أقلام ثقافية

أحمد صابر: ذاكرة واحة (19): مَعْلم الضريح

يحضر التاريخ بسطوته العجائبية والأسطورية، في مختلف أرجاء الواحة الواسعة والممتدة الأطراف، ليس كأحداث ووقائع من ورائها أسباب موضوعية، ولكن كتصورات وحكي شعبي مفارق في كثير من تفاصيله لسنن الحياة والمجتمع، وهو حكي تعددت وتشعبت رواياته وقد ارتبط في جزء كبير منه بمختلف الأولياء والأضرحة...فالبعض منهم يتم تخليد ذكراهم بشكل موسمي إذ يقصد أهل الواحة ضريحه في موعد محدَّد، وهم محمَّلين بمختلف الهدايا والعطايا التي تليق بمقام صاحب الضريح وأهله، تدور مواعيد مختلف المواسم مع دوران السنة الهجرية، على مختلف فصول السنة الأربعة، فهي قد تصادف فصلي الربيع والشتاء حينا وقد تصادف فصلي الخريف والصيف حينا آخر... وقد يكون الإقبال كبيرا في فصل الصيف بالمقارنة مع مختلف الفصول الأخرى، لأن أهل الواحة في الصيف يكون لديهم متسع من الوقت، إذ تجدهم تخفّفوا من مختلف تبعات فلاحة حقولهم بعد دَرْسِ زروعهم، وتمار نخيلهم لا تنضج إلا بمطلع فصل الخريف، فالصيف بالنسبة لهم فرصة لقليل من الراحة والاستجمام، كما أن الحرَّ يجعلهم في حالة من الاسترخاء الذهني والجسدي، وهي حالة نفسية تحلو معها جلسات الشَّاي ونسج مختلف أشعار الزَّجل الشعبي والرقصات والغناء، كما تحلو معها جلسات الذكر والأذكار والرقصِ على طبول الحضرة الإلهية...

في أحد أيام الجمعة الموافقة لشهر ربيع الأول، بعد خطبة الصلاة التي أكد فيها الخطيب على ضرورة الإقبال على الخير وطهارة الأنفس من الشُّح، وقف الناس للصلاة داخل مقصورة[1] الجامع (المسجد)... سلم الفقيه وبدأ المصلين يخرجون من المَقْصُورَة في اتجاه باحة المسجد التي تأخذهم إلى الزقاق الرئيسي داخل القصبة، في هذه الأثناء بقي الشيخ علي متكئا على أحد سَوارِ[2] المسجد المقوسة من الأعلى والمشتبكة في الوقت ذاته مع بقية السَّوارِ، فالمسجد كما هو معتاد فضاء لمن اختار ليعتكف فيه لوقت طويل أو قصير، أخرج الشيخ علي، سبحته، وقد اعتاد أن يضعه بين ثنايا عمامته المكوَّرة على رأسه، ومن الغريب أنه هو لوحده في القرية من بين الشيوخ الذي يخبئ سبحته بين ثنايا عمامته، وحتى يسهل عليه هذا الأمر أحدث لنفسه سبحة صغيرة من حيث حباتها عددا وحجما، إلى درجة أنه يمكن له أن يخفيها داخل قبضة يده، وهو بطريقته هذه، يكون قد خالف جميع شيوخ الواحة، وهم يحملون معهم سُبَحَهُم الكثيرة عدد الحبات والسميكة الحجم، والبعض منهم يجعل منها قلادة على صدره، وهي حالة يستنكرِهَا الشيخ علي، ويرى فيها صورة للرياء، كما يرى أن القلادة تخص النساء من أجل الزينة...

ها هو يبدوا من  السَّارية في هيأة وقار وخشوع،  يمرر حبات سبحته الصغيرة بين أصابعه، وإذا بمُقَدَّم[3] أحد الطرق الصوفية المشهورة بين الناس، يتجه نحو ويجلس بالقرب منه، وقد دخلا الرجلان دردشة كلام، وقد أخبر المُقَدَّم الشيخ عي  بأن يستعد كالمعتاد، من كل عام إلى رحلة قد تستمر يومين وثلاثة أيام، بقصد الوفاء بالزيارة والحضور في الموسم الكبير، الذي يقام بجوار ضريح أحد الأولياء، في اليوم الثاني عشر من شهر ربيع الأول من كل عام، وهو يوم يوافق المولد النبوي، وقد تشدُّ إليه الرحال من كل مكان بعيد أو قريب... فالزيارة مزدوجة المقاصد مقصد فيه احياء لذكرى الرسول الأعظم، ومقصد آخر فيه احياء لذكرى الولي الصالح، وقد عرف عنه تعلقه في مختلف خلواته بذكر الرسول الأعظم، ووفق هذين المقصدين حظي الموسم بمكانة كبير في أنفس، الجميع فهو ملتقى كبيرا لكل أهل الواحة...

قبل غروب شمس ذلك المساء حطت بالساحة الأمامية المقابلة للباب الرئيسي من الجهة الداخلية للقصبة، قافلة صغيرة من الدواب، وهي محملة بمختلف مستلزمات الإقامة لوقت ليس بالطويل...شعير وعسل وشاي وخضر مجففة وفول وعدس وتمر وحطب وفحم...شرعت الجماعة وبعضهم يساعد البعض الآخر، بسحب مختلف الحمولات من على ظهور الدواب، لكي تستريح وتجلب قسطا آخرا من الطاقة، يمكنها في اليوم المقبل لتستمر في طريقها وقد أوشكت على الوصول إلى الهدف، فلم يتبقى أمامها إلا مسيرة يومين فقط أو ثلاثة على الأكثر.

الوافدون ذوي الجلاليب الواسعة ويحبون أن ينعتوا بالفقراء[4]، اتجهوا نحو ميْضأة الجامع، وقد جلبوا ما يكفيهم من الماء من قعر بئره، فمنهم من اكتفى بالوضوء، والبعض الآخر، أقبل على الاستحمام في غرف صغيرة بالقرب من مكان تدفئة الماء، إذ يسكب وسط سَطلةٍ كبيرة من نحاس معلقة إلى الأعلى في سلسلة حديدية، منسدلة من السقف، ويأتي أسفل منها موقد النار وهي تسع خمسون لتر من الماء... بعد صلاة المغرب والعشاء اتجهوا وقد رافقهم الشيخ علي نحو سطح أحد الدور المعروفة التي اتخذتها أحد الطرق الصوفية مقرا لها، ووجدوا في استقبالهم وفدا من كبار القوم، وقد تبادلوا السلام وتصافحوا فيما بينهم، واستغرقهم كثير من الوقت حول طبيعة الطريق وما واجههم من صعاب، وقد تبادلوا مختلف الأخبار حول الواحة وأهلها وما حلَّ بها، من بأس شديد، نتيجة اتساع تقدُّم عساكر الفرنسيين في كل مكان وما صاحب ذلك من مقاومة وتضحية بالأرواح...

بعد صلاة الفجر انضم الشيخ علي ومجموعة من أصحابه إلى القافلة، ويتقدمهم مُقَدَّمٌ الطريقة، وهو يحمل راية باللون الأخضر، ترمز إلى أنهم وفد استجابة دعوة وزيارة... زيارة من؟ ودعوة من؟ زيارة معلم تعاهد النَّاس أن يلتقوا بجانبه مرة من كل عام، منذ زمن بعيد إنه، معلم الضريح، وهم يجددون كل عام بجواره العهد بأن يَغْمِدوا سيوفهم، ويحذروا كل الحذر بأن لا يعودوا لفعلتهم، البئيسة باتباعهم خطوات الشيطان، بسفك دماء بعضهم بعضا. إنها زيارة للحظة ونقطة عابرة من تاريخهم الممتد، يتذكرون من خلالها العهد عهد الإخاء... دعوة منهم وإليهم، إنها دعوة كل عابري سبيل، دعوة لا تستثني أحدا دون أحد، دعوة لا تلوم من اعتذر، ولا تقدِّم من حضر على من كان من حظه الغياب... قبل انطلاق قافلتهم ذلك الصباح وكما هو معتاد أنشدوا في لحن جماعي ورد دعائهم ومفاده:

يـا مَـنْ إِلـَى رَحْمـتِـهِ الْمفَرُّ

وَمَـنْ إِلَـيْـهِ يَـلْجَـأُ المُضْطَرُّ

وَيَـا قَـرِيـبَ الْعَـفْوِ يَا مَوْلاَهُ

وَيَـا مُغِـيـثَ كُـلِّ مَـنْ دَعَاهُ

بِـكَ اسْـتَغَثْنَا يَا مُغِيثَ الضُّعَفـَا

فَحَسْـبُـنَا يَـا رَبِّ أَنْتَ وَكَفَى

فَـلاَ أَجَـلَّ مِـنْ عَظِيـمِ قُدْرَتِك

وَلاَ أَعَـزَّ مِنْ عَـزِيزِ سَطْوَتِك

لِعِـزِّ مُـلْكِـكَ الْمُلُوكُ تَـخْضَعُ[6]

***

وصلت القافلة معلم الضريح قبل غروب الشمس من اليوم الثالث، عندما انضم إليها الشيخ علي وأصحابه، ووجدت في استقبالها وفود من سبقوا إلى عين المكان، اخترقت دوابهم بعض الخيام وقد أشير عليهم بتوجيههم نحو المكان الذي ستكون فيه خيمتهم، بالقرب من مختلف الخيام التي كان همُّ أصحابها، هو الحضرة الإلهية، فهناك خيام أخرى للباعة والتجار وأخرى لمن يهوى الزجل والحكم... وأخرى لكثير من الأسرة التي تحضر بشكل جماعي رجالا ونساء وأطفالا، نتيجة قربها من المكان، و خيم أخرى لأناس يعترضون الزائرين، وهم يقومون بطقوس، أقرب إلى الحمق والجنون...معلم الضريح ولطول فترة الارتباط به، نسجت حوله الكثير من الطقوس والعادات وقد اختلط الكثير منها بأشياء غريبة ضاربة في القدم... وبالرغم من كل هذا فالحضرة هي المركز الذي يتمركز حوله الموسم، وبدونها، سينفك وينتهي ويزول، وهي تستمر لثلاثة أيام... والغريب أن الحضرة نفسها قد اختلطت بشتى الطقوس والأعراف...ولم تعد كما كانت...

داخل الحضرة تتشابك أيدي الفقراء شيوخ وكهول وهم في حلقة دائرية تدور حول نفسها وتتوسطها أعلام كبيرة ذات ألوان براقة بالأخضر الأحمر...دائرة الفقراء التي تدور حول نفسها وهي تذْكر اسم الجلالة، ترمز إلى الوجود وتسبيحه وحركته في اتجاه الله. بينما مركز الدائرة يرمز للواحد الأحد فهو مصدر كل حركة فلا حركة ولا سكون إلا بإذنه.... يرفع الفقراء أصواتهم بشكل عالي عند بلوغهم درجة الخشوع وهم في حالة انحناء واستواء وأيديهم المتشابكة مرة إلى الأمام ومرة إلى الوراء. وهم حافي القدمين. والعمائم مكورة فوق الرؤوس. والجلابين بأكمامها الواسعة. منها ما هو أكثر بياضا ومنها ما هو أقل...

طقوس الحضرة تقام على التراب مباشرة فهو أصل الإنسان واليه يعود، من الفقراء من يدخل في حالة نفسية لا يعلمها إلا هو... حالة من التماهي مع لاَّ متناهي والانفصال عن عالم الواقع والحواس لوقت قصير... بعدها يعود لحالته الطبيعية... الفقراء يعرفون بعضهم بعضا ويعرفون أصحاب الحَالْ، ممن تدخلون في حالة نفسية شبه لا شعورية، ويولونهم اهتماما كبيرا، الكل يشترك في حالة مجمع الحضرة لكن الأحوال تختلف من حال إلى حال... يكثر الفقراء في الذكر على إيقاع طبول صغيرة (لا إله إلا الله لا إله إلا الله... جلالة جلالة يرحمنا مولانا...)

تتخلل حلقات الذكر، صيغ لغوية تعكس واقع النَّاس ومعاشهم، من بينها قولهم (جَلالة تَحْلى بالعِيشْ[7] والقدِّيد[8] معها) كناية عن الطعام الذي يجتمع حوله الفقراء على طول ثلاثة أيام من أيام حضرتهم الإلهية، إذ تبدأ طقوسها المفتوحة والعلنية بعد صلاة العصر حتى أذان المغرب. ومن المعروف أن الوفود القادمة للزيارة تأتي محملة بكل ما يلزم من القدِّيد، وهو لحم مجفّف يأخذ من أضحية عيد الأضحى...

يختتم مجمع الجلالة في اليوم الثالث... بالدعاء الذي يستمر لوقت طويل، يتوسطه كبار الشيوخ، ويدور حوله في دائرة كبيرة متَّسعة جموع الفقراء، ومن ورائهم عموم الناس،  وبين الحين والآخر يتقدم من يترجى عودة مسافر بعيد، أو من يترجى شفاء مريض، أو من يترجى بشرى ولادة صبي... وينادي المنادي وهو يبيع بثمن زهيد وبسيط الكثير من نواة التَّمر الذي أكله الفقراء ( من كانت نيته في حاجة لتقضا له... عند دار الضمانة تقضى له) أمر غريب أن تجد الناس يقبلون بشغف على شراء نواة التمر، تيمنا باسم الجلالة الذي ملأ الأفواه التي أكلت التمر واخرجت النواة بعده... عندما تختتم الحضرة الإلهية طقوسها، ينفك المجمع، وتأخذ الوفود طريق العودة يمينا ويسارا، وكلما مرت على قصبة أو قصر إلا  وتخلى البعض عنها وهكذا تتفكك وهي في طريق عودتها...

الكثير من الفقراء لا يعرفون إلا الذكر فقط، لا علم لهم بالواقع، ولا معرفة عندهم بمختلف العلوم...لا شيء في أذهانهم إلا الأذكار...والسواد الأعظم من الحاضرين للموسم...لا شيء بين يديهم حتى الأذكار لا قبل لهم بها... مجتمع يعيش زمنا غير الزمن الذي فيه، لا علم له ببزوغ شمس حضارة أخرى سار فيها العلم غير مفهوم العلم الذي يعرف، وسار فيها الإنسان غير الإنسان الذي يعرف، وسار فيها الاجتماع غير الاجتماع الذي يعرف...

فرق كبير بين مجتمع العلم والسؤال والنظر والتسليم واليقين بعد الخبرة والبحث، وبين مجتمع هجر السؤال وتخلى عن النظر وسار التسليم واليقين له مشاعا لكل شيء...حتى معلم الضريح تحول إلى طقس...طقس من أجل الطقس ذاته...أذكار تحولت إلى لغة وشطحات تهزُّ حالة النفس والقلب دون أن تصحب معها حالة العقل...لم يخطر ببال الفقراء قدوم رياح زمن آخر، يختلف جذريا عن الزمن الذي هم فيه... ولم يخطر ببالهم بأن مختلف طقوسهم ستندثر وتزول... وبأن معلم الضريح قد استنفد دوره وتجاوزه الزمن...

... يتبع ...

***

بقلم: د. أحمد صابر

كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.

[1] المَقْصُورَةُ: الحجرة الواسعة الكبيرة المخصصة للصلاة...

[2] سوار: الأعمدة التي ترفع البيت إلى الأعلى وجمع السارية سوار، وتطلق أيضا على عمود من الخشب ينصب عليه الشراع.

[3]  مُقَدَّمٌ: وجمعها الْمَقَادِيمُ هو سالك صوفي ما بين درجة المريد ومرتبة الشيخ في الطرق الصوفية والزوايا، والمُقَدَّمُ رتبة من رتب الصّوفيَّة.

[4]  الفقير عند المتصوفة، هو الزاهد الذي تعهد على نفسه الفقر والعبادة، ونبذ التعلق والاهتمام بجميع العلاقات والممتلكات، يُعتقد أن الفقير مكتفٍ ذاتيًا ويمتلك فقط الحاجة الروحية لله، يتميز الفقير بتعلقه بالذكر...

[5] الدعاء من تأليف محمد بن ناصر الدرعي المغربي (توفي 1674م) وهو فقيه ولغوي وجامع كتب مغربي، وهو من الشخصيات الأكثر تأثيرا في مسار التصوف المغربي، يعود له الفضل في ترسيخ المكانة العلمية لزاوية تمكروت بالجنوب الشرقي من المغرب بعد توليه أمرها سنة (1642 م). الدعاء اشتهر بالدعاء الناصري ويسميه أهل مدينة فاس «سيف ابن ناصر». الدعاء على الرابط:

https://www.nafahat-tarik.com/2020/03/Doaa-Naciri.html

[6]  العِيشْ أو كُسكُس: طَعَامٌ يُحَضَّرُ مِنْ دَقِيقِ القَمْحِ وَالْمَاءِ فَيَصِيرُ حَبَّاتٍ دَقِيقَةً، يُنْضَجُ فِي الكَسْكَاسِ عَلَى البُخَار، وَيُصَبُّ عَلَيْهِ الْمَرَقُ وَاللَّحْمُ وَمُخْتَلِفُ أَنْوَاعِ الْخُضَرِ

[7]  القدِّيد: اللحم المجفَّف

 

في المثقف اليوم