أقلام ثقافية
أحمد صابر: ذاكرة واحة (6): شواء السنابل
تبدوا السنابل من بعيد مستوية على سيقانها، الكثير منها منحنية الرأس، تميل يمينا ويسارا، مع نسمات الهواء العليل، وقد بدأت تتخلى عن اللون الأخضر وتستبدله باللون الأصفر، حباتها تبدوا ظاهرة المعالم تكاد تنسلخ عن قشرتها الصغيرة، بفعل امتلاء بطونها، وفي الصباح وعند الغروب تتحول إلى مرآة عاكسة لأشعة الشمس. أنت الآن وسط السنابل وهي تحيط بك يمينا ويسارا، وإذا بك تبسط كفك وتمرِّره من فوقها من الأعلى، وتحس بخشونة حسكها وسفاها، وهو شعيرات تحمي حباتها أن تكون لقمة سهلة المنال، أمام مناقير مختلف الطيور، الكبير منها والصغير، فالحسك والسفا يعلق في حلق من سولت له نفسه أن حبة القمح هذه سهلة المنال، فهو يتقوى ويزداد خشونة عندما تنضج السنابل وتمتلئ بطون حباتها. الدواب، الحمير منها والبغال والأحصنة لا تقبل على ذلك إن أتيحت لها الفرصة، فهي تحتاط كثيرا من أن يعلق حسك وسفا السنابل في أحْلاقها، ولا تتخلص منه إلا بمشقة التنحنح، بتَرَدّد صَوْتها فِي حَناجرها، بشكل مرتفع ومفاجئ، لوقت طويل، وقد تتجاوز هذه الحالة بشرب الماء والإقبال على أكل عشب أكثر ليونة. والعجيب أن الدواب تأخذ الدرس، إذ تجدها في المرة الموالية تأني على السنابل من سيقانها ومآزرها وتتجنب حباتها المليئة بالحسك والسفا.
تخلف بذرة حبة القمح أو الشعير الواحدة بضعة سيقان، تلتف حولها أوراق كالمآزر من كل جانب عند كل عقدة من الساق، وبعدها تخرج السنبلة الملفوفة وسط الساق من بين المآزر أي الأوراق، ظاهرة للعيان، فأول ما يظهر معها هو شَطْؤها أي حسكها أو سفاها، وعندما تكون السنبلة في هذه المرحلة المتقدمة من العمر، فهذا يعني أنها قريبة من أن تستوي على سيقانها، وهي على هذه الحال فحباتها فارغة وشَطْؤها لين بعض الشيء، وكلما امتلأت حباتها، إلا وخرج شَطْأها عاليا، وأخرج الساق مآزره وأبعدها عنه وبالأخص السفلية منها، وفي هذه الحالة العمرية تظهر حبات السنبلة بشكلها السميك أي الغليظ وهي مستوية على سيقانها بشكل بارز، وليس هناك وصف دقيق لهذه الحالة المتجددة في الطبيعة، التي يصاحبها الزراع طيلة المسم أكثر من هذه الآية قال تعالى: ﴿كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآَزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ﴾ (الفتح/29)
أهل الواحة يتباهون بزروهم، عندما تستوي على سيقانها، فمنهم من يضرب به المثل، ويقصده الناس لمعرفة السرّ الذي جعل سنابل حقوله مستوية ومثمرة. الكثير منهم يمتلكه التواضع ويفصح عن تجربته الناجحة، ويعمل على تعميمها على الآخرين، ولا يمانع إن قصده الزراع في الموسم القادم ليقترضهم بذور الزرع. والبعض منهم يملكه الغرور، ويظهر بين أهل الواحة بأنفة وثقة زائدة في النفس، ظنا منه أنه ملك قوت وطام عياله طيلة العام وزيادة، فحقول زرعه المستوية ستملأ بيت خزين الحبوب داخل داره، فهو لا يريد للزراع الآخرين مثله أن يستوي زرعهم كما استوى زرعه. وهو على هذه الحال، يتجنب أن يخوض في حديث حول الزرع والزراع، وعلى حذر أن يفك أحد شفرة لسانه ويبوح له بالسر من وراء استواء زرع حقله.
رجل من هذا النوع من الرجال، يظهر بأكثر من شخصية، في أيام الحرث والزرع يكون أكثر تواضعا، ويميل إلى مخالطة غيره من الزراع، ويجالسهم كثيرا، ويكثر الحديث حول بذور الزرع وأنواعها، ويسترق السمع من هنا وهناك، لمعرفة طبيعة البذور التي استقدمها أهل الواحة من الواحات المجاورة، يشتكي كثيرا بأنه لا يملك ما يكفي من البذور، وحقيقة الأمر أنه يملك ما يكفيه ويكفي جيرانه من أهل الواحة. فهو حريص كل الحرص أن يأتي زرع حقله مثمرا، ولا يهمه زرع حقول الآخرين، تبدأ ملامح شخصيته بالتغير والتبدل بدءا بالابتعاد عن مخالطة الزراع مثله، وعندما تبدأ السنابل في الاستواء على سيقانها، يكون الغرور قد استحوذ على شخصه، فهو يشعر أنه لم يعد في حاجة لأحد، ويتوقع أن سنابل حقله ستستوي وتثمر كما هو معتاد.
لا ندري هل لحسن حظه أو لسوئه، أن حقله بعيد عن الساقية الرئيسة للواحة، يقع في آخر جنبات الواحة، وهو منحدر بشكل بين في اتجاه النهر الكبير، وتربته تربة ممزوجة بالرمل سهلة الانجراف. في ليلة من الليالي تسلل خفية، ليتفرد بسقي زرع حقله، دورن زرع الآخرين، فإذا به يصرف الماء في اتجاه حقله، بعدما أن أحكم إغلاق كل بالوعات مصاريف الحقول الأخرى. تعب الرجل كثيرا نتيجة الإنحناء لوقت طويل دون توقف، وهو يسحب التراب من هنا وهنالك بمعوله الكبير، قال في نفسه، هذه مقدمة الليل، سأترك الماء ينساب إلى الحقل، وأعود إلى البيت للراحة والنوم، وفي الصباح الباكر، أعود إلى الحقل لأجده في حالة من الارتواء. لكن حدث ما لم يتصوره في الحسبان، ازداد منسوب الماء في الساقية الرئيسة بشكل كبير، نتيجة قطرات من المطر في أعلى الواحة، تحول إلى سيل خفيف زاد من منسوب الماء داخل النهر الكبير. قبل أن يطل نور الصباح، جرفت المياه المنسابة بكثرة، تربة سطح الحقل نحو منحدر الوادي مصحوبة بما عليها من السنابل، وحتى تلك التي لم تجرفها المياه سارت مضطجعة على الأرض لا تقوى على الوقوف.
مشكلة الرجل لا تكمن فيما حل به، نتيجة حادثة إتلاف زرع حقله الذي جرفته المياه، بسبب ما أقدم عليه، فالناس في الحياة بما فيهم أهل الواحة عرضة لمختلف ما يرغبون في حدوثه، أكبر مشكلة عند الرجل أنه لم يتبقى له شيء من الصالحات من الأعمال يذكر به ما بين أهل القرية، لم يقدّم خيرا لحياته، بين أهل الواحة، ولم يجد الزراع شيئا من الباقيات الصالحات تذكرهُم به ويتذكَّرونه بها1. إذ تحول إلى نكرة بينهم، نتيجة ازدواجية شخصيته.
لما علم أهل الواحة بأمره، سار حديثا فيما بينهم وهم مقبلون على أيام شواء السنابل، فعندما تمتلئ بطون حبات السنابل ويغلب عليها اللون الأصفر، يتم قطفها مع النصف العلوي من ساقها، فالفارغة من السنابل رؤوسها إلى الأعلى، بينما الممتلئ تتصف بالإنحناء وقد صدق الشاعر حيث قال:
ملئ السنابل تنحي بتواضع
والفارغات رؤوسهن شوامخ
عندما يتم قطف قبضة اليد، يتم تصفيف السنابل بشكل متوازي، وبعده تحزم بخمسة سيقان تلف بشكل دائري من تحت عنق السنابل، وبعد حزم ما يكفي من حزم السنابل، التي يسميها أهل الواحة بـ"الشواطة" يتم وضعها على لهيب النار، لوقت قصير، يُمكِّن النار من حرق سفا السنابل أي شَطْأها الخشن، وحرق القشرة الخارجية لحباتها، حتى تظهر بلونها الذهبي تطل من السواد بفعل الاحتراق، وتلك علامة على أنها استوت في الشواء، وإذا شغلك شاغل عنها فقد تتحول حباتها إلى سواد ورماد. بعدها تفصل السنابل عن سيقانها، وتوضع وسط طبق مصنوع من سعف النجيل، لا يقل قطره عن خمسون سنتيمتر، وتمعك وتدلك باليد، حتى يختفي شكل السنابل، بانفصال حباتها عن قشرتها بالكامل، وتتحول إلى كومة من الحب والقشور، وبعدها يمسك الطبق بين اليدين ويتم تحريكه بطريقة فنية سريعة، تجعله متأرجحا من الأسفل إلى الأعلى، وهي حركة تجعل حبات القمح وقشورها وسفاها ترتفع إلى الأعلى، ليذهب السفا والقشور بعيدا، بفعل نسمات الهواء، وتسقط خارج دائرة الطبق، وتعود حبات القمح لوحدها داخل دائرة الطبق، وبهذه الطريقة المتكررة لبعض من الوقت تفرز حبات القمح عن غيرها من القشور والسفا، وبهذا الشكل يكون شواء القمح جاهزا للأكل بعد أن يضاف عليق قليل من الملح والتوابل.
ظاهرة شواء السنابل عند أهل الواحة، حالة يستأنس بها الشباب فيما بينهم، فمنهم من يتولى مهمة إشعال النار وإحضار حطبها، ومنهم من يتولى إحضار السنابل، ومنهم من يتولى مهمة فرز الحبوب عن قشورها وسفاها... وقد يتحلقون على وجبة الشواء عندما تنضج ويتبادلون أطراف الحديث فيما بينهم، وإذا كانت هذه حالة الشباب فهي الحالة نفسها تتكرر مع مجموعة من النسوة والفتيات، أما الأسر فقد تتكلف الجدة أو الجد بإدارة جلسة شواء السنابل من أولها حتى آخرها. والحقية أن شواء السنابل عند أهل الواحة لا تعد وجبة بذاتها، فهي تأتي بعد وجبة الفطور ما قبل الزوال، أو بعد الغداء قبل غروب الشمس، كما أن أيامها قليلة ومعدودة، فإذا جفت حبات السنابل فلم يعد معنى لشوائها. والحقيقة أن جلسات الشواء ما هي إلا تعبير عن فرح أهل الواحة باستواء ونضج زرعهم، فهم يستعجلون تذوقه، كما أنها فرصة تنسهم بعضا من مشقة الحرث.
الزرع في الواحة هذا الموسم، لم يثمر كما كان من قبل، قليلة هي السنابل المستوية على سيقانها، فالمرفوعة الرأس منها أكثر من تلك المنحنية، السنابل ثابتة في مكانها، لا تميل يمينا ويسارا، مع نسمات الهواء العليل، بطون حباتها تبدوا غير ممتلئة بما يكفي مآزرها تلفها من كل جانب... ومن هذا الذي يفكر في جلسة شواء السنابل، أية سنابل هذه وأي شواء هذا...فأثر قلة الماء وندرته واضحة المعالم...
***
بقلم: د. أحمد صابر
كاتب وباحث مغربي مختص في قضايا الفكر والدراسات القرآنية.
.....................
1- قال تعالى: ﴿وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)﴾ (الكهف)