قراءات نقدية

عماد خالد رحمة: قراءة نقدية لنصّ الشاعرة المغربية هناء ميكو "فلاسفة معذَّبون"

لا يمكن قراءة نصّ الشاعرة المغربية هناء ميكو بعنوان: «فلاسفة معذَّبون» قراءة متعجلة. بل يمكن قراءة هذا النص بعينٍ تأملية تطبيقية تجمع بين المنهج الهيرمينوطيقي التأويلي، التحليل الأسلوبي والرمزي، والسيميائيات (نموذج غريماس)، مع فتح أبواب التعاطي إلى البنى النفسية والدينية والفلسفية. الهدف من ذلك استخراج بنية الدلالة العميقة للنص، وكشف عمليات التحويل الدلالي، وتحديد المحاور السردية والوظائف الفاعلية، ومقارنة النص على أربعة مستويات: المستوى الانفعالي، التخييلي، العضوي، واللغوي - ثم ربط ملامح النص بآراء فلاسفة ومناهج نقدية مناسبة.

1 - قراءة هيرمينوطيقية (دلالات الظاهر والباطن):

النصّ يعمل كأفق سؤال أخلاقي/وجودي: يبدأ بمشهدٍ طبيعيٍ يتوق إلى التأمّل، ثم يتحوّل إلى مزيدٍ من الأسئلة النَّاشدة: «ما ذنبها؟» تكرّار السؤال يولّد حلقة تأويلية مركزية - ليست فقط عن «الطفولة» كحالة، بل عن العلاقة الأخلاقية للمجتمع بذاته. الهيرمينوطيقيا، أفق فهم الشاعرة هناء ميكو يلتقي بأفق القارئ عبر «الأسئلة» كجسر: النص يدعوك لإعادة قراءتك للعالم الاجتماعي، ويحوّل النصّ من وصف إلى موعظة نقدية ومحفّز أخلاقي.

2 - التحليل الأسلوبي:

1. الأسلوب الصوتي والآليّات البلاغية: تكرار الأسئلة والنداءات («أَيُّها الإنسان؟») يعطي النص طابعاً خطابيّاً استدعائياً/دعائياً. التكرار هو استراتيجية للتثبيت العاطفي والبلاغي.

2. الاستعارات والصور: صور قوية وبسيطة - «صفار بيضها»، «الليمون في حلاوته»، «السوسة في أحشائها» - تعمل كمحاور تصويرية تجسّد الطفولة بوصفها شيء هشّ قابل للانتهاك. تشبيه الطفولة بالليمون «معصورة» يقدم حضوراً حسيًا/طعمياً يقرّب القارئ من ألم الضحية.

3. الخطاب المباشر والوعظي: الاستخدام المتكرر لأدوات الخطاب المباشر (نداءات، أسئلة بلاغية) يضع الشاعرة هناء ميكو في مقام المُعلّم/المُنادي - وظيفة دعائية اجتماعية وأخلاقية واضحة.

4. التركيب النحوي: جمل قصيرة متقطعة في فقراتٍ تارة وطويلة راوية في فقراتٍ أخرى ــ إيقاع يتذبذب بين الحزن والاندهاش والغضب.

3 - التحليل الرمزي:

١- الطفولة: رمز للبراءة والطبيعة الإنسانية الفطرية، لكنّها هنا أيضاً «مخيّبة» أو «مُمَسَّخَة» بفعل المجتمع.

٢- الصفار/البيضة: رمز الميلاد، الإمكانات، الفعل القابل للحماية؛ وضعها عائماً في صفارها يوحي بالهشاشة قبل التكاثر.

٣- الليمون/المعصورة: رمز للاستغلال الاقتصادي والاجتماعي - الطفل كمورد يُستنزف.

٤- السوسة: رمز للعطب الداخلي/الفساد الاجتماعي الذي يتآكل من الداخل.

٥- الملائكة: رمز للمثالية والبراءة، واستدعاء عاطفي يدعو للرحمة.

4 - سيميائيات غريماس (نموذج الأكتانتيال أي المعنى الفاعل:

أطبق هنا النموذج بصيغة مبسطة:

١- الفاعل: «الطفولة» / الأطفال (الموضوع الفاعل في محور الانشغال النصي).

٢- الهدف: الكرامة، الحماية، الطفولة الطبيعية (ما يُراد استعادته).

٣- المرسل: النصّ/الشاعرة (بوصفها مرسِلًا للنداء الأخلاقي) أو «الضمير الاجتماعي» المفترض.

٤- المتلقي: المجتمع/الإنسان المتهم أو القارئ العام (المعنِيُّ بإصغاء النداء).

٥- المعين: المدرسة، الأسرة، الحنان، الوعي، المؤسسات الإنسانية.

٦- المعاكس: تجّار الرذيلة، سماسرة الجريمة، الحرب، القسوة الاجتماعية، الجهل.

٧- منظومة الأدوار تولّد حبكة مبسطة: المرسل (الشاعرة) يدعو المتلقي/المجتمع للقيام بدور المعين لاستعادة الهدف (كرامة الطفولة) ومواجهة المعارضين (الاستغلال).

5 - الأنساق المعرفية (إطارات القراءة):

النص يشتغل بأربع أنساق معرفية متداخلة:

1. الأخلاقي/الاعتقادي: تساؤلات الوجدان والضمير.

2. الاجتماعي/السياسي: استدعاء مفردات «تجار الرذيلة» و«الميز العنصري» و«فلسطين» - نص ذو بعد نقدي اجتماعي ووطني.

3. النفسي/الإنساني: صورُ الاغتصاب الوجداني والحرمان والعجز عن الحماية.

4. الخيالي/الشعري: استعارات وصور تُحافظ على بعد الشعرية وتجعل اللغة جسرًا بين العقل والعاطفة.

6 - مطابقة مع إراء فلاسفة ومراجع نقدية:

١- إمانويل ليفيناس: فكرة النداء الأخلاقي المستمر للوجه/الآخر تجد صدى في الأسئلة المتكررة «ما ذنبها؟» - نصّ يطالب بالمسؤولية الأخلاقية تجاه الضعيف.

٢- جان جاك روسو: نظرية الخير الطبيعي للإنسان والفساد الاجتماعي قد تُقرأ هنا: الطفولة كخير فطري «محرومة من الطبيعة الأم».

٣- سيغموند فرويد/نظرية الصدمة: استغلال الطفولة يؤدي إلى صدمات نفسية تُقوّض البناء النفسي؛ النص يلمّح إلى هذا العطب.

٤- دونالد وينيكوت ( Winnicott ): فكرة الـ«holding» والحاجة لمساحة احتضان نفسية - غياب الاحتواء يؤدي إلى تشظٍ للذات.

٥- ماري فرانسيس بيترسون/أو بوكاتشيو؟ (اختيارات نقدية معاصرة): يمكن توظيف نظرية العدالة الاجتماعية/سياسات الطفولة في تأطير نقدي.

٦- غادامير/هيرمينوطيقا: أهمية الأفق التفاهمي بين النص والقارئ؛ الشاعرة تترك «فراغًا» لتأويل القارئ، ما يجعل الفهم حلقة تفاعلية.

7 - مقارنة المستويات الأربعة للنص:

1. المستوى الانفعالي (العاطفي):

الطرح يحفّز حزناً وغضباً وذعراً أخلاقياً؛ الأسئلة البلاغية تثير الاستهجان والشفقة. النص يهدف إلى تفعيل الضمير الجماعي.

2. المستوى التخييلي (الصور/الخيال):

صور مركزة وبسيطة تخلق قواعد تخييلية قوية: البيضة، الليمون، الملائكة. الخيال هنا وظيفته ضبط الشعور وإعطاء اسمٍ مرئي للانتهاك.

3. المستوى العضوي (الجسدي/الحسي)

أفعال مؤلمة (تُقتل، تُعذب، تُعصَر) وصور حسية (طعم الليمون، صفار البيض) تُفعّل الشعور الجسدي بالألم والاستنزاف.

4. المستوى اللغوي:

لغة واضحة أقرب إلى الخطاب العمومي/الوعظي مع لحظات شعرية؛ إيقاعات متقطعة، تكرار، صياغات استفهامية، نداءات ثانية (أيها الإنسان) - كلها أدوات لغوية لترك أثر أخلاقي مباشر.

الأخطاء اللغوية والنحوية أو الملاحظات:

1. الجملة:

"طبيعةٌ تنتظر من يتأملها ويندهش لها وبها."

ملاحظة: كلمة "لها وبها" زائدة بعض الشيء، يمكن الاقتصار على "ويندهش لها" أو "ويندهش بها".

2. الجملة:

"أسئلةٌ فطرية محرومةٌ من الطبيعة الأم"

الصواب النحوي: "محرومة من" صحيحة، لكن يمكن إضافة حرف التعريف للتماسك الأسلوبي: "محرومةٌ من حماية الطبيعة الأم" لجعل الجملة أكثر وضوحاً.

3. الجملة:

"ما ذنب يُراعِ ليلِها المضيء حتى ينطفئ، وبذرةِ نبتتِها المتفتقة حتى تذبل في أوج عنفوانها؟"

ملاحظة: تركيب "بذرةِ نبتتِها المتفتقة" غير سلس قليلاً. الأفضل: "وبذرتها المتفتحة حتى تذبل في أوج عنفوانها؟"

كذلك "يُراعِ" يمكن أن تكون "ليلها يُراعى" لتصبح أكثر سلاسة.

4. الجملة:

"قصيدةُ أملٍ عشّشت السوسةُ في أحشائها، خاطرةٌ عذبة لم تعد الابتسامة على محيّاها."

ملاحظة: تركيب الجملة غير متساوٍ من حيث المعنى؛ يمكن تعديلها:

"قصيدة أملٍ عششت فيها السوسة، وخاطرة عذبة لم تعد الابتسامة على محياها."

5. الجملة:

"نراهم عند إشارات المرور، يمسحون أوساخ العقول المتحجّرة من سائقي السيارات وهم في عمر الورد."

ملاحظة: تركيب "أوساخ العقول المتحجّرة من سائقي السيارات" طويل ومعقد، يمكن تبسيطه:

"يمسحون أوساخ سائقي السيارات المتحجّرة وهم في عمر الورد."

6. الجملة:

"ما من مبررٍ معقولٍ للأفراد أو المجتمعات التي تجعل الإنسان يؤذي الأطفال، إلا المرض النفسي أو العقلي أو الإجرام، كما هو الحال في فلسطين، وكل البلدان التي تنهش لحمها الحروب والميز العنصري."

ملاحظة: تركيب الجملة طويل ومعقد، يمكن تقسيمه لتسهيل القراءة:

"لا يوجد مبرر معقول يجعل الإنسان يؤذي الأطفال إلا المرض النفسي أو العقلي أو الإجرام. هذا ما نراه في فلسطين، وفي كل البلدان التي تنهشها الحروب والتمييز العنصري."

7. الجملة الأخيرة:

"للإجابة على كل هذه التساؤلات، فلنربط الاتصال بالطفل في ذواتنا."

سليمة نحويًا، لكنها يمكن تحسين أسلوبها لتكون أكثر قوة:

"وللإجابة على هذه التساؤلات، لنجعل الطفل في داخلنا رفيقًا ومرشدًا."

ملاحظات أسلوبية:

النص غني بالصور المجازية، لكنه أحياناً يطغى عليه تعدد الصفات الطويلة، مما يجعل بعض الجمل ثقيلة على القارئ. يمكن تفكيك بعض الجمل الطويلة إلى جملتين لتخفيف الوزن الأسلوبي.

هناك تكرار لفظة "أيها الإنسان" عدة مرات، يمكن الاستعاضة عن بعضها بمرادفات مثل "أيها العاقل" أو "أيها الساهر" لتجنب التكرار الممل.

استخدام علامات الترقيم جيد، لكن في بعض المواضع يمكن إضافة فواصل خفيفة داخل الجمل الطويلة لتسهيل القراءة.

النص ممتاز من ناحية إيصال الفكرة العاطفية والإنسانية، ويظهر التوتر الشعوري بوضوح.

8 - استنتاجات مختصرة:

«فلاسفة معذَّبون» للشاعرة المغربية هناء ميكو نصّ يحوّل الطفولة إلى محور أخلاقي وشعري في آنٍ واحد؛ يوظف لغة مباشرة وصوراً سحرية بسيطة لخلق استدعاء وجداني.

السيمياء "الغريماسية" تُظهر بنية واضحة: طفولة كفاعل-مبتغى، مجتمع كمتلقٍ/مُذنِب، وعناصر مساعدة ومعارضة محدّدة.

الربط بالفلسفة الأخلاقية (ليفيناس، روسو) والنظريات النفسية (فرويد، وينيكوت) يعمّق قراءة النص ويمنحه بعدًا تطبيقياً ممكناً في دراسات الطفولة والعدالة الاجتماعية.

***

بقلم: عماد خالد رحمة - برلين

..................

فلاسفة معذَّبون

بقلم: هناء ميكو

طبيعةٌ تنتظر من يتأملها ويندهش لها وبها.

أسئلةٌ فطرية محرومةٌ من الطبيعة الأم، براءةٌ أُجهضت وهي لا تزال عائمةً في صفار بيضها، تتألم، تتسوّل، تتوسّل، وتُقتل للأسف.

*

ما ذنبها؟

ما ذنب يُراعِ ليلِها المضيء حتى ينطفئ، وبذرةِ نبتتِها المتفتقة حتى تذبل في أوج عنفوانها؟

ما ذنبها؟

*

إنها الطفولة المهملة، يا سادة، دون حماية.

قصةُ حلمٍ قصيرة، مهضومةُ الكيان، في أزقة الشوارع.

متشرّدة،

أشبهُ بالليمون في حلاوته، غير أنها معصورةٌ دون وجه حق.

قصيدةُ أملٍ عشّشت السوسةُ في أحشائها، خاطرةٌ عذبة لم تعد الابتسامة على محيّاها.

*

طفولةٌ مستغلّة من طرف تجّار الرذيلة وسماسرة الجريمة،

مُسَلَّطةٌ لاستعطاف ذوي القلوب البريئة والجيوب الآمنة.

*

فهل من وعي، أيها الإنسان؟

هل من إدراك؟

هل من رأفة؟

هل من رحمة، أيها الإنسان؟

*

إنهم ملائكة، فلذات أكبادنا، وتلاميذنا، وأجمل مخلوقات المجتمع وألطفها.

يدخلون الفرح والسعادة إلى القلوب بابتسامةٍ تذيب الحجر وتفتح الورود.

*

لِمَ نسمح بتشرّدهم وحرمانهم من أبسط حقوق الكرامة كأطفال؟

نراهم عرضةً للاستغلال، يعملون في البيوت كخادمات،

يتعرّضن للتحرش المستمر وهم في مقتبل العمر،

ويُتّخذون مطيّة لجلب عطف الناس بغية التسوّل وربح المزيد من المال بجشع.

*

نراهم عند إشارات المرور، يمسحون أوساخ العقول المتحجّرة من سائقي السيارات وهم في عمر الورد.

نحن والحياة عليهم.

مكانهم الطبيعي المدرسة، وفضاءات اللعب، والرياضة، والإبداع بالفن. أليس كذلك، أيتها الأم؟ أيها الأب؟ أيها الأخ الكبير؟ أيتها الأخت الكبرى؟

*

أين تبخّرت قلوبكم الجاحدة التي دفعتكم إلى هذه الأفعال الشنيعة؟

لا أُعمّم، بالطبع.

*

أين هو الاحتواء؟

ما من مبررٍ معقولٍ للأفراد أو المجتمعات التي تجعل الإنسان يؤذي الأطفال،

إلا المرض النفسي أو العقلي أو الإجرام، كما هو الحال في فلسطين، وكل البلدان التي تنهش لحمها الحروب والميز العنصري.

*

يحتاج الطفل إلى الكثير من الرعاية، والحنان، والحب، وأيضًا إلى ثقةٍ عميقة بقدراته،

لينطلق بجناحي اليراع المشعّ، كونه رجل المستقبل.

*

ترى، أين أحلام أطفال العالم؟

هل أخرسنا أصواتهم إلى الأبد؟

أم حوّلناها إلى معزوفاتٍ نشازٍ نسمعها بذبذبات المنافق وأشباح الإنسان، وحنو المعتدي الغاشم؟

*

ما مصير أصحاب الأسئلة الساذجة المشروعة في ظل زمن "الإنسان الوحش"؟

أين غاب الاندهاش العميق في ظل الاختلاف؟

*

للإجابة على كل هذه التساؤلات،

فلنربط الاتصال بالطفل في ذواتنا.

 

في المثقف اليوم