تجديد وتنوير
لا عبادة بلا معرفة.. هل يمكن تكرار تجربة حسينية الإرشاد؟
لا يمكن أن تستقيم العبادة من دون معرفة لدى العابد ازاء معبوده، فالاديان تأسست على العقائد ومعانيها ودلالاتها ثم جاءت الشعائر أو الطقوس بعد ذلك، فمعرفة الحق سبحانه هي ما يبتنى عليها جوهر الاسلام برمته، ولهذا قال أمير المؤمنين علي بن ابي طالب في خطبة محورية له: (أول الدين معرفته، وكمال معرفته التصديق به، وكمال التصديق به توحيده، وكمال توحيده الاخلاص له...)، وفي السياق ذاته يرد الحديث القدسي: كنتُ كنزاً مخفياً لم أعرف فأحببتُ ان اعرف فخلقت الخلق فتعرفتُ إليهم فعرفوني).
فالمعرفة أصل العبادة، ولا يمكن أن تصح العبادة وتدرك معانيها وفلسفتها الخاصة بكل ركن من أركانها من دون مقدمات وأسس تقوم عليها تمنحها التفسير والمغزى أو المعنى أو الغاية، فضلاً عن دقة التأدية الباطنية والروحية قبل الاداء الجسدي.
والأجيال الشبابية هي بين امرين في سبيل تحصيل هذه المعرفة الدينية المعمقة، فبين جهد ذاتي وسعي خاص لمعرفة ذلك، وهذا الأمر مما يؤسف له محدود للغاية جداً، اما الامر الآخر هو عبر وجود مرتكز مؤسسي يؤسس لخطاب معرفي/ ديني، وبذلك يسهم في اعداد وعي ديني خاص.
ولقد كانت هنالك تجربة مهمة وثرية للغاية قامت بالأمر الثاني في أحلك الظروف وأشدها آنذاك، وهي تجربة حسينية الإرشاد التي تم انشائها في مدينة (طهران) في أواخر خريف 1963م، والتي أسست بدعم مالي من احد التجار الكبار (محمد همايون) وبالتعاون مع المفكر الإسلامي البارز المرحوم الشيخ مرتضى مطهري، وهي جاءت بعد تطور جهود معرفية لشخصيات اكاديمية وحوزوية أرادت تقديم الإسلام بنحوٍ عصري جديد عبر المحاضرات والندوات والمباحثات الفكرية المتقدمة.
وهي خلاصة نهضة معرفية جديدة انطلقت بداية عام 1960 عبر انشاء (مركز نشر الحقائق) في مدينة مشهد، و(جمعية المحاضرات الشهرية لتبيان الطريق الصحيحة للدين) وكانت بدعم من متبرعين من رجال البازار الاثرياء.
كانت حسينية الإرشاد تضم شخصيات فكرية مرموقة أمثال (أبو الفضل موسوي الزنجاني، ومحمود الطالقاني، ومحمد تقي جعفري، ومحمد البهشتي) والذين تحالفوا مع مثقفين اسلاميين ذوي تعليم اكاديمي عال، إذ سعوا لتقديم نسخة تأويلية جديدة للإسلام ازاء النسخة الكلاسيكية السائدة آنذاك، بعبارة أدق: كان مرتضى مطهري يواجه بعض الشخصيات الحوزوية التقليدية التي لم تكن تواجه التحديات الفكرية والاجتماعية التي عصفت بالعالم الاسلامي بعد تمدد الليبرالية المتوحشة، والمد الالحادي الجارف وغيرها من التحديات المتعددة.
نجحت حسينية الإرشاد بكسب الجيل الشبابي الذي يحمل تصورات خاطئة وتقليدية عن الاسلام وعن المباحث الدينية بوجه عام، واستطاعت ان تضم شخصيات معرفية لكي تحاضر على منصتها، وكان في طليعتهم آنذاك علي شريعتي الذي استطاع تقديم سلسلة محاضرات دينية مهمة.
وعلى الرغم من الظروف الصعبة التي واجهت حسينية الإرشاد من جهة مراقبة جهاز السافاك ابان عصر الشاه، فضلاً عن الاختلافات الادارية الداخلية، وما أثارته محاضرات علي شريعتي من خطاب معرفي جديد ازداد حوله سوء الفهم واللغط ، إلا ان حسينية الإرشاد ظلت إحدى المصادر المعرفية الدينية التنويرية آنذاك، والتي استطاعت تقديم الاسلام بلون عصري جديد يواجه كافة التحديات الاجتماعية والفكرية.
السؤال الذي يطرح الآن: هل يمكن استدعاء وإحياء هذه التجربة في العراق راهناً؟ وما هي السبل في تحقيق ذلك؟ ان الاجابة عن هذين السؤالين صعبة ومركبة للغاية، ولكن نحاول ان نقدم تصوراً أولياً عن ذلك:
أولاً: إن تحول المساجد والحسينيات إلى منصات معرفية ممكن عبر مبادرة الحوزة لذلك، بشرط منحها الاستقلالية وفتح قنوات تواصل مع الجامعات لأختيار الانسب والاكفأ لهذه المهمة الصعبة.
ثانياً: إن الاجيال الشبابية في حالة بحث عن لون معرفي عصري للإسلام، وان الخطابات التقليدية لم تعد تنسجم مع تحولات الذهنية، فاللغة الوعظية لم تعد نافعة أبداً بالنسبة له، ويريد لغة التفسير لما يجري على المستوى الاجتماعي والفكري والاخلاقي، وهذا لا يمكن ان يقدمه الا خطاب معرفي عصري جديد يعتمد الموجهات الفكرية المنهجية العصرية من جهة، والموجهات النصية (القدسية) من جهة أخرى عبر استدماجها بنحو عقلي وموضوعي.
ثالثاً: إن الموارد المالية التي يقدمها التجار العراقيين في المناسبات الدينية ولتأدية الحقوق الشرعية، ممكن أن تصرف في سبيل دعم هكذا أنموذج معرفي جديد، وهذا الأمر لا يتم من دون توجيهات حوزوية مباشرة.
رابعاً: إن مراكز الابحاث والدراسات الحوزوية هي نخبوية للغاية ولا تصل إلى الجيل الشبابية ابداً بنحو ميسر من جهة خطابها ومادتها العلمية، أما المراكز العلمية التابعة للاحزاب فهي مؤدلجة ومصلحية ولا غاية لها سوى تلميع قادتها وكسب الاتباع ولا هم معرفي حقيقي لها أبداً وهي مراكز لذر الرماد في العيون لأجل ايصال فكرة مؤداها: نحن مع المسيرة المعرفية العالمية ولدينا منطقنا العلمي الرصين كذلك!!؟.
اعتقد ان المرحلة الراهنة مرحلة حساسة وخطيرة على مستويات متعددة وهذا الأمر تجلى في فتن دينية وانحرافات اخلاقية وفوضى سلوكية وحتى معرفية لدى عددا كبيرا من الشباب، ومن ثم فأن استدعاء تجربة حسينية الإرشاد مسألة مهمة. صحيح لا يوجد تاجر بعقلية محمد همايون الذي تبرع بأموال طائلة لشراء قطع أرض وبناء الحسينية واستمرارية الدعم والإدارة، وصحيح لا يوجد لدينا أمثال شخصية المرحوم مرتضى مطهري أو المرحوم علي شريعتي، وبالتأكيد ان شبابنا ليس بمستوى حماس ورغبة الجيل الذي التف حول خطابات حسينية الإرشاد، ولكن إلا يمكن ان نصنع هكذا نماذج؟ أليس الأمر منوط على تجسير العلاقة بين الجامعة والحوزة والمجتمع؟ أليس الامر يحتاج إلى خطابا معرفيا جديدا لدى الوعاظ وخطباء المنابر؟ وذلك لأن الاسلام ليس هو تجربة دينية مرت في حركة التاريخ وانتهت كما أفهم بل هو حركة مستمرة-متدفقة-ومتجددة ومن ثمّ فأن الامر يتطلب تجديدا للقوالب المعرفية لثوابت الاسلام، واقصد رؤية تأويلية عصرية ..وهذا الامر مرتكز على تجديد الخطاب.
***
ا. د. جعفر نجم نصر