أقلام ثقافية
أحمد صابر: ذاكرة واحة (12): سباق الحمير
تشهد الواحة في مختلف أرجائها، طيلة أيام الحصاد في الصباح الباكر وقبل الغروب، حركة منقطعة النظير، مصحوبة بأشعار وأهازيج على إيقاع المناجل المسننة الحادة، منها الدائرية الشكل والمعكوفة الرأس التي لا ترحم جذوع الزرع وهي تقطعها وتجزُّ من أسفلها. إن شرد ذهنك وذهب بعيدا، وفقدت التوازن بين لحظة الإمساك بقبضة جذوع الزرع ولحظة سحب المنجل إلى الوراء، فقد تمتد أسنان المنجل وتخبش أصابعك من أسفل قبضة يدك دون شفقة، المنجل لا يعرف حركة أخرى دون القطع فهو لا يستأمن شره...
بعد موسم الحصاد، يتغير وجه الواحة وتأخذ شكلا آخر، وتتحول حقول الزرع إلى مجال فارغ مكشوف بزوال الزرع الذي يحجب مختلف معالمه، المسالك والطروقات التي تبدوا ضيقة ولا تتحمل مرور الكثير من المارة أصبحت متسعة الآن، وبعضها أصبح مهجورا، وقد استبدلها المارة بمسالك أخرى تخترق الحقول بعد أن تخلصت من زروعها، جنبات النخيل من الأسفل سارت مكشوفة، والذين تعودوا على الاختباء من وراء جذوعها بين الزرع ليسترقوا السمع للمارة وهم يتحدثون فيما بينهم، لم يعد بإمكانهم ذلك. الواحة الآن في دورة طبيعية جديدة وقد تحررت من زروعها، كما تتحرر النعاج من صوفها في هذا الوقت بالذات، فمع حرارة الصيف يقبل أهل الماشية من ملاك المواشي على قص صوف نعاجهم وشعر ماعزهم، فلا حاجة لها به مع قدوم حرِّ الصيف.
مختلف البيادر تنتظر وصول الزرع القليل منه أو الكثير، وقد شرعت النسوة في تنظيف بيادر أسرها، بإبعاد الحصى والرمل والحجارة... البيدر ينبغي أن تكون أرضيته صلبة بما فيه الكفاية، لكي تتحمل حوافر الحمير والغال، اعتاد أهل الواحة أن يتخذوا من الساحات المقابلة لقصبات الواحة وقصورها مساحة لبيادرهم، ليسهل عليهم حراستها ويسهل عليهم التردد منها وإلى بيوتهم، كل أسرة تعرف مكان بيدرها داخل الساحة وتعرف جيرانها...
ها هي القصبة الآن من الربوة العالية تطل من جهة من على جريد النخل، ومن الجهة المحاذية للسفح تطل على البيادر الممتلئة بالزروع وهي تنتظر قدرها المحتوم، إنه قدر الحوافر في حركة طواف دائرية حول عمود خشبي يتوسط البيدر، والحبل المربوط إلى العمودي الخشبي يقبض على رقاب الدواب، ليجعل منها صفا متماسكا، يطوف فوق الزروع، وهي تدهس جذوعه، وقد تستمر هذه العملية لخمس ساعات أو أكثر...الرجال والأطفال والنساء متحلقون حول دائرة الدواب التي لا تتوقف عن الدوران وأحد الرجال أو الشباب يجري من ورائها ويحفزها على الحركة والمسير أكثر. الأطفال ينتظرون بشوق لحظة انتهاء مهمة الدواب، وتوقفها وفك الحبل من رقابها، للفوز بلحظة الركوب على ظهورها، والجري بها في سباق جماعي في اتجاه الساقية الرئيسة للواحة، لتروي عطشها، وقد تعرقت كثيرا وهي تحت حرارة شمس الصيف الحارقة، والغريب أن السباق يكون سريعا بالرغم من أن الدواب قد فرَّغت كل طاقتها في الدوران حول نقطة واحدة، ربما أنها تعبر عن استرجاع حريتها التي سلبت منها لبعض من الوقت، ربما أن العطش اشتد عليها وهي تتسابق نحو الماء، ربما أنها تستجيب لأحلام الأطفال البسيطة التي تجاوزها الكبار...
يا للغرابة ما معنى أن تبقى أكثر من خمس ساعات، تحت الشمس، إلى جانب البيدر، واقفا حينا وجالسا حينا آخر، والدواب تدور أمامك، وغبار جذوع الزرع يتطاير إلى الأعلى ويأتي في الأخير على رأسك وجسدك، بين الحين والآخر تفرك أعينك، وقد تسرب إلى داخلها الغبار، قميصك الأسود أو الأزرق اللون أخذ لونا آخر من الغبار، لا تهدأ من حك جلدك، وهو يدعوك لتزيل عنه الغبار الذي أثقل عليه... وأنت في شدٍّ وجذب بين أقرانك، بأنك أنت الأولى لتمتطي الدابة السوداء اللون طويلة الأذنين، سريعة الجري، أو لطيفة المعاملة، أو جميلة المنظر... والغريب أنك تركب دابة أسرتك كل يوم.
أحلام أطفال الواحة، أحلام بسطة، ولكنها هادفة، فهناك أمر لا يعبر عنه الأطفال وهو تعاطفهم الكبير مع الدواب وهي في محنتها تدور لساعات حول نقطة واحدة، البعض منهم يتساءل، لماذا الدواب تكلف نفسها وتقوم بكل هذا الجهد من أجل قوتنا نحن البشر... عندما تمرض دابة ما أو تصاب بكسر في أحد أرجلها، لا أحد يتعاطف معها، إلا الأطفال ومنهم من يتأثر بذلك ويجهش بالبكاء...مع الكبار الأمر مختلف، فهم يقيِّمون الأمر بخسارة مادية لا غير. أهم ما يكافئ به الأطفال الدواب هو أخذها إلى الماء لتروي عطشها، وقد يلحون عليها لتشرب كثيرا، من اعترضت دابته عن الشرب يجد حرجا بين أقرانه، وبعد أن تروي الدواب عطشها يأخذها الأطفال جريا في اتجاهات مختلفة إلى مرابطها المتفرقة هنا وهناك داخل القصبة.
متعة سباق الحمير متعة لا شبيه لها، ما بعد غروب الشمس طيلة أيام "الدِّرَاس" وأنت على ظهر دابة لا تلقي لك بالا، وفي غفلة منك تقفز إلى الأعلى بأرجلها من الوراء، وتكرّر القفز بشكل متتابع لتتخلص منك، وقد مددت أرجلك على جنبات ظهرها وألصقتها بالقرب من فخذيها، و انحنيت على بطنك إلى الأمام ، ومددت كلا يديك على جنبات ظهرها في اتجاه بطنها، وتمسكت جيدا بشعر ظهرها، في حالة تشبه تمسُّك جرادة بجنبات غصن تميل به الرياح في كل اتجاه، الدابة تقفز بأرجلها من الوراء إلى الأعلى وأنت ملتصق بظهرها...في الأخير تستسلم الدابة وتعود إلى الجري... الرهان ليس لد دائما، قد تفلح الدابة في التخلص من جسدك النحيف، وتجد نفسك ملقى بك في الهواء لتأتي على الأرض ، وترفع رأسك وتبدوا لك الدابة هاربة من بعيد، وأحد أقرانك يلحق بها، وتجد وجهك معفر بالتراب، وقد تسلل بعض منه إلى داخل شفتي فمك، ولحسن حظك أن عظام جسدك كلها بخير، وأنت تتفقدها، والبعض من أقرانك إلى جانبك، يقول لك أنت بخير أنت بخير، حينها تعود إلى البيت دون أن تتم مهمتك التي تخليت عنها لأحد أقرانك... في اليوم الموالي تحرص على ركوب دابة أخرى دون التي ربحت الرهان وألقت بك من فوق ظهرها.
وأنت تجري وتدور من وراء دورة الدواب في البيدر، تشعر من دواخلك بأحاسيس لا تفكها الكلمات، إنها دورة الزمن دورة الحياة، كل شيء يتغير ويتحول من حال إلى حال، إلا المركز يبقى ثابتا كما هو في البدئ، جذوع الزرع قبل ساعات كانت متماسكة مع بعضها البعض، سارت الآن مستوية مع الأرض وقد انفصل بعضها عن بعض وهي الآن مهشمة بالكامل ولم ينجى منها إلا حبات الشعير أو القمح التي لازالت متماسكة... دورة الدواب في البيدر وأنت من ورائها تختصر اكتمال الدورة الطبيعية، دورة الحرث والزرع، وهي شبيهة برقصة الدرويش وهو يدور حول نفسه، ويطلق العنان لتأملاته بهدف الوصول إلى مرحلة الكمال، حيث الكمال لله وحده.
أهل الواحة يدفعون بأبنائهم لركون الحمير ما بعد الثامنة أو التاسعة من العمر، تدريبا لهم على الفروسية، ويؤذن لهم بركون ظهور البغال ما بعد الثالثة عشر من العمر، ليجدوا أنفسهم متمرنين في سن البلوغ على ركون ظهور الخيول بسروجها أو بدونها، وعندها يعول عليهم في الحروب دفاعا عن القبيلة وأهلها، ضد قبائل أخرى أو ضد هجوم محتمل من القبائل التي تجوب الصحراء، وتغدر أحيانا بهذه القبيلة أو تلك، لتستوي على ما بحوزتها من حبوب القمح أو الشعير...الفرسان هم المعول عليهم في صدِّ المعتدي والوقوف في وجهه، عندما تختفي السلطة المركزية للمخزن أو تضعف تتحول الواحة إلى حالة من التسيُّب والفوضى، فكل قبيلة تشرِّع لنفسها قوانين، على حساب القبائل الأخرى...القبائل الضعيفة تكون لقمة سائغة للقبائل القوية، وإذا بها تدخل تحت حمايتها...القبائل التي ترتحل في الصحراء في مختلف الاتجاهات الشاسعة التي تفصل بين مختلف الواحات، تفرض سيطرتها على مختلف القوافل التجارية، وبعدها يتسع نفودها وتهاجم مختلف القصور والقصبات في هذه الواحة أو تلك، وتدخل في مساومات مع هذه القبيلة أو تلك... أهل الواحة يعرفون جيدا معنى زمن التسيُّب والفوضى، وهو زمن يكرهونه كثيرا، إنه زمن النهب، القوي يأكل الضعيف، زمن يكون فيه القتل مشاع بين القبائل... حالة صورها الشاعر بقوله:
يَطُوفُ السَّحَابُ بدرعة كما يطوفُ الحجيج بالبيتِ الحَرَام/// تُريـدُ النُّزُولَ فلمْ تَسْتَطِـعْ لسفكِ الدِّمَاءِ وَأَكْلِ الحَــرَام
في حالة التسيُّب والفوضى، يكون أهل الواحة في مقدمة من ويبادر في بناء سلطة مركزية تعيد النظام داخل الواحات، وفي مجال الصحراء، وتضع حدا لظاهرة قطاع الطرق وقرصنة القوافل... وقد تتسع هذه السلطة وتنموا وتتحول إلى سلطة مخزنية للدولة بأكملها... فالتاريخ يخبرنا بأن الواحات كانت مهد ومنطلق الكثير من الدول.
الواحة وأهلها لم يتبقى لهم اليوم أي شيء، إلا ما يحفظه التاريخ من أمجاد ووقائع، اختفت البيادر واختفى معها سباق الحمير، اختفت القصبات والقصور، واختفت معها جلسات الكبار والصغار، اختفى الشعر والزجل والكلام المقفى والموزون... اختفت أشياء كثيرة منها الجميل والقبيح منها ما هو مفرح ومنها ما هو حزين وأليم، وقد حلت محلها أشياء مفرحة وجميلة ومنها ما هو ناقص وفارغ من الداخل...ويبقى أكبر حزن وألم يعيشه ويشعر به سكان الواحة طيلة يومهم، هذه الأيام، هي حالة احتضار النخيل وهو يرحل دون أن تقام له جنازة وتأبين...
... يتبع ...
***
بقلم: د. أحمد صابر
كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.