أقلام ثقافية

حميد بن خيبش: السبورة السوداء

"إن إحدى آخر المعاقل التي لا يزال الناس يستطيعون الالتقاء فيها وتبادل الحديث هي المدرسة. سيغلقون المدرسة!"

كتاب "السبورة السوداء" ثمرة تعاون بين صحفيين بلجيكيين، يعرضان من خلاله صورة لما يمكن أن يصير إليه التعليم إذا ما تمكن التجار من الهيمنة على الأنظمة التربوية، وتحويلها إلى مشاريع مربحة على حساب إنسانية وحرية الأجيال المقبلة.

 يتعلق الأمر بكل من جيرار دوسيليس، الصحفي والناشط اليساري الذي أنتج عددا من البرامج الإذاعية والتقارير والأفلام الوثائقية لإذاعةRTBF، كما له مؤلفات عديدة في مجالات التعليم والإعلام والعلاقات بين الشمال والجنوب.

أما نيكو هيرت فهو كاتب وأستاذ محاضر، يعمل باحثا في الجمعية البلجيكية "نداء من أجل مدرسة ديموقراطية"(Aped)، وتركز أبحاثه الرئيسية على أوجه الفصل العنصري في المدارس وتسليع التعليم.

سخّر المؤلفان الكتاب لشرح ما تنوي أن تفعله بنا طبقة الأثرياء، تلك الطبقة المنتشية بالمال والسلطة، والتي تريد أن تسرق منا الرأس بعد أن سلبتنا أذرعنا وسواعدنا. يتعلق الأمر ب "إلدورادو" جديد، يعتزم صيادو الثروات الاستحواذ عليه، وتوجيهه ليخدم مصالح الرأسمال العالمي. إنه التعليم الذي تُبذل جهود حثيثة لتحويله إلى سوق واعد.

في هذا الكتيب يسلط المؤلفان الضوء على بعض التقارير والمذكرات التي أصدرتها منظمات دولية، مع إطناب في التحليل والرصد دون تقديم بدائل أو حلول. وهي نقطة تضاعف من قيمة الكتاب، إذا لا يتوقع منه تقديم حلول سحرية لأزمة نظمنا التعليمية، والتي هي أزمة شائكة ومعقدة، كما لا يتوقع منه تقديم بدائل لمقاومة مشروع خوصصة التعليم الزاحف، لأن الحلول لا يمكن ابتداعها إلا ذاتيا، ووفق طموحات ومتطلبات كل شعب.

مع تطور تكنولوجيا الاتصال أصبحت المعلومة سلعة، وبالتالي فتوظيف التكنولوجيا الجديدة في التعليم ليس بتلك البراءة التي يتم الترويج لها، وهو ما تخفيه العبارات والمفاهيم التي يروج لها الأثرياء ووسائل الإعلام؛ فمشروع "مدرسة الغد" على سبيل المثال ليس سوى النسخة الأوربية لإصلاح التعليم من وجهة نظر السماسرة.

في أواخر القرن التاسع عشر أطلق العالم الرأسمالي موجة كبرى لاستعمار البلدان الأخرى بهدف الخروج من الأزمة الاقتصادية الخانقة لسنة 1873. وهي الحملة التي مكّنته من وضع يده على ثمانين بالمئة من السوق العالمي لترويج منتجاته. أما مع بداية الثمانينات فقد اكتشف خبراؤه في المنظمات الدولية، من قبيل صندوق النقد والبنك الدولي والمفوضية الأوروبية، منجمين ماليين لا يتطلبان احتلالا بقوة السلاح: المصادر المالية للدول، والخدمات العمومية.

 وبما أن التعليم يندرج ضمن الخدمات العمومية التي تنص دساتير بلدان العالم على تقديمها لشعوبها بشكل مجاني، أو شبه مجاني في أغلب الأحوال، فقد صار اليوم هدفا مركزيا للرأسمال الخاص، باعتباره سوقا كونية واعدة تدر أرباحا طائلة، وهذا يعني أن التعليم الذي تقدمه المدرسة العمومية، سيشكل عائقا لابد من تفويته أو تخريبه إن لزم الأمر.

 في تقريرها الذي تبنته في السابع من مارس سنة 1990، أعلنت المفوضية الأوربية بشكل سافر أن التعليم يجب أن يصبح صناعة تبيع منتوجاتها (الدروس) في سوق تحكمها قوانين العرض والطلب.

وفي تقرير آخر صادر عن نفس الجهة في نونبر 1991 بعنوان" مذكرة حول التعليم المفتوح وعن بعد في الاتحاد الأوروبي" جرى الحديث عن الجاذبية التي يحققها التعليم عن بعد، وإسهامه في تحسين المردودية ودعم التنافسية.

أما تقرير " أوروبا ومجتمع المعلومة الكوكبية" والذي صدر في 26 ماي 1994 فقد دعا صراحة إلى تشجيع العمل عن بعد، من خلال توفير ملايين فرص الشغل، وما يعنيه ذلك من خلق سوق للتعليم عن بعد. إلا أن إرساء مثل هذه السوق يقتضي الضغط على الحكومات لتقليص ميزانيات التعليم العمومي، وجعله غير مجد، لتتجه أعداد هائلة من الطلبة بشكل طبيعي إلى التعليم الخاص.

وفي فبراير 1995 أعلنت مجموعة السبعة من بروكسيل بوقاحة: " إن التعليم يجب أن يعتبر بمثابة خدمة موجهة لعالم الاقتصاد.. إننا نطلق صيحة فزع، فالنظم التربوية لا تتلاءم بما يكفي من السرعة مع الثورة التكنولوجية".

 لقد خلقت التكنولوجيا لأول مرة سوقا تجاريا عالميا بقطاع التعليم، يؤمّن خدمات متنوعة، ويقترح برامج تعليمية في بلدان أخرى دون أن يضطر الطلبة لمغادرة مواطنهم، وهو ما ستكون له مضاعفات خطيرة على بنية نظام التعليم والتكوين على المستوى العالمي. إن الهدف هو خلق نظام واسع وتجاري للتعليم عن بعد على هامش شبكات التعليم العمومي والذي يكتفي في الغالب بتعليم أساسي مكمل. وتبعا للتخفيضات الكبيرة في ميزانية التعليم جرى تعميم التعليم عن بعد، ففقدت الجامعات غالبية أساتذتها وطلابها، وتركزت أهم نشاطاتها على إجراء بحوث لصالح أصحاب المصانع والشركات.

في النهاية سيبيعون دروسا في الديموقراطية، يقول المؤلفان، تلك التي يحكم فيها الأثرياء مختبئين خلف ساسة انتخبوهم. ديموقراطية ترفع السلاح بلا رحمة في وجه الشعب حين يثور، وذلك باسم النظام، نظام الأثرياء.. إنهم يريدون أن نتعلم ما هو صالح لهم.

تؤكد كل حكومات العالم في أدبياتها الرسمية على أن المدرسة تسعى لتحقيق أربع وظائف:

 فهي توفر حظوظا متساوية لكل الشباب لتصحيح اللامساواة الاجتماعية.

وتسمح لكل شخص بأن يطور كل إمكاناته إلى الحد الأقصى، ويفتق مواهبه الفنية وحسه العملي.

وتُمكّن كل الشباب من الحصول على عمل، من خلال ملاءمة جيدة بين التعليم وحاجات المؤسسات.

وتروم تنشئة مواطنين أحرار ومسؤولين. يحترمون الديموقراطية والقيم التي تأسست عليها بلادهم.

لكن ما يجري تحقيقه على ارض الواقع غير ذلك، فالمدرسة في البلدان الرأسمالية المصنعة تقسّم الأطفال حسب أصولهم الاجتماعية. وبينما يبدو الطريق ممهدا لأبناء الفئات المحظوظة نحو الجامعات المرموقة، فإن المنحدرين من عائلات شعبية يتم توجيههم في أحسن الأحوال إلى المعاهد التقنية. إن الوظيفة الحقيقية للمدرسة هي السماح لمجتمعنا الذي يهيمن عليه المال بالتماسك، كي يتمكن حفنة الأثرياء من إدارته وحكمه، باستبعاد أية اعتبارات إنسانية أو اجتماعية تعيق مطلبهم الأول: الربح!

 حتى زمن غير بعيد كان الموقف الاستعماري إزاء مسألة التعليم واضحا، ويتمثل في الإبقاء على جهل وتخلف البلدان التي كان ينهب ثرواتها ومقدرات شعوبها. ما الذي جرى إذن حتى يسارع خبراؤه وساسته الزمن لخلق ما أسموه "مجتمع المعرفة"؟

 وما الغاية الحقيقية وراء عقد مئات الندوات والمؤتمرات التي تقترح إصلاحات شاملة لنظم التعليم في تلك البلدان؟

يُبدي المؤلفان قناعة واضحة بأن العولمة الثقافية التي يتأهب الجميع لمقاومتها ليست سوى سقف إيديولوجي لمشروع تجاري بالأساس؛ مشروع سوق كونية للتعليم الخاص، توفر ملايين المستهلكين للدروس/السلع، وللأجهزة والوسائط الحاملة لها، وللمعلومات المصنعة والمستهلكة عن بعد.

***

حميد بن خيبش

في المثقف اليوم