علوم
شاكر عبد موسى: الذكاء الاصطناعي والشهادات العليا

تعتبر الشهادات العليا من أهم العوامل التي تحدد مدى قدرة الأفراد على التنافس في سوق العمل. ومع تطور التكنولوجيا، أصبح الحديث عن الذكاء الاصطناعي (AI) وتطبيقاته أمرًا شائعًا. وهذا يثير تساؤلات مهمة حول مدى قدرة الذكاء الاصطناعي على التأثير على قيمة الشهادات العليا. في هذا البحث، سنتناول العلاقة بين الذكاء الاصطناعي والشهادات العليا، ونعرض بعض الآراء المختلفة حول هذا الموضوع.
- مفهوم الذكاء الاصطناعي
الذكاء الاصطناعي: هو فرع من فروع علوم الكمبيوتر يهدف إلى إنشاء أنظمة قادرة على أداء المهام التي تتطلب ذكاء بشري. يتضمن ذلك التعلم الآلي، معالجة اللغة الطبيعية، والرؤية الحاسوبية وغيرها. الأنظمة التي تستخدم الذكاء الاصطناعي يمكن أن تتعلم من البيانات، مما يسمح لها بتحسين أدائها بمرور الوقت.
- الشهادات العليا وأهميتها
الشهادات العليا: تشير إلى الدرجات الأكاديمية التي يحصل عليها الأفراد بعد الانتهاء من التعليم الجامعي، مثل الماجستير والدكتوراه. هذه الشهادات تعكس مستوى معرفي ومهاري عالٍ، وتعتبر معيارًا أساسيًا لتوظيف الأفراد في بعض المجالات. ولكن مع تقدم التكنولوجيا، أصبح من المهم إعادة النظر في كيفية تقييم المهارات والمعرفة.
أولاً: تأثير الذكاء الاصطناعي على سوق العمل
على الرغم من أن الذكاء الاصطناعي يقدم فرصًا جديدة في مختلف الصناعات، إلا أنه أيضًا يعيد تشكيل سوق العمل بشكل يختلف عن السابق، هناك عدد من الطرق التي يمكن أن يؤثر فيها الذكاء الاصطناعي على وظائف المستقبل:
1- أتمتة الوظائف: يمكن للذكاء الاصطناعي أتمتة العديد من المهام الروتينية، مما يقلل الحاجة للموظفين في بعض المجالات.
2 - خلق فرص جديدة: بينما يقضي الذكاء الاصطناعي على بعض الوظائف، فإنه يخلق أيضًا فرص عمل جديدة تتطلب مهارات جديدة. فمثلاً، هناك حاجة متزايدة لمهندسي الذكاء الاصطناعي وعلوم البيانات.
3 - إزاحة الوظائف التقليدية: واحدة من القضايا الرئيسية المثارة حول الذكاء الاصطناعي هي قدرته على إزاحة الوظائف. حيث يمكن للآلات الذكية أن تقوم بالمهام الروتينية التي كان يقوم بها البشر، مما يؤدي إلى فقدان بعض الوظائف التقليدية. على سبيل المثال، في قطاعات مثل التصنيع واللوجستيات، بدأت الروبوتات في استبدال العمال في الخطوط الإنتاجية.
4 - ظهور وظائف جديدة: على الرغم من القلق بشأن فقدان الوظائف، إلا أن الذكاء الاصطناعي أيضًا يفتح المجال لوظائف جديدة لم تكن موجودة من قبل. مثل الوظائف المتعلقة بتطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، وتحليل البيانات، وإدارة النظام. تشير الدراسات إلى احتمال إنشاء ملايين من الوظائف الجديدة في العقد القادم بسبب التقنيات الجديدة.
-5تحسين الإنتاجية والكفاءة: يمكن للذكاء الاصطناعي زيادة الإنتاجية والكفاءة في العديد من القطاعات. مثل الاستخدامات في الزراعة الذكية، حيث يمكن للتقنيات الذكية تحسين استخدام الموارد، مما يؤدي إلى زيادة الإنتاج وتقليل الهدر.
ثانياً: عقد السبعينيات ذروة التغيير العالمي
يعتبرعقد السبعينيات من القرن العشرين من الفترات التاريخية المهمة التي شهدت تحولات جذرية على الصعيدين الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، كانت هذه الفترة مليئة بالأحداث والتغيرات التي شكلت ملامح العالم الحديث، حيث تأثرت الدول والشعوب على حد سواء.
في القرن الحادي والعشرين، بدأ المؤرخون يعتبرون عقد السبعينيات بمثابة "ذروة التغيير" في التاريخ العالمي، مع التركيز بشكل خاص على التقلبات الاقتصادية التي تلت نهاية فترة الازدهار الاقتصادي العالمي بعد الحرب العالمية الثانية في العالم الغربي.
1- الخلفية التاريخية:
تبدأ فترة السبعينيات بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبالتحديد في بداية الستينيات عندما شهدت العديد من الدول استقلالها عن الاستعمار الأوروبي، مما أدى إلى ظهور حركات التحرر الوطني. ومع ذلك، واجهت هذه الدول تحديات كبيرة في مجالات التنمية الاقتصادية والاجتماعية.
2- الأزمات الاقتصادية:
في مطلع السبعينيات، بدأت الأزمات الاقتصادية بالتأثير على العديد من الدول الغربية. كان من أبرز هذه الأزمات أزمة النفط عام/ 1973، التي نتجت عن حدوث حظر نفطي فرضته الدول العربية على الدول الداعمة لإسرائيل خلال حرب أكتوبر، تشرين الأول. أدت هذه الأزمة إلى ارتفاع أسعار النفط بشكل حاد، مما أثر على الاقتصاد العالمي وأدخل العديد من الدول في حالة ركود اقتصادي.
وعلى النطاق العالمي،عانت جميع الدول الصناعية، باستثناء اليابان، من فترة ركود اقتصادي نتيجة أزمة نفطية ناجمة عن مقاطعات فرضتها منظمة الأقطار العربية المصدرة للبترول. وفي خضم هذه الأزمة، ظهر مفهوم جديد يُعرف بالركود التضخمي، مما أدى إلى تحول سياسي واقتصادي استبدل النظرية الاقتصادية الكينزية بالنظرية النيوليبرالية. وقد تجسد ذلك في إنشاء أولى الحكومات النيوليبرالية في (تشيلي) بعد الانقلاب العسكري الذي قاده الماريشال (أوغستو بينوشيه 1915-2006 ) في عام /1973.
3 - التغيرات السياسية:
عقد السبعينيات شهد أيضاً صعود حركات سياسية عديدة، منها الحركة الحقوقية في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث بدأت النساء والأقليات تطالب بحقوقهن بشكل أكثر فعالية، كما شهدت العديد من الدول الأوروبية تحولات سياسية أدت إلى ظهور الحكومات الاشتراكية، بالإضافة إلى صعود الحركات الثورية في أمريكا اللاتينية وآسيا.
4 - التغييرات الاجتماعية:
أيضاً، مثّلت السبعينيات فترة تغييرات اجتماعية كبرى. من أبرز هذه التغييرات ارتفاع الوعي النسوي، حيث خرجت النساء إلى الشوارع للاحتجاج على التمييز الجنسي وطلب حقوقهن، كما برزت حركة حماية البيئة كاستجابة للضرر البيئي الذي حدث جراء التقدم الصناعي.
كما استمرت الأفكار التقدمية الاجتماعية التي بدأت في أواخر الستينيات، ومطلع السبعينيات منه مثل زيادة الوعي السياسي والحرية الاقتصادية للمرأة، في النمو في العراق نتيجة التنمية الأنفجارية التي عاشها العراق أنذاك والتي توقفت نتيجة الحرب العراقية الأيرانية 1980- 1988 ثم حرب غزو الكويت 1991-2003 ليخرج العراق مثخن بالجراح والديون والبطالة التي صاحبت توقف المعامل والمصانع العراقية نتيجة الحصار الأقتصادي الذي فرضه المجتمع العراقي على العراق.
ثالثاً: التغيير التكنولوجي المنحاز للمهارات
طالما كان التعليم بمثابة مفتاح لحياة أفضل وأكثر أمانًا، ولكن لم يكن له من الأهمية ما يحظى به في العقود الأخيرة، خاصة مع ظهور الروبوتات وأجهزة الكمبيوتر والإنترنت. فكلما زادت مستويات التعليم، زادت فرصتك في التكيف مع التغيرات التكنولوجية المفاجئة.
بين عامي 1980 و2009، أظهر الاقتصادي الأمريكي من أصول تركية (دارون أسيموغلو1967) والأكاديمي والأقتصادي الأمريكي (ديفيد أوتور1967) أن الأجورارتفعت بشكل متواضع لحاملي درجة البكالوريوس، وارتفعت بشكل أكبر لحاملي الدرجات العليا، بينما انخفضت للأشخاص الذين لم يكملوا دراستهم الثانوية.
ثم أطلق الاقتصاديون على هذه الظاهرة اسم "التغير التكنولوجي المنحاز للمهارات". بعبارة أخرى، إذا لم تحصل على مزيد من الشهادات، فقد تواجه صعوبات كبيرة. لذا أصبح التعليم هو الوسيلة الوحيدة التي تضمن لك الأمان في اقتصاد يتزايد فيه التفاوت.
ولضمان مستقبلهم، التحق عدد غير مسبوق من الشباب الأمريكيين بكليات الدراسات العليا، وقاموا بتحمل ديون كبيرة على أمل تحقيق عوائد أكبر في المستقبل. منذ عام /2000، تضاعف عدد الأمريكيين الحاصلين على درجتي الماجستير والدكتوراه أكثر من الضعف، في حين انخفض عدد الذين لم يحصلوا على شهادة الثانوية العامة.
على مدار السنوات القليلة الماضية، شهد الطلب على المهنيين ذوي التعليم العالي تراجعًا مفاجئًا، نتيجة لتضافر مجموعة من العوامل التي غيرت مشهد وظائف ذوي الياقات البيضاء.
كان من أبرز هذه العوامل:
- التحول الذي فرضته - جائحة فيروس كورونا – عام/ 2019 نحو العمل عن بُعد (work-Remotely)، آذ لم تعد الشركات الأمريكية مقيدة بقيود الجغرافيا، وأدركت الشركات الأمريكية أن بإمكانها التوظيف في الخارج، مما أتاح لها الوصول إلى مجموعة أكبر وأرخص من المهنيين المدربين تدريباً عالياً.
وبدا فجأة أن علماء الكمبيوتر ومديري المنتجات وعلماء البيانات المحليين - الذين طالما عوملوا على أنهم ألماس نادر يستحقون رواتبهم المرتفعة - أشبه بسلع باهظة الثمن مقارنة بنظرائهم.
- الدفع الكبير بين مسؤولي التوظيف في الشركات للتقليل من التركيز على المؤهلات الرسمية في عملية التوظيف، وهو اتجاه يُعرف باسم ”التوظيف القائم على المهارات“. لم يعد بعض أرباب العمل يدرجون متطلبات الشهادة في إعلانات الوظائف الشاغرة، وأضاف آخرون مؤهل ”أو خبرة معادلة“.
وهذا يمنح الأشخاص الذين لم يحصلوا على تعليم إضافي فرصة للحصول على أكثر الوظائف المرغوبة في الوظائف ذات - الأربطة الأنيقة - بينما يقلل من الميزة التي طالما تمتع بها حاملو الشهادات العليا.
- ثم يأتي دور الذكاء الاصطناعي، آذ تشير الدراسات إلى أن روبوتات الدردشة الآلية وغيرها من أدوات الذكاء الاصطناعي تعزز فعلاً من فرص أصحاب المهارات والخبرات المحدودة، بينما لا تقدم الكثير لدعم أصحاب الأداء العالي، الذين غالباً ما يكون لديهم درجات علمية متقدمة لتطوير مهاراتهم.
علاوة على ذلك، تشير التقديرات الأولية إلى أن الذكاء الاصطناعي قد يؤدي على المدى الطويل إلى استبعاد - أصحاب الأربطة الأنيقة - من وظائفهم، بينما تظل معظم وظائف - ذوي الياقات الزرقاء - كما هي، كما أن الحصول على ماجستير في إدارة الأعمال أو أي درجة علمية متقدمة أخرى لم يحمِ أي شخص من التأثير المفاجئ لـ (ChatGPT).
مع تزايد سرعة تطور التكنولوجيا، يزداد الشعور بأن الشهادات المرموقة قد أصبحت غير ذات قيمة. وقد وجد الخبير الأقتصادي الأمريكي في موقع غلاسدوور (آرون تيرازاس) أن متوسط عمر الأشخاص الذين يعانون من البطالة طويلة الأجل هو الآن 37 عاماً، مما يعني أنه ليس من الضروري أن تكون من جيل الطفرة التكنولوجية لتشعر بأن التكنولوجيا قد تجاوزتك.
يقول تيرازاس: ”ما نعتقد أنه ’قديم‘ هو أصغر بكثير الآن“. ”مع تسارع الحدود التقنية المتسارعة، فإن ما يعنيه أن تكون قديمًا يزحف نحو الأسفل.“
هذا ما حدث لإحدى بنات جيل الألفية، المسماة (تارا). بعد أن حصلت على درجة الماجستير في إدارة الأعمال من - جامعة كورنيل - في عام /2021، كانت واثقة أن كل هذا الجهد والنفقات ستثمر في النهاية.
وعندما تلقت عرض عمل من (شركة أمازون)، انتقلت عبر البلاد إلى سياتل، وكانت متحمسة للعيش بمفردها لأول مرة وبدء مسيرتها المهنية الجديدة كمديرة للمنتجات. وبغض النظر عن ما قد يحدث في وظيفتها، كانت تظن دائماً أن هناك العديد من الشركات التي ستسعى لتوظيف شخص يحمل شهادة من إحدى أفضل الجامعات في إدارة الأعمال.
واخيراً، تم تسريح تارا خلال فترة الانكماش التكنولوجي في نوفمبر، تشرين الثاني/ 2023 - ولم تتمكن من الحصول على وظيفة جديدة.. ظلت عاطلة عن العمل لمدة 14 شهراً ومازال العد مستمرًا، وتقدمت إلى ما يقرب من 650 وظيفة.
تقول تارا: ”مع مرور كل شهر، ومع ارتفاع مستويات التوتر لدي، اتسعت معايير البحث لدي“. ”أنا في حيرة من مدى صعوبة الأمر.“
رابعاً: خريجون في دائرة مفرغة
إن المهنيين الحاصلين على شهادات عليا ليسوا غارقين في البحث عن وظائف أطول فحسب - بل يواجهون ما يشبه الحلقة المفرغة: فكلما طالت مدة بقائهم بدون عمل، كلما أصبحت مهاراتهم متقادمة أكثر فأكثر، وهذا بدوره يجعل العثور على وظيفة أكثر صعوبة، ومع تزايد إحباطهم، يختار بعضهم وظائف بأجور أقل، بينما يستسلم آخرون تماماً.
يشير الاقتصاديون إلى هذا الأمر باسم ”الندوب“، وهو أحد الأسباب التي تجعلهم قلقين للغاية بشأن البطالة طويلة الأجل، فهو لا يضر فقط بالأشخاص الذين لا يستطيعون العثور على عمل، بل يضر أيضًا بالاقتصاد الأوسع نطاقًا.
إن الآفاق المستقبلية للنخب المتعلمة قاتمة للغاية لدرجة أن البعض لجأ إلى إخفاء أوراق اعتمادهم التي عملوا بجد لكسبها، تقول الكاتبة الأمريكية (كاثي سكوت)، مديرة السياسات الحاصل على شهادتي الدكتوراه، إنه في بعض الأحيان يترك شهادة الدكتوراه في طلبات التوظيف، لتجنب اعتباره مؤهلاً أكثر من اللازم. وقد بدأ (مايكل بورسيلينو)، الحاصل على درجة الدكتوراه في الدراسات الحضرية، بإدراج شهادته على أنها في ”العلوم الاجتماعية“، لجعلها تبدو قابلة للتطبيق على نطاق أوسع من الوظائف. ويقول إن الهدف من ذلك هو ”عدم وضع نفسي في خانة معينة“.
***
شاكر عبد موسى/ العراق