أقلام ثقافية
طه جزاع: قطة الحظ السعيد
يأتي التحذير الأخير لوزير المالية الألماني من حرب تجارية مع الصين على خلفية الجدل الدائر حول فرض رسوم جمركية عقابية على عدد من المنتجات الصينية، ليؤكد حجم الغزو الصيني الهائل للأسواق العالمية وفي مقدمتها الأوروبية والأميركية. فهؤلاء الذين يسمونهم الجنس الأصفر، أصحاب التنين الأحمر، والوطواط الأشهر، يشكلون ما يقرب من ربع البشرية، سواء في الصين بتعدادها السكاني الذي يبلغ المليار وخمسمائة مليون نسمة تقريباً، أو أقلياتهم الموزعة في تايوان وهونك كونغ وسنغافورة وماليزيا وتايلند والفلبين واندونيسيا واستراليا والهند وأمريكا وفي بلدان أخرى آسيوية وأفريقية وأوروبية، تجنسوا بجنسياتها مع احتفاظهم بطباعهم وتقاليدهم، فهم يعدون أنفسهم "في مهمة خارج الصين" وفق تعبير هيكل، وينطبق ذلك على الأقلية الصينية في الولايات المتحدة التي تقدر بأربعة ملايين نسمة. وهؤلاء كلهم يمثلون فيالق الصين المتقدمة على جبهة الحرب التجارية التي تحدث عنها الوزير الألماني خلال اجتماع وزراء مالية مجموعة السبع الذي عقد في شمال إيطاليا الأسبوع الماضي، وهي مجموعة الدول الصناعية المتقدمة التي تضم كلاً من الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وكندا واليابان.
هؤلاء الصينيون يثيرون دهشة العالم بمثابرتهم ونشاطهم وجديتهم، وصناعاتهم التي غزت الأسواق شرقاً وغرباً، حتى صار من النادر أن تدخل سوقاً ولا تجد فيه سلعة صينية بسعر مناسب ومواصفات رفاهية، انهم يصنعون كل ما يخطر على بال المستهلكين، أو مالا يخطر على بالهم. المهم عند الصيني أن ينجح ويكسب المال الذي هو مصدر السعادة في حياته. وعادة ما تباع في المحال الصينية تحفاً ملونة ومذهبة من البورسلين تمثل قطة باسمة جميلة تحرك يدها وكأنها تجلب لك شيئاً ما، وهي أيقونة يؤمن الصيني بها، ويتفاءل بأنها ستجلب له الحظ السعيد، والمال الوفير، لو وضعها في مدخل بيته. وقد شاهدتُ الكثير منها خلال اقامتي في كوالالمبور، وأبتعتُ واحدة منها لعلها تشملني برعايتها. ومن طريف ما أتذكره أن سائق التاكسي الماليزي المسلم الذي استأجرته من منطقة سكني، حاول أن يتبادل معي بعض الكلمات بلغةٍ عربية ركيكة، وبلغةٍ إنكليزية متعثرة لكلينا، حتى وصلتُ إلى مبتغاي، الشارع الصيني وسط المدينة، وقبل أن أدفع له الأجرة وأترجل، نبهني بلطف إلى تجنب الأكل في هذا السوق لكونه محرم على المسلم.
وقد يبدو هذا التحذير أمراً عادياً من سائق أجرة محلي لسائح أجنبي يرتبط معه بصلة الدين، في بلد يتقاسم الهوية الوطنية فيه أتباع الديانات الثلاثة الإسلام والبوذية والهندوسية، لكنه يعكس في جوهره اختلافاً عميقاً في الهوية الثقافية، يبدأ من شكل الملابس، واللغة والدين والعادات، ولا ينتهي عند نوعية الطعام الذي وجدتُ بعضه في مطاعم الشارع الصيني، ومنها مطاعم الضفادع المرسومة على واجهاتها للجذب والإغراء، وكذلك عند عربات المشويات التي تعرض ضفادع مسلوخة الجلد، مستطيلة الجسد، ناصعة البياض، تبدو وقد مَدَّ الباعة أذرعها وأرجلها، كأنهن راقصات باليه بحيرة البجع للموسيقار الروسي تشايكوفسكي!. غير أن الماليزيين بمختلف اصولهم العرقية الملايوية والصينية والهندية، واختلاف دياناتهم اعتمدوا منهج التسامح مع الآخر، وتقبل عقيدته وعباداته وثقافته وعاداته في الملبس والتصرف والطعام، وبالنسبة للسائق المسلم الذي أوصلني إلى الشارع الصيني، فأن أكل الصينيين للضفادع صار أمراً طبيعياً جداً لا يستوجب الاشمئزاز، ولا الاستنكار، فمن غير المعقول أن تتمزق الهوية الوطنية بسبب ضفدع صيني تربى في مزارع ماليزيا الخصبة.
قطة الحظ السعيد الباسمة تلوح لي بيديها وأنا أكتب هذا العمود، إنها تلوح لي منذ سبع سنوات، وهي تنتظر، مثلما أنتظر!. ووزير المالية الألماني السيد كريستيان ليندنر يحذر!.
***
د. طه جزاع