أقلام ثقافية
عبد السلام فاروق: عندما تهمس الأرض

في زمن العواصف التي لا تعرف الاتجاه.. تخرج الحقيقة من جعبتها كالطفل الذي يمسك بخيط مقطوع.. تمسك بأيدينا وتسحبنا نحو مراتب من الحياة لم نكن نعرفها.. هنا.. حيث تتقاطع أنفاس المدن المجهدة مع صرير أَجنحة التاريخ.. يبدأُ السؤال: أين تذهب بنا هذه الريح؟
سياسة.. تكتبها الأزقة
في أوروبا التي تشيب مِن سرعة الحروب.. تعلن صوت الناخبين صوتًا مختلفًا.. يميل إلى اليمين
كرغبة في احتضان ماض مفقود.. لكن الماضي لا يعود.. إنه يتلون كالحلم.. يظهر في إيطاليا حيث تشق حكومة جديدة طريقًا صعبًا بين الحماية الاقتصادية وشياطين العنصرية.. وفي السويد.. تمسك النساء بِأعقاب السياسة بيد باردة.. كرد على عنف ذكوري طويل.. الولايات المتحدة الأمريكية.. التي تئن تحت ثقل انقساماتها.. تمسك بيد مشدودة إلى البيض.. ترى في انتخابات المدنِ الصغيرة بشرى.. أو نذيرًا.. فكل صوت يحمل قصة جرح.. أو أُمنية لولادة جديدة..
مجتمع.. يبحث عن نبضه
في عالم تتفشى فيه الوحدة كالوباء.. تخرج اليابان بفكرة غريبة.. تدفع للمقبلين على الزواج.. كل هدوء يحمل فوضى.. وكل يقين يخفي وهدة.. هل يمكن للمال أن يصنع حبا؟.. أو أن الحب يحتاج إلى مال ليبقى؟.. وفي أَفريقيا.. حيث تطحن الشمس الأرض.. تصنع النساء من قشور الفاكهة أَملًا.. يباع في أَسواق الغرب كَـ "ترف بيئي".. بينما تبقى أَيديهن تَطحن الفقر..
السينما تخجل من نفسها.. فتفر إلى الماضي.. تعيد إحياء أَشباح الثّمانينيات.. كأننا نحتاج إلى تَذكيرٍ بأن الأَمل كان ممكنًا.. وفي المقابل.. تخرج من زوايا الإنترنتِ أَصوات شابة.. تخلعُ ثياب التابوهات.. تكتب بلغة الجسد.. لغة الغضب.. لغة الألم..
مستقبل.. يرسمه الجياع!
التوقعات تشبه سحابة ممطرة تحت سقف غرفة.. ترى فيها ما تريد.. العلماء يحذرون.. الموج الحار سيجلد الأرض.. الذكاء الاصطناعي سيسرق أَرواح الوظائف.. والحروب السيبرانية ستكون أَشرس من سابقاتها.. لكن الشعوبَ التي تعرِف طعم الموت.. تضحك.. تزرع بذورًا في فمِ العاصفة.. تمسك بخيوط الضوء البعيدة.. لأنها تعرف.. أن الفجر يأتي دائما.. بِلا استئذانٍ.. هكذا تسيرُ الحياة.. قِطعة مِدن سكر تذوب في فم الزمن.. نشربها.. نشتم مرارتها.. نكررها.. حتى نتعلم.. أن التاريخ ليس سوى كِتاب.. نكتبه نحن.. بِلعاب أَحلامنا.. ودم أَخطائنا..
العالم يتدي جلد ثورٍ هائج.. ينزعه البعض ليصنع مزمارًا.. والبعض يخيطه سترًا لشتاء قادم.. ففي أوكرانيا.. تشرب الأرض دما وصقيعًا.. تتقلب كجسدٍ بلا جلدةٍ.. وفي ساحات أمريكا.. تصرخ الأجنة في بطون أمهاتها.. تسأل: "هل سيولد الحب قبلنا؟".. أوروبا العجوز تلعق جراحها.. ترى في مياهِ نهر الدانوب انعكاس أحذيةٍ عسكريةٍ.. تَخشى أنْ تكون لجيرانها.. لكنها تمسكُ بِمظلة اليورو.. تختبئ من مطر الماضي.. الشارع الفرنسي يشبه الآن رِئة مثقوبة.. يصعد الدخان من أفواه الثائرين.. شباب يرفضون أن يكبروا في عالمٍ يشبه غرفة انتظار.. يبحثون عن بصمة أمل في قطعة قماش محترقة.. وفي جنوب الكرة الأرضية.. تمسك نساءُ الأرجنتين بِمشط الحرية.. يسرحن شعر التاريخ المتشابك.. يقلن: "كفى.. لن نكون حبرًا في هامشِ الكُتبِ"..
صرخة في وجه الزمنِ..
مهرجانات السينما تخجل من أضواء المسدسات.. تغلق عينيها.. تفر إلى أفلامِ السبعينيات.. كأنها تقول: "هذا المكان كان يضحك قبل أن نولد".. لكن الأغاني تخرج من شرفات تيك توك.. ألحان تطحن سكرَ الحزن.. فتيات يرسمن غضبهن بِألوان أظافر.. شباب يكتبون وحي الموت بلغة الميمز..
مستقبل.. يرقص على الحبال!
التكنولوجيا تنزع جلدةَ البشر.. تصنع منا كائنات هجينة.. نحمل أدمغتنا في سحابة.. نبيع ضحكاتنا لخوارزميات..المناخ يصرخ.. يطلب دفن أظافرِه في جسد الأرض.. العلماء يخترعون بذورًا تنمو في المريخ.. والأُمهات تعلمن أطفالهن كيف يتنفسون خلال الكوارث..
العالم مثل رِواية مفتوحة.. كل فصلٍ يجلس على كرسي إعدامٍ.. لكن الحياة تكتب نفسها دائمًا.. بخط يختلط فيهِ العرق بالحبر.. في الأحياءِ الفقيرة.. تسمع صوت طفل يبيعُ العلك.. يقول: "خذ لعبة.. اِدفع بسمة".. هُنا.. حيث تختفي الأرقام.. تبدأ الحقيقة..
وتبقى الكلمة الأخيرة للريح.. تحملها.. تلقيها في فم الغد.. كبذرة.. أو كدمعة.
***
د. عبد السلام فاروق