قراءات نقدية
بولص آدم: العالم الحكائي عند صالح الرزوق من خلال قصته "إبراهيم إبراهيم"

في قصته القصيرة "إبراهيم إبراهيم" (نشرت في العدد 132 من جريدة أوروك) يبني صالح الرزوق عالمًا سرديًا داخليًا، مكثفًا، يتكئ على التهكم، والتفكيك الساخر للحبكة التقليدية، ويُفعّل وعيًا حكائيًا أقرب إلى الحكاية المعاصرة منه إلى البناء السردي الكلاسيكي.
نتابع في القصة شخصية غامضة تدعى إبراهيم إبراهيم، تقتحم حياة الراوي فجأة، وتترك أثرًا محيرًا بين الواقع والاختلاق. يتحدث إبراهيم عن ماضٍ ملتبس، عن صداقته مع بروديل وحنا مينه في قبو بيروت، ويزعم أنه أملى على الأخير فصولًا من المصابيح الزرق، رغم أن الرواية سبقت زعمه بثلاثين عامًا. يروي عن نساء عابرات وسهرات طويلة مع زكية حمدان، ويعيش في قبو شبه خاوٍ، بكنبة معدنية وعلبة سمنة استُخدمت بدل كرسي، بينما على الرف نسخ ممزقة من الكتب، بينها "الياطر" موقعة بالحبر.
الرزوق لا يقدم سردًا تقليديًا قائمًا على حبكة محكمة أو صراع واضح، هو يبعثر عناصره في فضاء حكائي ملتبس، حيث تتقاطع الواقعية مع السخرية المبطنة. لا تتصاعد القصة نحو ذروة درامية، بل تنمو عرضًا، عبر جمل قصيرة مشحونة بتهكم خافت، وتخفي مفارقات داخلية ذكية. السرد لا يلاحق غاية بحد ذاتها، وإنما يتتبع ظلال الحكاية وهي تتبخر، عبر شخصية لا نعرف عنها الكثير، وتختفي كما جاءت.
شخصية إبراهيم لا تحتل مركز السرد بوصفه بطلاً، بل تتقاطع مع حضور طيفي، يتحدث عن كتبه وصور أمه وخالته بتشويش متعمد. حين يسأله الراوي عن امرأة في صورة معلقة، يجيبه بأنها أمه. ثم يتبين أنها خالته التي ربّته لأنها لا تنجب. المفارقة لا تُحل، بل تتعقد، وتبقى ملامح المرأة ملتبسة، كما لو كانت استعارة لعمق غامض في ذاكرته.
حتى اسمه المركّب – إبراهيم إبراهيم – يُوظف على نحو تهكمي، يصل ذروته حين تسأله امرأة غريبة عن اسمه، وتلقبه بـ "إبراهيم مربع". هذا الانزلاق من الاسم إلى الجبر لا يأتي من باب الطرافة فقط، بل يعكس مأزق الهوية في عالم تآكلت فيه الثوابت.
أما المكان – القبو – فهو ليس مجرد مشهد خارجي، بل استعارة داخلية. قبو مظلم، مترب، مهجور، لكنه مأهول برائحة الورق القديم، والذكريات المفبركة، والاحتمالات. لا يصف الراوي المكان بوصف شعري، لكنه يقدمه بلقطات شبه فوتوغرافية: "ثلاجة يغطيها الغبار"، "كنبة معدنية"، و"علبة سمنة فارغة غطاها بجريدة قديمة". كلها تفاصيل ترسّخ هشاشة الحياة المادية حول هذه الشخصية، وتعزز الإحساس بعبثية الزمن ومهزلة الذاكرة.
اللغة التي يعتمدها الرزوق متقشفة، خالية من الزخرفة، لكنها مشبعة بوعي ساخر. السخرية هنا ليست خفة، بل إنذار داخلي، أو تعب هادئ من العالم. حين يسأله الراوي، باستنكار، عن حقيقة أنه أملى على حنا مينه صفحات من روايته، يرد إبراهيم بجملة تكثف فلسفة النص:
"ولكن لا يوجد في هذه الحياة شيء أصلي. كلنا لصوص يا عزيزي. حتى الأمم القوية تسرق أراضي الأمم الضعيفة. وكذلك الأفكار."
بهذه العبارة، يختزل الرزوق رؤيةً سردية للعالم: الكتابة ليست ابتكارًا بقدر ما هي تكرار بصيغ متغيرة، والحكاية ليست ملكية، بل دوّامة من التداخلات والتناص.
في النهاية، يختفي إبراهيم. يطرق الراوي الباب فلا يجده، وتفتح له امرأة غامضة تشبه المرأة التي في الصورة. ثم تختفي هي الأخرى بعد يومين، وتغلق الباب خلفها بسلسلة وقفل أصفر لامع. لا يُقدَّم تفسير. لا يحاول الراوي البحث عن أجوبة. بل يُترَك الغياب مفتوحًا كجرح بلا شفاء. المشهد الأخير لا يقدّم خاتمة، بل يفتح دائرة جديدة من الشك:
"وسمعتها تغلق الباب بخبطة قوية. وحين أخذت نظرة من العين الساحرة رأيت أنها أضافت له سلسلة من الحديد مع قفل أصفر يلمع بلون ذهبي."
ليس المهم من أقفل الباب، بل ما يعنيه هذا القفل في سياق النص: إنه رمز للغياب غير المفسّر، لصمت الشخصيات، لانغلاق الحكاية على نفسها كأنها تنسحب من العالم.
بهذا كله، ترسّخ "إبراهيم إبراهيم" بصمتها بوصفها تمثيلاً مصغرًا لعالم صالح الرزوق الأوسع: عالم لا يبحث عن البطولة، بل عن آثارها؛ لا يقيم صرحًا من المعنى، بل ينقّب في أنقاضه؛ لا يخبر القارئ بشيء، بل يجعله يتساءل عن كل شيء – من هو إبراهيم؟ هل كان موجودًا فعلًا؟ وماذا يعني أن تختفي الحكاية، لا لأنها انتهت، بل لأنها تآكلت من الداخل، مثل الصورة، مثل الأثاث، مثل الذاكرة نفسها؟
***
بولص آدم