أقلام ثقافية
سجاد مصطفى: أنين الغياب

لا أدري من أين أبدأ، لأنني أظن أن الكلمات – مهما سَمَت – ليست إلا خيانة صامتة لشيءٍ أعظم من أن يُقال. أكتب إليكِ لا لأن في جعبتي قولًا يستحق، بل لأنكِ ما زلتِ تتسكعين في دهاليز ذاكرتي كطيفٍ لا يؤمن بالفناء. سبعُ سنواتٍ مرّت، لم تجمعنا فيها علاقات العشاق، ولم تفرقنا قطيعة الأعداء. كنّا بين بين، لا صداقة تُروى، ولا حبًّا يُعاش، لكن بيننا حديثٌ ومزاحٌ ومواعيد مؤجلة، ورسائل تائهة، وأمنيات لا تملك الجرأة لتولد. كنتِ قريبة، ولكن بُعدكِ كان أعمق من المحيطات، ونظراتكِ لم تكن مجرّد نظرات، بل كانت تقلب كياني، تحفر في قلبي، وتتركه دون أن ترفقيه بكلمة أو وداع.
وذات مساءٍ – لا أدري أكان القدر فيه أعمى أم قاسيًا – اعترفتُ لكِ بما ظلّ يحترق في صدري لسنوات. قلت لكِ إنني أحبكِ، لا لأنني كنت أملك خيارًا، بل لأنكِ كنتِ الهواء الذي لم أعد أستطيع العيش بدونه. وبدل أن تهمسي لي بما يُشبه الرجاء، قطعتِ نياط القلب ببرودة غريبة: أنتِ مجرّد صديق... وأنا أحبُّ رجلًا آخر. في تلك اللحظة، لم ينكسر قلبي فقط، بل انطفأ داخلي شيءٌ لا اسم له. لم أعد أؤمن بالحب، ولا بالنساء، ولا بالحياة التي يمرّ فيها الإنسان كظلٍّ لخيبة.
مرّ عامٌ وستة أشهر، وأنا أجرُّ خيبتي خلفي كجرحٍ قديم لا يلتئم. قلبي المثقوب كان يسير بي، لا أملك عليه سلطانًا، ولا على حزني شفاء.
ثم جاء الخميس، وكان صباحًا كأيّ صباحٍ في حياتي الرتيبة. كنتُ في العمل حين فتحت هاتفي، فظهر لي إعلان خطوبتكِ. لم أرتبك، لم أغضب، بل شعرتُ كأن شيئًا ما في داخلي – لم يكن قد مات تمامًا – بدأ ينزف من جديد.
كتبت لكِ تهنئة. نعم، تهنئة من ذلك القلب المثقوب، الذي رفض أن يُقابلكِ بالحقد، رغم كل ما تركتِه فيه من وجع.
إلى من كانت يومًا قريبة من القلب، في خضمّ هذه اللحظة الفارقة من حياتك، أبعث إليكِ بأصدق التهاني والتبريكات بمناسبة خطوبتك، سائلاً المولى أن يجعلها فاتحة خير وبركة، وأن يكتب لكِ فيها سعادة دائمة وهناءً لا ينقطع.
وإن كنتُ قد حملت لكِ مشاعر خاصة في زمنٍ مضى، فإنني اليوم – وبكل صدق – أفرح لكِ من القلب، وأتمنى لكِ من الأعماق أن تكتمل مسيرتك الجديدة بكل طمأنينة ورضا. فالسعادة التي كنتُ أرجوها لكِ، ما زلتُ أرجوها، وإن تغيّر شكلها وموقعها في حياتنا.
إن شاء الله تفرحين، وتبقين دومًا في رعاية الله وعنايته، ويكون القادم أجمل وأطيب. تقبّلي مني كل الاحترام والتقدير، لم أكتب لكِ لأنني ما زلتُ أريدكِ، بل لأنني لم أعد أستطيع أن أُخرجكِ من ذاكرةٍ تتنفس باسمكِ في كل لحظة. أنتِ لستِ حبًّا، بل حكايةٌ لم تكتمل، وفراغٌ نتنفسه معًا. كلانا كذب على نفسه، آمن بحلمٍ مائل، وأدار ظهره للواقع.
اليوم، أنتِ مع رجلٍ يبيع الدراجات، ويعمل في توصيل الطلبات. وأنا هنا، أكتب من قلبي المثقوب... أكتب لأنني لم أعد أملك ما أفعله غير ذلك.
وقد قال شاعرٌ قبلي، كأنما لسان حالي:
وما الحب إلا نارُ قلبٍ خفيّةٍ
إذا اشتعلتْ... لا يُرى منها الدخان
وظننت – بسذاجتي الجميلة – أن تلك التهنئة ستغلق الدفتر، وتمحو الصفحة الأخيرة من حكايتنا. لم أكن أرجو ردًّا، ولا حتى امتنانًا، كل ما أردته أن أُغلق الباب بأدب... وأن أترك خلفي أثر إنسانٍ لم يَخُن، حتى حين خانه كل شيء.
لكنّ القدر، كعادته، لم يسمح لي بالرحيل بهذه السهولة.
فبعد أيامٍ من الصمت، كانت الحقيقة تتسلل إليّ، لا من باب العتاب، بل من نافذة السخرية المريرة... وهناك بدأت قصة العدالة الإلهية في حكايتنا.
بعد ما كتبتُ لكِ تهنئة من قلبي المثقوب الذي أصرّ أن يظل نبيلًا حتى في حضرة الخذلان. ثم مرّت الأيام، كما تمرّ الجنازات في مدن الذكرى، صامتة، ثقيلة، لا تحمل جديدًا سوى تواريخها.
حتى جاء ذاك الصباح الرمادي... فتحتُ هاتفي، لا لشيء، سوى لتجريب شعور اللاجدوى من جديد. فإذا بي أقرأ ما لم أتوقّعه منكِ: أنا لم أُخطب... بل خُطبتُ لغيره. ثم ضحكتِ.
يا الله، كم كانت ضحكتكِ مؤلمة!
ضحكة خرجت من فمكِ، لكنها ارتدّت في صدري كارتطام نيزكٍ في أرضٍ بور.
ضحكة أعرفها، تلك التي أطلقتِها يوم قلتِ لي بانكساركِ: ارجع لي... لقد خانني ذاك الرجل ويكرهني، كنتُ على خطأ، سامحني، أرجوك عد...
وفي لحظةٍ خاطفة، كانت الحياة تعرض أمامي شريطها دون أن تستأذنني. تذكّرتُ كم مرة حرقتِني، ثم عدتِ تستدفئين من رمادي وكأن شيئًا لم يكن.
تذكّرتُ كيف كنتُ الجسر الذي عبرتِ عليه من خيبةٍ إلى خيبة، دون أن تنظري خلفكِ لترَيْ كم مرة انكسر هذا الجسر ليبقيكِ واقفة.
هدأتُ، ليس لأنني سامحتُ، بل لأنني لم أرد أن أكون مثله، لم أرد أن أثقب قلبكِ كما أثقبتِ قلبي. فنظرتُ إليكِ بهدوء وقلت:
كلُّ ساقٍ يُسقى بما سقى... ولا يَظلم ربُّكِ أحدًا.
سألتِني: هل أنا ظالمة؟ أجبتكِ: نعم... أنتِ ظالمة، وخائنة أيضًا.
ارتبكتِ، وهمستِ: لماذا؟ قلتُ: لأنني أحببتكِ بقدر السماوات... ولا أرض تكفيني.
فهمتِ الجواب، وسألتِ: هل ما زلت تحبني؟ قلتُها ببرود العارف بحقيقته: لا... لقد صرتُ أكرهكِ بقدر ما كنتُ أحبكِ.
شهقتِ، وأردتِ أن تعرفي لماذا، فقلتُ وأنا أتحسّس جرحًا لا يندمل: دعيني وشأني... قلبي يتألّم، ولن يحتمل من جديد.
ستجدين من هو أفضل... لكن لا تعودي إليّ، أنا لا أعود لمَن مزّقني.
حاولتِ لملمة الخراب بكلماتكِ، قلتِ إنكِ تحبين الشعر... وإنكِ رأيتني أكتب.
ضحكتُ، لا سخريةً بل وجعًا، وقلت: أنا لستُ شاعرًا... بل رجلٌ انكسر، فلم يجد غير الكلمات ليلملم ما تبقى منه.
قلتِ: لماذا؟ قلتُ: لأنني وجدتُ في الكتب ما هو أعمق من الشعر، في الكتب وجدتُ نفسي التي ضاعت حين التقيتُكِ.
ثم طلبتِ أن أكتب عن لحظات حبّنا، فقلتُ: هل أبدو لكِ صبيًّا بلا عقل؟ أم تظنينني كاتبًا لمأساةٍ لا يفهمها؟
أقسمت بالله... وبالإمام علي عليه السلام، وطلبتِ أن أصدقكِ، فقلتُ لكِ: إن كنتِ تؤمنين بالله، وحقّ الإمام علي، فاستمعي لقوله: أجهل الجهّال، من تعثّر بالحجر مرتين.
وأنا، يا من كنتِ يومًا كلّ حياتي، لن أكون ذلك الجاهل.
ثم ساد صمتٌ طويل... صمتٌ يسكن بين نبض القلب وصرخة الكرامة.
قلبي يريدكِ، وعقلي يرفضكِ، لكن كرامتي... كرامتي لا تسمح لي أن أكون ظلًّا لمن خان النور.
تمّتُ... ولم تنتهِل، لأن الوجع لا يحتاج إلى نهاية... يكفيه أن يُقال.
لستُ كاتبًا... فقط كنتُ أحب.
***
سجاد مصطفى حمود