تجديد وتنوير

ابتهال عبد الوهاب: حين يفكر الإنسان.. تبدأ الحضارة

في البدء كانت الفكرة، ثم جاء الإنسان، فحولها إلى نار تنير لا تحرق. ومن رماد الخوف نهضت الحضارة تمشي على قدمين من وعي وشجاعة. فالحضارة ليست نتاج صلاة أو طقس أو شعيرة، بل ثمرة عقل يفكر، ويد تعمل، وروح تتجاوز الخوف لتبدع.

كم من أمة رفعت راية الدين، ثم سكنت تحت ركام الجهل والجمود، لأنها جعلت من النص قيدا على الفكر، لا منطلقا للبحث. وكم من أمة لم يكن لها كتاب مقدس، لكنها قدست الإنسان والعقل، فصنعت حضارة خالدة.

الحضارة مشروع إنساني خالص، يولد حين يتجاوز الإنسان الاتكاء على الغيب، ويخوض مغامرته في الوجود بعقله وإرادته. أما الحضارة فتعلمه أن يقف، أن يواجه، أن يقول: أنا هنا.

فالحضارة ليست صلاة جماعية ولا تسبيحا جماهيريا، بل هي صراع الإنسان مع المجهول، ومخاطرته بالاقتراب من النار ليصنع منها ضوءا. الدين يهب الطمأنينة، أما الحضارة فتولد من القلق؛ والدين يعد بالخلاص، أما الحضارة فتبحث عن الخلود.

منذ فجر التاريخ، كانت الأديان تنزل الإنسان من علياء السؤال إلى وادي الامتثال، بينما كانت الحضارة ترفعه من وادي الخضوع إلى قمة التجريب والاكتشاف. الدين يطلب الإيمان، والحضارة تطلب البرهان. الدين يطمح إلى الجنة، والحضارة تصنع الجمال. وحين تتضخم سلطة الدين، يختنق العقل، وتقدس الطاعة، ويقتل السؤال.

وحين يتحرر الإنسان من الخوف يبدأ التاريخ الحقيقي. فالحضارة لا تبنى على الركوع، بل على الوقوف، ولا على انتظار المعجزة بل على صناعة المعجزة. وكل حضارة كبرى ولدت حين تراجع صوت الكهنة وارتفع صوت المفكرين؛ حين استبدل الإنسان المعبد بالمختبر، والفتوى بالفكرة، والقدر بالفعل. ولذلك فإن الدين قد يهب الإنسان الطمأنينة، لكنه لا يهب له مجدا ولا خلودا. فالله لا يسكن المعابد وحدها، بل يسكن في لحظة الإبداع، في نظرة العالِم إلى المجهول، في انحناءة الفنان أمام عمل مبدع.. في شجاعة الإنسان وهو يواجه قدره بعقلٍ مفتوح لا بخوفٍ مغلق.

الأديان تشعل في القلب شمعة. لكن الحضارات تشعل في الوعي شمسا. الدين يعلم الإنسان أن يركع بخشوع فكم من أمة صلت طويلا لكنها لم تصنع فكرة واحدة تخلدها. وكم من عقل تمرد، فترك وراءه أثرا يسطع أكثر من كل المعابد.

الحضارة لا تولد في المآذن، بل في المختبر، في الورشة، في المصنع.. في البناء والتشييد.. في السؤال الذي يخيف الكهنة. إنها لحظة تجرّؤ على المجهول، فالدين يعد الإنسان بالجنة، أما الحضارة فتزرع له فردوسه على الأرض. وشهوة اكتشاف لا يروضها الخوف ولا تخدرها الطقوس.

الدين يعلمنا كيف نؤمن، لكن الحضارة تعلمنا كيف نحيا. والإيمان بلا فعل يورث الجمود، كما أن الفعل بلا قيميُنبت التوحش.

الحضارة ليست ضد الدين، لكنها تبدأ حين يتوقف الإنسان عن انتظار المعجزة، ويبدأ هو في صناعتها. وما الحضارة إلا لحظة تمردٍ على التكرار، وانبثاق للعقل من رحم الأسطورة، وانتفاضة الإنسان على السائد والمألوف.

الحضارة لا تصنع بالدعاء، بل بالفعل. ولا تشيّد بالخوف، بل بالمعرفة. فالإيمان الذي لا يتحول إلى إبداع، يظل حلما مؤجلا

وانا أؤمن دائما أن الله لا يسكن في المعبد وحده، بل في لحظة الوعي، في الفكرة التي تولد من رحم السؤال، وفي اليد التي تخلق من الطين معنى جديدا للوجود. وأرى أن الإيمان الذي لا يثمر فكرا. كالشمس التي لا تشرق أبدا. وفي النهاية، لست ضد الأديان بل ضد أن تطفئ الأديان نور العقل باسم الله.

***

ابتهال عبد الوهاب

 

في المثقف اليوم