علوم والذكاء الاصطناعي

رافد القاضي: أنطولوجيا الوميض.. بحثاً عن الزمن المفقود بين النقرات

نعيش في زمن الوشم الضوئي زمن صارت فيه اللحظة تُختَزَل إلى ومضة على شاشة والصوت يُختَزَل إلى إشعار، واللقاء يُختَزَل إلى رد فعل ونحن الجيل الذي يحمل في جيبه قصراً ملكياً من المعلومات، ويموت عطشاً في صحارى التواصل. نحن أبناء "الآن" الدائم، الذين فقدوا فن الانتظار وفقدوا معه سرَّ الترقب، ذلك الهَدهَد الوجودي الذي كان يبيض أجنحة الأمل.

ما أقسى أن تكون كائناً بشرياً في عصر السرعة! كائناً جُبِلَ على إيقاع القلب: دَقَّةٌ وصَمْت، دَقَّةٌ وصَمْت بينما العالم من حوله يصرخ: أسرع! أسرع! لا وقت للتوقف! وكأن الزمن نفسه قد أصيب بنوبة هلع وجودي فأخذ يجري هارباً من ذاته.

- طوفان الصور وجوع الروح

تخيل أنك تعيش في شلال دائم. مياه متدفقة بلا توقف، ألوان، أصوات، صور أخبار، ذكريات، توقعات وهذا هو عالمنا الرقمي نحن لا نبحث عن المعلومات، بل المعلومات هي التي تبحث عنا، تغزونا في بيوتنا، في فراشنا، في لحظات صمتنا النادرة.

الشاشة أصبحت نافذتنا الأولى إلى العالم لكنها نافذة ملونة مريبة  تُظهر كل شيء وتخفي الأهم ونرى وجوهاً تبتسم من على بعد آلاف الأميال، ونغفل عن الوجه الحزين بجانبنا على مائدة الطعام ونعرف أخبار المجرات البعيدة، ونجهل دموع الطفل في غرفتنا المجاورة.

يقول الفيلسوف الصيني القديم: "عندما تكون الصورة واضحة جداً، تصبح الرؤية ضبابية" ونحن نعيش مفارقة البصر المفرط والعمى المتزايد. لدينا ملايين الصور وفقدنا القدرة على التخيل  لدينا آلاف الأصدقاء وفقدنا فن الصداقة ونعرف كل شيء عن حياة الآخرين، وننسى أن نسأل أنفسنا: من أنا؟

- إدمان الوحدة الجماعية

ما أبلغ تلك العبارة التي تقول: "نحن أكثر أجيال البشر اتصالاً، وأكثرها شعوراً بالوحدة" ولقد حوّلنا التواصل إلى صناعة والصداقة إلى أرقام، والحب إلى إعجابات. صرنا نحتفل بعيد ميلاد "الفيسبوك" ونتجاهل عيد ميلاد الجار الذي يسكن الطابق الأسفل.

في الماضي، كانت الوحدة مكاناً تذهب إليه. أما اليوم، فقد صارت حالة تأتي إليك وأنت محاط بالعشرات وتجلس في مقهى مزدحم والكل منكبّ على شاشته، كأنهم كهنة في معبد رقمي يقيمون طقوس الصمت الطوعي ونرسل رسالة نصية للشخص الذي يجلس بجانبنا، خوفاً من صدمة الصوت البشري!

لقد اخترعنا آلات تحاكي الحنان، وبرامج تحاكي الاهتمام، وروبوتات تحاكي الصداقة. ونسينا أن الدفء الحقيقي لا يأتي من الدارات الإلكترونية، بل من يد تلمس يداً وعين تنظر إلى عين، وصوت يهتز بالعاطفة الحية.

- اختطاف الوقت واغتيال التأمل

الوقت لم يعد ذلك النهر الهادئ الذي يجري بهدوء، بل تحول إلى شلال مخيف يقفز من منحدر إلى منحدر وصار الوقت "سلعة نادرة" نتباهى بندرتنا "مشغول جداً" صارت شهادة قيمة، وكأن الانشغال دليل على الأهمية.

لكن ما هذا الانشغال إلا فراغ مرصَّع بالمهام الصغيرة ونحن نملأ الوقت كي لا نواجه السؤال الكبير: لماذا نحن هنا؟ نركض في حلقة مفرغة، ثم نتفاجأ أن العمر قد مر وكأنه حلم سريع.

التأمل، ذلك الصديق القديم للروح البشرية تم اغتياله في عصرنا ومن يملك الوقت للتأمل؟ من يجلس مع نفسه بلا شاشة، بلا خطة، بلا هدف سوى الوجود المحض؟ لقد صرنا نخاف من الصمت، لأن الصمت يطرح أسئلة لا نملك لها إجابات سريعة.

- الذاكرة الرقمية والنسيان الوجودي

نحن أول جيل في التاريخ يسلّم ذاكرته لآلة خارجية ونحفظ كل شيء: الصور، المحادثات، المواعيد، حتى مشاعرنا ندونها في منشورات ولكننا نفقد القدرة على التذكر العضوي، تذكر الروائح، اللمسات، نبرات الصوت التي تحمل في طياتها قصصاً لا تُحكى.

الذاكرة الرقمية ذاكرة مسطحة، ثنائية الأبعاد أما الذاكرة البشرية فثلاثية الأبعاد: تحمل الرائحة، الملمس، الطعم، الحرارة. كم صورة لدينا لوجوه أحباب رحلوا، وكم فقدنا من دفء أيديهم التي لم نعد نتذكر كيف كانت تشد على أيدينا؟

الأخطر أننا ننسى أن ننسى! النسيان نعمة إلهية، يمحو الألم، ينقي الذاكرة، يخلق مساحات جديدة. لكننا اليوم نحتفظ بكل جرح، كل خيبة، كل فشل، في سحابة رقمية يمكن استدعاؤها بنقرة واحدة وصرنا مسجونين في ذاكرتنا، وكأن الحياة سجن لا مهرب منه.

- البحث عن المعنى في عالم المُتعة الفورية

يقدم لنا عصرنا إغراءً خطيراً: المتعة الفورية وطعام يصل في دقائق، معرفة تصل بثوانٍ، حب يبحث عنه بنقرة ولكن المعنى لا يصل بهذه السرعة فالمعنى كالنبيذ، يحتاج وقتاً ليتخمر والمعنى كالشجرة، يحتاج جذوراً عميقة في تراب التجربة والألم والصبر.

فقدان المعنى هو الوباء الخفي لعصرنا. نملك كل شيء، ولا نعرف لماذا نعيش ونبحث عن السعادة في أماكن خاطئة: في المال، الشهرة، المتعة ولكن السعادة الحقيقية ليست مكاناً تصل إليه، بل طريقة تسير بها. ليست هدفاً في نهاية الطريق، بل ضوءاً يضيء الطريق نفسه.

المشكلة أننا نريد معنى سريع التحضير كالقهوة سريعة الذوبان ولكن معنى الحياة ليس مسحوقاً، بل بذرة تحتاج إلى تربة ماء، شمس، وصبر طويل حتى تثمر.

- جماليات المقاومة الهادئة

في قلب هذا الإعصار الرقمي، تبدأ بوادر مقاومة هادئة. مقاومة لا تحمل شعارات، ولا ترفع رايات، بل تعيش في الخيارات الصغيرة:

 مقاومة التشتت: بإطفاء الهاتف ساعة كل يوم.

مقاومة السطحية: بقراءة كتاب كامل، من الغلاف إلى الغلاف.

مقاومة العزلة: بمقابلة صديق، والنظر في عينيه.

مقاومة السرعة: بالمشي ببطء، وملاحظة تفاصيل الطريق.

مقاومة النسيان: بتدوين الذكريات بقلم على ورق، لا على شاشة.

هذه المقاومة ليست رفضاً للتقدم، بل هي محاولة لاستعادة إنسانيتنا ولأن التقدم الحقيقي ليس في أن نصير أسرع، بل في أن نصير أكثر عمقاً وليس في أن نملك أكثر بل في أن نكون أكثر.

- نحو إنسانيات جديدة

ربما نحتاج إلى إعادة تعريف ما يعنيه أن تكون إنساناً في هذا العصر. إنسانيات جديدة تقوم على:

1. التوازن الرقمي: استخدام التكنولوجيا كأداة، لا كسيد.

2. الصداقة العميقة: علاقات قليلة لكنها غنية، بدلاً من علاقات كثيرة لكنها فقيرة.

3. البطء الطوعي: اختيار الإيقاع الإنساني على إيقاع الآلة.

4. التأمل النشط: خلق مساحات يومية للصمت والتفكير.

5. الذاكرة الحية: الاحتفاظ بذكريات حقيقية، وليس رقمية فقط.

- بصيص في نفق السرعة

رغم كل شيء، لا يمكنني إنهاء هذه المقالة بلهجة تشاؤمية بحتة ولأن في قلب هذا الزمن المضطرب، توجد فرصة عظيمة: فرصة للاختيار الواعي.

نحن أول جيل في التاريخ يملك كل المعرفة في جيبه والسؤال هو: ماذا سنفعل بهذه المعرفة؟ هل سنستخدمها لبناء جدران عزل بيننا، أم لبناء جسور تواصل؟ هل سنستخدمها للهرب من أنفسنا، أم للتعمق في أسرار وجودنا؟

الزمن الحاضر يشبه محطة قطار سريع: الجميع يركض، الأصوات مرتفعة، اللوحات تتغير بسرعة ولكن بين كل هذا الهرج يمكنك أن تختار الوقوف للحظة وأن تتنفس وأن تنظر حولك وأن تسأل: إلى أين أريد أن أذهب حقاً؟

ربما تكون أعظم ثورة في عصرنا هي ثورة البطء الاختياري وأن ترفض أن تكون ترساً في آلة السرعة وأن تختار أن تعيش بوعي لا بسرعة وأن تختار أن تكون، لا أن تمتلك فقط.

في النهاية، الوقت ليس عدواً، حتى في هذا العصر السريع. الوقت هو المادة الخام التي نصنع منها حياتنا والسؤال ليس كم من الوقت نملك، بل ماذا نصنع بالوقت الذي نملكه.

لعل أجمل ما في زمننا هذا هو أنه يمنحنا حرية لم تكن متاحة لأجدادنا: حرية اختيار كيفية عيش كل لحظة فهل نختار أن نعيشها بوعي، أم أن ندعها تمر كومضة ضوئية أخرى في شلال اللامتناهي؟

فالزمن حاضر... فهل نحن حاضرون؟

***

د. رافد حميد فرج القاضي

 

في المثقف اليوم