أقلام ثقافية

حفيف النخيل (2): عراجين قادمة من السماء

فجأت خرج أهل الواحة من حالة الخمول التي كانوا عليها طيلة الأسابيع الأخيرة من فصل الصيف، ففي الليل ينامون على هبات ونسمات الهواء البارد، وفي النهار يفتشون عن الظل ويقصدونه من مكان إلى آخر، من تحت سور يحجب أشعة الشمس في الصباح إلى سور آخر يحجبها في المساء، ومن تحت ظل شجرة إلى أخرى، ومن قبو أو درب إلى آخر، الكثير يعوض ما فاته من النوم بالليل، والبعض الآخر يقضي جزءا كبيرا من وقت النهار في ظَفْرِ سعف النخيل بعضه ببعض، وتحويله إلى بساط بعرض أربع أو خمس سنتمترات وبطول أمتار متعددة... وبعدها يتم خياطة جنباته بعضها ببعض، بشكل دائري يتحول بعدها إلى قفف كبيرة أو صغيرة الحجم... البعض الآخر يستبدل ظَفْرَ سعف النخيل بِظَفْر ولفِّ شرائح القصب بعضها ببعض، والتفنن في صناعة سلال متنوعة الأشكال والأحجام، وقد يلجأ إليها من أجل تخزين بعض أنواع التمور وغيرها.
ترك جل الناس ما بيدهم، وانخرطوا في جني التمور، وهم يتقفَّون أثر نضجها تباعا، يوما بعد يوم، وأسبوعا بعد آخر، فبعد صلاة الصبح من كل يوم وقبل شروق الشمس، تجد النِّسوة قد انتهت من طهي شربة الصباح "الحريرة البيضاء" المكونة من دقيق الشعير، فبعد تناول شربة الحريرة، يتجه جل أفراد الأسرة نحو هذا الحقل أو ذاك، لجني تماره، التي استوت ولم تعد تتحمل البقاء وهي معلقة من بين جريد النخيل، وقد تتساقط بشكل تلقائي بفعل هبة برد خفيفة، أما إن باغتتها رياح عابرة فقد يتساقط الكثير منها على الأرض، وهي فرصة ثمينة للنمل والفئران والقنافد والخنافيس والحشرات... لتسعد بقوت يومها وقوت غدها، أما الطيور فهي تختار ما تريد من حبات التمر من الأعلى بالرغم من أن أشواك النخيل تحيل بينها وبين ما تشتهيه، النمل والفئران... يقبلون بنهم على بعض أنواع التمور، بينما لا يولون اهتماما لأنواع أخرى... أهل الواحة لديهم خبرة، بمعرفة أنواع التمور التي يقبل عليها النمل دون غيرها، والتمور التي يفضلها الفئران... إلى درجة أنهم يلقبون بعض أنواع التمور بأسماء بعض الكائنات، ولا شك أن الخريف ووفرة تماره وتعدد أنواعها وأشكالها، قد تجذب كل المخلوقات الطائرة والزاحفة والتي تمشي على أربع، فليس من الغريب أن تجد كلاب وقطط الواحة وهي تقبل على أكل بعض أنواع التمور...
وأنت تعبر وسط الواحة من حقل إلى آخر، وفي طريقك بين الحين والآخر تصادف الدابة الواحدة أو الإثنين إن لم تكن ثلاثة دواب وهي تتمايل، لعبء ما يثقل ظهورها من زنابيل1 ممتلئة بالتمر عن آخرها، وقد يبادرك صاحبها بجملة معهودة طيلة أيام الخريف، وهو يدعوك وليحُّ عليك بأن تأخذ وجبة طعامك من نوعية التمر من وسط الزبيل على ظهر الدابة، البعض يقبل على قبول الدعوة، والبعض الآخر "يكتفي بالقول خير وبركة"، والغريب في الأمر في حالة الذين لبو الدعوة بالقبول، أن الدابة تتوقف عن المسير، وهم يقتربون نحوها، فهي لا تمانع أن تمتد يدك إلى وسط حمولة الزنبيل، لتقع عينك على حبات التمر و بعدها يسيل لعابك وتجذب شهيتك... الدابة (حمار أو بغل) تحرك أذنيها وتهز برأسها الى الأعلى، وتمنحك الفرصة والوقت الكافي لتنتقي ما تريد من حيات التمر، قليلة هي الدواب التي تمانع ولا تتوقف، لتلبي استجابة الدعوة.
عملية قطعِ العراجين أحيانا تكون سهلة جدا، لكن بعض العراجين ليس بالسهل قطعها، فهي تمانع وتدافع عن نفسها بما لا يخطر على ذهن بشر، البعض من الناس يرى في جني تمار الأشجار، مسألة سهلة المنال، فالشجرة ليست لها قرون لتنطحك بها، الشجرة ثابتة في مكانها وليس لها هروب...لكن واقع الحال أن الأشجار لها طرقها التي تدافع من خلالها على احتضان تمارها، إذ تخبئها بين الأشواك وبين مختلف الفروع والأغصان في علو شاهق...لا فرق إذن؛ بين من له خبرة في ذبح العجول والأبقار أو ترويض الفرسان، وبين من له خبرة جني تمار شجرة من الأشجار.
تصور نفسك الآن، وأنت على رأس نخلة يتجاوز علوها أربعة عشر مترا. وأنت تتشبث بجريدها، وهو يتمايل بك ذات اليمين وذات الشمال، وكل همك أن تتوفق في الإمساك بعرجون التمر، إذا تراه بالقرب منك، بينك وبينه بضع من جريد النخلة، وهو يحاصرك بأشواكه الذي يشبه الابر والمسامير... تحتاط كثيرا ألا تكون ضحية شوكة منفلتة لا تحسب لها حساب، وقد أبصرتك وأنت لم تبصرها، رأسها الحاد مصوب في اتجاه باطن قدمك وأنت حافي القدمين، إن وقع جسد على باطن القدم ستنفذ الشوكة إلى الداخل وتحس حينها بالألم، ستسحب قدمك بخفة لكن الشوكة ستصحبها معك، وأنت تحس بألم وخزها في باطن قدمك، والمفارقة هنا أن باطن أقدام معظم أهل الفلاحة البارعين في صعود النخيل، تكون خشنة بشكل ملفت للنظر، نتيجة ترسُّب طبقات من الجلد الميت الذي فقد الإحساس، إلى درجة أن البعض من الرجال من هذا النوع يدوس بقدمه عقرب ولا تنفذ شوكتها المسمومة إلى طبقة اللحم الحي. وبالرغم من كل هذا فشوكة النخيل التي لم يحسب لها حساب قد تنفذ إلى الأعماق... ربما أن أهل الواحة لوحدهم على علم بأن العراجين تحتمي بالجريد وسعفه وأشواكه، والحقيقة أن النخلة هي التي تحمي تمارها بكل ما لها من قوة. بلوغ هذا العرجون بالذات سارت أكثر صعوبة، ها أنت تتوقف للحظات، لتسترجع أنفاسك وأنت متمسك الجريد، وهو يمنحك ثقة وأمانا، وأنت تحتاط كل الاحتياط من الانزلاق والسقوط في الفراغ، الذي يأخذك إلى الهاوية.
تتمثل في ذهنك تلك اللحظة القريبة منك والقريب منها، التي تضع فيها المنجل الطويل بإحكام، على وريد العرجون المتفرع من رأس النخلة، تسمي الله، وأنت على يقين بأن وريد العرجون لا يشبه وريد الخروف في شيء، العرجون لا يمكن له أن ينتفض أمام حركة جزِّ المنجل، مثل الخروف، لكن عملية القطع والفصل والجزِّ والذبح... تفضي إلى نفس النتيجة، عندما تجزُّ العرجون في صمت يسيل منه قليل من الندى تخليدا لذلك الحدث... حدث الانتقال من عالم إلى عالم آخر، حدث الإعلان عن نهاية دورة طبيعية وبداية أخرى... أنت الآن تستحضر كل براعة جسدك وتلتوي مثل الافعى بين جريد وآخر. تحدِّق في العرجون بعينيك ويخيل إليك أنه هو الآخر يحدِّق فيك... ترفعه إلى الأعلى وتفصله عن الجريد وتلقي به إلى الأسفل وتحاول أن يأتي وسط البساط، الذي بسطه أفراد الأسرة ومن معهم من الأصحاب، كي لا يعفر التمر بالتراب، وهم بالقرب من البساط المفروش على الأرض، وأبصارهم مشدودة إلى الأعلى وهم ينظرون إليك من الأسفل نظرة يغلب عليها الترقُّب... وعندما تلقي بالعرجون من الأعلى، تصاحبه أبصارهم حتى اللحظة التي يلتطم بها على الأرض فوق كومة العراجين، وهو يخلف صدى كبيرا يتردد في أرجاء المكان، ومن خلال صدى العراجين المتتابع، يعرف البعض ببديهتهم التي اكتسبوها مع الزمن، مكان النخلة أو النخيل في الحقل الذي تُجنى تماره.
عندما تضع رجلك على الأرض معلنا نجاح رحلتك هذه نحو السماء صعودا ونزولا، يبادرك البعض بالقول "على سلامتك" كأنك عدت من رحلة سفر غير مدروسة العواقب، أو كأنك عدت بزورقك الصغير من البحر إلى اليابسة بعد فترة وجيزة، ولا أحد يعرف كيف ستكون عواقب موج البحر...ها أنت الآن تنخرط مع الجماعة في حلقة حول كومة العراجين، وأنتم في عملية فكِّ ما تبقى من حبات التمر العالقة بها، والآخرون منهمكون في التقاط حبات التمر المبعثرة، هناك وهناك في كل جوانب النخلة الواحدة أو النخلات الثلاثة المتفرعة عن الجذع الواحد... وهم يملؤون القفة بعد القفة، والبعض الآخر منهمك في إفراغ القفف وسط الزنابيل من أعلى ظهور الدواب، وهي في طريقها إلى القصبة ذهابا وإيابا.
... يتبع ...
***
بقلم: د. أحمد صابر
كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.
...................
1- الزَّنْبيلِ: الجمع، زَنابيلُ وهو القُفَّةُ الكَبيرَةُ، الجِرابُ، الوِعاءُ، وهو على شكل مستطيل مفتوح من جهة واحدة، يوضع على ظهر الدابة، ويتم ملؤه ...

في المثقف اليوم