قراءات نقدية

رزق فرج: أنثى الريح.. قراءة في تشكيل الذات المتمردة في شعر سونيا عبد اللطيف

قراءة نقدية في جماليات التلقي لمجموعة "وجهي… والرّياح"

تمثل المجموعة الشعرية "وجهي... والرّياح" للشاعرة سونيا عبد اللطيف عالماً شعرياً مكتملاً ينبض بالحياة، حيث تتفاعل الذاتي مع الكوني، والأنثوي مع الإنساني، والخاص مع العام، تعتمد جمالية التلقي هنا على حوارية عميقة بين النص والقارئ، تدفعه إلى أن يكون شريكاً فاعلاً في بناء الدلالة واستكناه الطبقات المتعددة للنصوص.

شاعرة الهمس والموج، وقيثارة المشهد الثقافي التونسي

ليست مجرد شاعرة تكتب القصيدة، بل هي مشروع ثقافي متكامل يُنظِّم الفضاءات، ويُؤسِّس للمشترَك الإنساني. من مدينة قليبية الساحلية، حيث همس الموج، انطلقت كاتبةً متعددة الأجناس (الشعر، النثر، الومضة، السيرة الواقعية، القصة) وقارئةً تحليليةً تنفذ إلى أعماق النصوص، تتلمس في كتاباتها مكامن الجمال والألم معاً، محوِّلةً تفاصيل الواقع اليومي إلى استعارات كونية، وهي كاتبة لا تنفصل عن دورها المجتمعي؛ فأستاذة التعليم، والمدربة في التنمية البشرية، والمذيعة المتخرجة من مركز مارينا، كلها أوجه تُغني نصّها بحساسية فريدة تجاه الإنسان وتفاصيل حياته.

عرفتها الساحة الثقافية رئيسةً لنادي الشعر ثم نادي الأدب في جمعية ابن عرفة، وعضواً فاعلاً في اتحاد الكتاب التونسيين حيث ترأست مجلس الأدب والفنون، لكن بصمتها الأبرز تأتي من تأسيسها وإدارتها لـ "مجالس همس الموج الأدبية والفنية"، التي أصبحت منبراً أساسياً يحتضن الأصوات التونسية والعربية، من خلال تظاهرات نوعية، بين الإصدارات التي تنوعت بين الشعر ("امرأة استثنائية")، والومضات ("بجناح واحد أطير")، ويوميات الواقع ("ميترو هات... وهدرات")، وإصدارات باللغة الإنجليزية، تثبت عبد اللطيف أن حبرها لا يجف عند حدود القصيدة، بل يمتد ليشكل سجلاً حياً للذات والمجتمع.

مشاركاتها الممتدة من مهرجانات تونس (قرطاج، سيدي بوزيد، قفصة) إلى عواصم الثقافة العربية (الصويرة، غرداية، الإسكندرية، بسكرة، زاكورة) تؤكد حضورها كصوت شعري عربي يجمع بين خصوصية المحلي وعالمية الإحساس، هي في جوهرها، "امرأة استثنائية" كما عنونت أحد دواوينها، لا تكتفي بمواجهة الرياح بقوة وجهها، بل تخلق من عواصف الحياة موجاً يهمس بأجمل القصائد.

(2)

جمالية العتبات النصية: مدخل إلى العالم الشعري

تبدأ جماليات التلقي من الغلاف، حيث الصورة الفوتوغرافية التي التقطتها الشاعرة في طبرقة (بتاريخ 29 ماي 2022). هذه العتبة البصرية ليست زخرفة، بل هي جزء عضوي من "وجهي… والرّياح" عنوان يخلق فضاءً من الحركة والصراع والتحليق، الوجه (الثابت، الهوية، الذات) في مواجهة الرياح (المتغير، العالم الخارجي، قوى القدر والزمن). هذا التناقض الظاهري يضع القارئ منذ البداية في قلب المأساة والحركة التي تميز المجموعة.

(3)

تعدد الأصوات والتناص: تشابك الحكايات

المجموعة عبارة عن سيمفونية من الأصوات المتنوعة:

الصوت الغنائي العذب: كما في "قمران" و "همس الموج"، حيث تتحول العلاقة العاطفية إلى حالة كونية من الإشراق ("نُزيلُ صدأ القلوب الصّماء").

الصوت الحكائي الأسطوري: كما في "هند امكَ" و "الأميرة النائمة" و"الحرباء"، حيث تُسقط الذات تجربتها على شخصيات رمزية وحكايات تستدعي ألف ليلة وليلة وشخصيات تراثية، مما يخلق تناصاً ثرياً يثري عملية تأويل القارئ.

الصوت السردي الواقعي الجارح: وهو الأكثر بروزاً وقوة، كما في "كاميرا" و "الجدار" و "شجن الوطن"، هنا تتحول القصيدة إلى كاميرا ترصد مآسي الواقع بتقنية "الزوم" السينمائية، مما يخلق صدمة تلقي لدى القارئ ويجبره على المواجهة، قصيدة "كاميرا" تحديداً هي ذروة هذه الجمالية الصادمة، حيث تتحول المفردة (الثدي) إلى رمز مأساوي للجوع والأمومة المهدرة واللامبالاة.

الصوت الاستفهامي الوجودي: كما في "اكتشاف" و"تساؤلات" و"أبواب المعراج"، حيث تطرح الشاعرة أسئلة وجودية عن الذات، الحب، الموت، والخلاص، هذا الصوت يدفع القارئ إلى طرح الأسئلة ذاتها، محوّلاً التلقي من متعة جمالية إلى فعل تأملي وجودي.

(4)

الصورة الشعرية: بين الرقة والقسوة

تتقن سونيا عبد اللطيف بناء صور شعرية قادرة على خلق عالم متخيل كامل:

صور طبيعية مضيئة: النورس، البحر، القمر، الضياء، الندى. هذه الصور تخلق فضاءً للتحليق والأمل.

صور واقعية قاسية: القمامة، الثدي المتدلي، الجدار، الإسفلت، الغربان. هذه الصور تخلق فضاءً للاختناق والاحتجاج.

صور سوريالية مدهشة: "بجناح واحد… تطييير!" في "اكتشاف"، أو "أنا شهرزاد تُنادي من قمقم الأسر" في إحدى القصص الضمنية. هذه الصور تثير الدهشة وتوسع آفاق التوقع لدى القارئ.

التناقض بين هذه الصور يخلق توتراً جمالياً يظل القارئ في حالة تأويل دائمة لمعناه.

(5)

الإيقاع بين الانسياب والانكسار

الإيقاع في المجموعة عضوي، يتبع نبض التجربة. فهو تارة منسياب كهدير الموج في "همس الموج"، وتارة أخرى متقطع، متشظٍ، يعكس انكسار الذات وشرذمة الواقع، كما في "كاميرا" و "غربة". هذا التلاعب بالإيقاع يوجه مشاعر القارئ، فينتقل من حالة الطمأنينة إلى القلق، ومن التأمل إلى الصدمة.

(6)

الذات والآخر: جمالية التماهي

جمالية التلقي الأبرز هي قدرة النصوص على خلق تماهٍ عميق بين القارئ والشخصيات:

القارئ يشعر بضياع "النعامة" التي تتعلم الطيران، ويتألم مع المرأة في "كاميرا" ويتساءل معها: "كيف يستقبلني المطر؟"، ويحلم مع "الحالمة" ويتمرد مع "وردة الرمال"، وحاصرته أسئلة "تساؤلات" كما حاصرت الشاعرة، هذا التماهي لا يتم عبر الشفقة، بل عبر إنسانية عميقة تجعل من الخاص (تجربة المرأة) عاماً (قضية إنسانية).

(7)

اللغة: بين الشعرية اليومية والرمزية العالية

تستخدم الشاعرة لغة سلسة لكنها مكثفة، تخلط بين مستويين من اللغة، شعري رفيع (يُرفرف الحلم سربا) ولغة الحياة اليومية (علب سردين، حفّاظات قذرة)، هذا المزج يجعل النص قريباً من القلب دون أن يفقد شعريته، ويجعل التلقي ممكناً على مستويات متعددة.

مجموعة (وجهي… والرّياح) هي مشروع شعري إنساني طموح، جمالية التلقي فيها لا تقوم على المتعة السلبية، بل على التحدي، تتحدى القارئ:

أخلاقياً: لمواجهة القبح والظلم في قصائد مثل "كاميرا" و "هنيئا لكم الأعياد".

وجودياً: لمواجهة أسئلة الموت والوجود في "سأموت" و "أبواب المعراج".

جمالياً: لتقبل تنوع الأصوات والأشكال والانزياحات عن المألوف.

الانزياح الأكبر هو تحويل جسد المرأة (بكل تفاصيله الحميمة والمأساوية) من موضوع للتلقي الذكوري إلى ذات فاعلة، ناطقة، محكومة بالرياح لكنها تحاول دائماً التحليق، القارئ، رجلاً كان أم امرأة، مدعو ليس فقط لقراءة هذه النصوص، بل لـ تلقّيها بكل حواسه وضميره، ليكتمل المعنى في فعل القراءة نفسه، الشاعرة لا تقدم إجابات، بل تفتح نوافذ على الأسئلة الكبرى للوجود والإنسان، مخلّفة وراءها أصداء لا تتبدد بسهولة في ذهن وقلب القارئ.

***

بقلم: رزق فرج رزق- ليبيا

في المثقف اليوم