا الليلة الماضية، بالتالي المشروب هو سبب الصداع).
من المهم ادراك المغالطة أعلاه: اذا ربط احد بين حدثين قريبين مؤقتا من بعضهما، وكان الاول يسبب الثاني، هذا بوضوح غير صحيح. لدينا الكثير من الأمثلة عن التسلسل الزمني لا يوجد ترابط سببي بين عناصرها (مثل الليلة الماضية صادف ان يكون القمر كاملا، لكن هذا لا يُحتمل ان تكون له علاقة بالألم لدي هذا الصباح). غير انه من العقلاني تماما بدء التحقيق في أسباب مرتكزة على الارتباطات، والتي هي بالضبط ما يقوم به العلم. لو عرفتُ ان نوعا معينا من الشراب يميل ليسبب ألما في افراد معينين، وكنت باستمرار أرى انه عندما اتناول ذلك النوع من المشروب أشعرعادة بألم في الصباح التالي، عندئذ سيكون لدي تبرير منطقي في استنتاج مؤقت (بانتظار مزيد من الأدلة) بان الألم الذي اشعر به هو حقا ناتج عن تناول ذلك المشروب (لذا يجب ان أتوقف عن تناول مثل هذا المشروب).
يتبع من كل هذا ان العلم هو بالأصل اتجاه يقود فقط الى استنتاج غير مؤكد، بينما لو يرغب احد بالحقيقة فهو مقيّد بعالم المنطق والرياضيات. الفلسفة تشغل منطقة هامة بين هذين الاتجاهين: الفيلسوف يحاول بناء جدال منطقي مضاد للرصاص(أي يسعى لحقيقة منطقية)، المقدمة لتفكيره يمكنها فقط ان تكون من نوعين(شوكة هيوم الشهيرة). اما مقدمة تبدأ بأقوال عشوائية وبلا أساس حيث يكون فيها حتى التفكير المترابط منطقيا لا يقود الى شيء، او مقدمة تبدأ بملاحظات تجريبية حول العالم، والفلسفة لهذا تشترك ببعض قيود العلم. الكثير من الحبر والمشاعر السيئة يمكن تجنبها لو ادرك الناس ان الجنس البشري (باستثناء المنطقيين) لا يمكنه الحصول على الحقيقة، انما فقط أكثر او أقل احتمالا.
***
حاتم حميد محسن
..........................
الهوامش
(1) اللاماركية Lamarckism: هي نظرية في التطور اقترحها الطبيعي الفرنسي جين بابتس لامارك عام 1809 تؤكد على ان التغير المادي في الكائنات الحية والخصائص المكتسبة التي تطورت اثناء حياتها- مثل التطور الكبير للنوع او للعضو- هي استجابة مباشرة لتغيّر خارجي في البيئة او بسبب استعمال او عدم استعمال العضو وهي يمكن ان تنتقل الى الذرية، مثال على ذلك الزرافة التي طورت رقبة طويلة كي تستطيع التقاط اوراق الاشجار. النظرية أثّرت على فكر التطور طوال القرن التاسع عشر.
اما الـ orthogenesis: او التطور التدريجي اول من ادخل المصطلح ولهيلم هيك عام 1893. هو عبارة عن تطور متصاعد او فرضية بايولوجية مطلقة تفيد بان الكائنات الحية لديها ميل فطري للتطور في اتجاه محدد نحو هدف معين (تيلولوجي) بفعل بعض الآليات الداخلية او القوى الدافعة. طبقا للنظرية، ان اكبر نزعات التطور لديها هدف مطلق مثل زيادة التعقيدية البايولوجية. من المؤيدين للنظرية لامارك وهنري برجسون. بعض البايولوجيين مثل ارنست ماير رفض عام 1948 النظرية في مجلة الطبيعة معتبرا انها تنطوي على قوة ماورائية.
النوع الثالث من فرضيات التطور هو الـ Saltationism وهو الايمان بان التطور يعمل بفعل تطور مفاجئ او طفرات لأنواع جديدة او خصائص بايولوجية من جيل الى الجيل اللاحق ليؤسس على الفور انواعا جديدة .
(2) للتمييز بين الاثنين، الطبيعيون المنهجيون methodological naturalists يقيّدون بحثهم العلمي فقط بدراسة الأسباب الطبيعية لأن اي محاولة لربط العلاقات السببية مع قوة غيبية هي غير مثمرة وتقود الى خلق نهايات ميتة للعلم. ولتجنب هذا الفخ يفترض العلماء ان جميع الاسباب هي تجريبية وطبيعية، يمكن قياسها ودراستها منهجيا. هذا ما يفصل الطبيعية المنهجية عن المذهب الطبيعي الفلسفي philosophical naturalism الذي يطرح ادّعاءً فلسفيا بأن الأسباب الطبيعية هي وحدها موجودة، على عكس الطبيعية المنهجية التي هي فقط وسيلة بحث ولا تدّعي الحقيقة