قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: دراسة نقدية موسعة لقصيدة "قمر المعرّة" للشاعر السوري توفيق أحمد

تأتي هذه القراءة النقدية لتضع قصيدة "قمر المعرّة" للشاعر السوري توفيق أحمد ضمن أفقها الأوسع: أفق الشعر العربي الذي يتقاطع فيه التاريخي بالرمزي، والوطني بالميتافيزيقي، والذاتي بالجمعي. فالقصيدة ليست مجرد تحية لرمز من رموز التراث، بل هي محاولة لإعادة تشكيل العلاقة بين الشاعر المعاصر وضمير الأمة ممثلاً في شخصية أبي العلاء المعري؛ هذا الفيلسوف الذي تحوّل عبر العصور إلى رمز للحكمة والجرأة الأخلاقية ومساءلة الزمن.

يمتاز النصّ بثراء دلالي يسمح بتعدد مستويات القراءة؛ فهو نصّ يتجاوز حدود البلاغة إلى بنية معرفية تتداخل فيها السيميائيات مع الذاكرة الوطنية، والهرمنيوطيقا مع البنية النفسية، واللغة الشعرية مع البعد الفلسفي. ولذلك فإن قراءته تحتاج إلى مقاربة متعددة الأدوات، تفتح طبقات النص وتكشف ما تحته من توتر ومجاز ورمز، وتعيد تأويل العلاقة بين الشاعر ورموز المنفى الداخلي والضوء والمحبسين والكوثر والقمح.

وتسعى هذه الدراسة إلى تحليل القصيدة عبر مناهج متكاملة:

١- هيرمينوطيقية تأويلية تلاحق حركة المعنى داخل النص، وتفكك تمثلات المعري بوصفه “ضميراً حضارياً”.

٢- أسلوبية تستكشف البنية اللغوية والإيقاع والصورة والتوتر الشعوري.

٣- سيميائية غريماسية تكشف محاور الأدوار (الفاعل/ المفعول/ المرسل/ المرسل إليه…) وشبكات العلامات.

٤- نفسية ترصد علاقة الشاعر بالفقد، بالذاكرة، وبصورة الحكيم المخلّص.

٥- وطنية–تاريخية تضع النص في سياق الذاكرة السورية والعربية، وصراع الضوء والظلام في لحظة حضارية حرجة.

كما تعقد الدراسة مقارنة فنية–انفعالية–تخيلية–لغوية بين هذا النص وبين نصوص أخرى تقوم على بنية العشق، للكشف عن اختلاف مستويات الشغف والمعنى والرمز، وتحديد ما يميز "العشق الرمزي الحضاري" عن "العشق الوجودي الفردي".

بهذه الأدوات تتشكّل قراءة تحاول أن ترى في القصيدة أكثر من خطاب شعري؛ محاولة لبعث "قمر المعري" من جديد في زمنٍ تتكاثر فيه الظلال ويغيب فيه اليقين. هذه القراءة إذن ليست بحثاً في نصّ فقط، بل بحث في الروح التي يتنفس عبرها النص.

إنّ القصيدة التي بين أيدينا، سواء في بنيتها اللغوية أو معمارها الرمزي أو إشاراتها الوطنية والوجودية، ليست نصاً يُقرأ من سطحه، بل هي نسيج متعدد الطبقات يحتاج إلى تفكيك وتأويل وغوص طويل في طبقاته المعرفية والجمالية. فـ "قمر المعرة" للشاعر السوري توفيق أحمد ليست مجرد تحية لشاعر كبير أو استعادة لرمز؛ بل هي إعادة كتابة للذاكرة العربية، وإعادة بعث لروح أبي العلاء المعري بوصفه ضميراً أخلاقياً وفلسفياً وإنسانياً يقف في وجه العبث والزيف وانهيار القيم.

ولأن النصّ يشتغل على مستويات دلالية متشابكة—من الرمزية إلى الوطنية، ومن النفسية إلى الفلسفية—فإن قراءته تحتاج إلى مقاربة تعددية تتجاوز منهجاً واحداً، وتستند إلى أدوات متقاطعة تسعى لتشكيل صورة شاملة للمعنى.

من هنا تأتي هذه الدراسة التي ستعتمد على خمسة مداخل أساسية:

أولاً: القراءة الهيرمينوطيقية التأويلية

وهي قراءة تُنصت إلى حركة المعنى داخل القصيدة، وتتعقب كيف ينتقل النص من دائرة الـ"أنا" إلى الـ"هو"، ومن الواقعي إلى التخييلي، ومن التاريخي إلى الإشاري. إذ يُعاد تشكيل شخصية المعري هنا لا بوصفها رمزاً ماضوياً، بل بوصفها حاضراً يتكلم من داخل الزمن العربي المكسور.

سنسائل النص وفق نظريات التأويل، ونتابع كيف يتحول الشعر إلى حدث وجودي تُعاد فيه كتابة الذات والعالم.

ثانياً: الدراسة الأسلوبية:

تحليل البنية اللغوية، ومستويات الانفعال، وبنية الصورة الشعرية، والإيقاع الداخلي الذي يجعل القصيدة تقترب أحياناً من نبرة الابتهال، وأحياناً من نبرة المرافعة الأخلاقية، وأحياناً من نبرة الوجد.

سنقرأ الانزياحات اللغوية، التوازي، التكرار، التشاكل الإيقاعي، وعلاقة الأفعال بالزمن وتحول الضمائر.

ثالثاً: القراءة السيميائية — وفق منهج غريماس

سنستخرج المحاور الدلالية الأساسية:

١- الفاعل / الذات: الشاعر، الإنسان الجائع للمعنى، الباحث عن مثال أعلى.

٢- المفعول به / الغاية: الحقيقة، الحكمة، النقاء الأخلاقي.

٣- المرسل: التاريخ، الذاكرة العربية، تجربة المعري.

٤- المرسل إليه: الإنسان المعاصر، القارئ، الشاعر نفسه.

٥- المساعد / المعارض:

المساعد: المعنى، الشعر، الطهر، النور، الذاكرة.

المعارض: الزيف، الزمان الملوث، الوجوه المتغيرة، الخديعة.

سنفكك العلامات الكبرى:

المعري، الضوء، القمر، السجن، المحبسان، الخيال، القمح، الطين، الكوثر...

لنستخرج شبكتها الدلالية وتفاعلها داخل هندسة القصيدة.

رابعاً: الدراسة النفسية

سنقرأ البنية الشعورية للنص من خلال مفاهيم علماء النفس و"ظلّ الأمة" و"الأنا الجمعية" و"البطل الحكيم".

المعري هنا يتحول إلى أب روحي يواجه الفقد، ويمنح للشاعر معنى في عالم مبعثر.

كما سنحلل “عقدة الفقد التاريخي” وعلاقة الشاعر بالأرض واللغة والهوية.

خامساً: الدراسة الوطنية-التاريخية

سندرس القصيدة في ضوء تاريخ سورية، وذاكرة المعرة، وسياق الثورة، واستخدام الشعراء العرب للرموز الكبرى (المتنبي، المعري، السيّاب…) في لحظات الانكسار أو النهضة.

المعري هنا ليس مجرد شاعر؛ بل “ضمير وطني” يشهد على خراب الحاضر.

والقصيدة تتحول إلى خطاب مقاومة ضد الزمن الفاسد والقيم الملوثة.

سادساً: الدراسة المقارنة

المستوى الانفعالي:

نجد الشاعر توفيق أحمد ابتعد عن العشق الشخصي/ الوجودي واقترب من العشق الرمزي/ الوطني/ الحضاري

المستوى التخييلي:

ابتعد عن المعمار الأسطوري الفردي واقترب من المعمار التاريخي-الرمزي

المستوى اللغوي:

لم تكن لغة الشاعر توفيق احم. لغة حسية عاطفية، بل لغة فلسفية/ رمزية/ حكمية

المستوى العضوي:لم يقارب الشاعر توفيق أحمد من بنية الجسد/ الروح

واقترب أكثر من بنية الحضارة/ التاريخ/ الذاكرة.

أهمية الدراسة:

إن جمع هذه المناهج في قراءة واحدة يمنح النص حياة جديدة، ويكشف عن طبقاته المتعددة:

الدينية، النفسية، الفلسفية، الوطنية، والأسطورية.

ويُعيد للمعري حضوره بوصفه “الضمير الحيّ” للثقافة العربية.

ولأن القصيدة تنتمي إلى شعر الأزمة والسؤال الأخلاقي، فإن هذه الدراسة ليست مجرد تحليل، بل إضاءة فكرية على معنى أن يكون الشعر شاهداً على العصر، وأن تكون الكلمة قادرة على اختراق الطين الملوث لتبحث عن جوهر ضائع.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

في المثقف اليوم