قراءات نقدية
جبَّار ماجد البهادليّ: رَعدُ زاملُ الشَّاعرُ المَأسورُ وَجَعَاً

في تَراتيلِ شِعرِيَتهِ (الذَّاتيَّةِ والمُوضوعيَّةِ)
تَمهيدٌ: العَتبةُ النقديةُ للدراسة تُشهِرُ الإخبار فعلاً بأنّ رعد زامل، هو الشَّاعر المَأسور وَجَعَاً والمَهوُوس ألماً، وتُثبِتُ له ذاتياً وفنيَّاً شفاعة الصبرَ الجميلَ في تراتيل لوحاته الشعرية، بأنّهُ لم يكن عارياً قبل الهُبُوب، هبوبُ رياح العاصفة الهوجاء. وعلى وفق ذلك المنظور النقدي لم يكن الشعر في مفهومه المعرفي أو حَدِّه الإبداعي نقداً لمسرح الحياة الكونية المتغيِّرة ولرموز ممثليها وشخوصها الزمكانية الفاعلة والمتفاعلة فحسب، كما يظنُّ الكثير من الأُدباء والشُّعراء والنُّقاد والمفكِّرينَ ويعتقدونَ بذلك الهاجس، إنُّما الشعرُ في الواقع، هو رسائل إيجابٍ أو سَلبٍ حيَّةٌ مُلغَّمَةٌ بمشاهد القُبح والجمال عن مظاهر وصورالأُس الوجودي للحياة إلى وهج الحياة المُلتهبة برماد النَّار، أي من الحياة إلى الحياة.
عَتباتُ المُدوَّنةِ النَّصيَّةِ العُنوانيَّةِ
إذا كانت فضيلة العنوان، بأنَّه يمثَّل العتبة الرئيسة الأُولى من عتبات الناقد والمفكِّر الفرنسي البنيوي الشهير(جيرار جينيت)؛ وذلك بدأً من صور موحيات اللَّوحة الأولى للغلاف، ومروراً بعد ذلك بِعَتَبتِي الإهداء والتصدير، وروافد التفريعات العنوانية الصغيرة الداخلية الأخرى، وانتهاءً بلوحة التظهير الخارجية الثانية للكتاب؛فإنَّ العنوان الذي هُوَهالةُ النصِّ الخارجية المقدَّسة وسيِّدها، وثرياه الضوئية المشعَّة اللَّافتة يشكِّلُ أولى الصدمات الفجائية المباغتة التي يتلقَّاها القارئ الواعي أو المتلقِّي النابه عندما تقع عيناه مُتلهفةً للوهلة الأولى على أيِّ كتابٍ، شعرياً أكان جنسهُ أمْ سرديَّاً.
وذلك كون العنوان هو البوابة، أو نقطة الانطلاق التحوُّلية الرئيسة الأولى التي يغذُّ السيرَّ منها وينطلق اللَّاعب المارثوني(القارئ) الواثب إلى ميدان اللُّعبة الرسالي الحقيقي، قارَّاً في مثابات مدينته الشعرية أو السردية الفاضلة(يوتوبيا النصِّ). ومشتبكاً في الوقت ذاته معه بسلاحه الأبيض الفكري والمعنوي والإبداعي الخلَّاق في مواجهةٍ فعليَّةٍ حقيقيةٍ باسلةٍ ومِقدَامةٍ مع تجلِّيات وأنساق فوضاه الداخلية. وكاشفاً عن جيوش عناصره الديستوبية الفاسدة الظالمة، سواء أكان هذا الواقع حقيقياً درامياً بَصَريَّاً قريباً مرئيَّاً أمْ مخياليَّاً صوريَّاً بعيداً لمدينة النصِّ الشعري الطوباوية القصيَّة.
إنَّ مدوَّنةً شعريةً تحملً عنواناً ذاتياً مؤثِّراً ماثلاً بالقول المنفي الثابت:(لمْ أَكُنْ عَارياً قَبلَ الهُبُوبِ) لمنتجه التخليقي السومري العراقي(الجَنوبي)، ذلك هو الشاعر المبدع المثابر رعد زامل، الفائز بالمركز الأوَّل لجائزة بغداد للشعر عام(2023م)، والصادرة بطبعتها الأولى في العام نفسه عن دار وتريات للنشر والتوزيع في بغداد/ العراق، وبحدود ورقي كمي بلغ نحو(113) صفحةً من فئة القطع المتوسِّط. وقد احتوت هذه المجموعة النوعيَّة المكثَفة على(31)نصَّاً شعريَّاً لمجموعة قصائد نثرية وتفعيلية حُرَّة ومتنوٌّعةً، حيث يمثِّل عنوانها الفنِّي العميق صدمةً إدهاشيةً فجائيةً مُذهلةً لفكر القارئ المتلقِّي والشاعر المنشئ نفسه. فما معنى أنْ ينفي الشاعر عن ذاته الشعرية صفة أن يكون عارياً قبل الهبوب العاصف، وأنْ يُثبتَ لها غطاءَ التستُّر وعدمَ الكشفِ؟ وما معنى موحيات دالة الهُبُوب ومقصدياتها الجدلية البعيدة التي يعنيها الشاعر؟ وهل هو هبوبُ رياحٍ عابرةٍ غيرِ مُؤثِّرةٍ أم أنَّهُ هبوبُ التحوَّل والتغيير والاكتشاف الذاتي الجديد لنوازع شخصيته الحركية المثيرة القلقة دوماً؟
وحين نجيل النظر والتّأمُّلَ مليَّاً في تفكيك شفرات لُغة العنوان الانزياحية الفنيَّة الماتعة جماليَّاً، تُظهِرُ أنَّ الشاعر لا يقصدُ إطلاقاً بلفظة(الهُبُوب)، هبوب الرياح الشمالية الجنوبية أو الشرقية الغربية العابرة لحدود أجواء المُناخات النصيَّة التي سلبته سِترَهُ الحيائي وغطاءَه البيني المحافظ، وزحزحت كيانه الأنوي الذاتي. وبأنَّه لم يكن واضحاً أو ظاهراً قبل الهبوب العاصف أو المُغيِّر الصادم لهيأته وكيانه النفسي. وأنَّ الذي يبتغيه الشاعر ويعنيه في قصديات رسائله الشعرية الآسرة رمزية هذا الهبوب البعيدة وعلاماته السيمائية الموحية القريبة لِخُطَى التحوُّل والتغيير والاكتشاف.
إنَّ هذا الرأي ذاته يُحيلنا إلى أنَّ الشاعر لم يعرف أو يكشف نفسه من ذي قبل على الأقلِّ، أو لم يكن واضحاً له الأمر حتَّى جاءت ساعة هذا التحوُّل أو التغيير المصيري الحاسم الذي جعله يُثبتُ نفياً في تركيب بناء جملته العنوانية الخبرية الشاهقة البليغة بأنَّه كان مُضمِراً مَستوراً، ولم يكن عارياً مُجرداً مكشوفاً للغير قبل هبوب ريح التغيير والتَّصيير التي قَلبتْ مَوازين حياته سَلبَاً رأساً على عقبٍ. فالشاعر يريد التعبير عن فكرة التحوُّل الطارئ الذي حصل له من حال إلى حالٍ آخرَ.
ويمكن أنْ يُحيلنا عنوان مدوَّنة الشاعر رعد زامل أيضاً إلى مجموعة من الرموز والمعاني الدلالية المتعدِّدة الأخرى، مثل مسألة الاكتشاف الذاتي لأناه الشاعرية الموَّارَة بالحزن والهجس النفسي الطافي على سطح شخصيته، والتحوُّل الشخصي الاجتماعي لبنية رؤاه الفكرية المهتاجة، فضلاً عن اكتشافه الجديد لعالمه الجمعي المحيطي الخارجي الذي هو جزء من بنائه المعماري. وبتلك الكشوفات البينية يكون العنوان قد أدِّى وظائفه المهمَّة الأربع التي حدَّدها جيرار جينيت بـ(الوظيفة التعيينية أو التحديدية، والوظيفة الوصفية، والوظيفة الإيحائية، والوظيفة الإغرائية).
وعلى الرغم من أنَّ الشاعر في عنونته هذه لم يذكر مفردة(الريح) المقصود بها فعلاً دالة (الرياح)، وإنَّما اكتفى بما يدلُّ عليها من قَبيل مجاوراتها اللَّفظية الانزياحية مثل مفردة(الرياح)؛ فإنَّ هذه الريح الهابَّة تكتشف مكامن الجمال الحقيقي الخفي المُضمر لوقع أنَاتِهِ الذاتيَّة التدفقية، وتؤكِّد طبيعة التَّحوُّل الذي كان سبباً مهمَّاً في تغيُّر حياته الشعرية والاجتماعية معاً، وتكشف أيضاً عن أنساق معاني الحقيقة أو الجمال الخبء الذي كان مخفيَّاً قبول الهبوب فتصدِّره لمتلقِّيه الخارجي.
وبالنتيجة كتحصيلٍ حاصلٍ أنَّ العنوان هو فنار النصِّ المضيء البارق في فضاء ميناء الشعرية، يعدُّ دعوةً فكريةً وفنيَّةً إبداعيةً جادةً لاستكشاف وأعماق الشاعر وسبر أغواره الذاتية المُبطَّنة، واكتشاف تمظهرات جمالياته الشعرية الظاهرة، وبيان أسرار مرجعياته الثقافية العميقة والخبيئة المضمرة. فالعنوان إذاً هو شاخص الشعرية السحرية اللَّافتة وعلامة من علاماتها الهرمية الثابتة. وهو أول علامة على طريق التلقِّي، ومفتاحاً سيميائياً يختزل بنية النصِّ في كلمة أو بضع كلماتٍ،
ومثل هذا يدلِّل على أنَّ اختيار العنوان لهذه المدوَّنة عملية لا تخلو من القصدية الفكرية والجمالية.
عتبةُ الإهداءِ:
ونذهب في هذا الاتجاه النصِّي إلى الكشف معرفياً عن عتبة أخرى من عتبات النصِّ الموازي، تلك هي عتبة(الإهداء) الشخصيَّة المحبَّبة الذي درجنا على معرفة سياقاتها الثقافية التداولية الثابتة؛ بأنَّه عادة ما يكون الإهداءً يُكتَبُ بلغةٍ نثريةٍ عاديةٍ مُكَّثفةٍ لشخصيَّةٍ مُعيَّنةٍ أو لرمزيَّةٍ قصديةٍ ما، أكانت هذه الرمزية مكانيةً أم معنويةً لها أثرها المهمُّ والبالغ في نفس الكاتب الشاعر، ونفس الآخرين من محبيه بنسقٍ جديدٍ لم يكن مألوفاً أو متوقَّعاً، حينما عَمَدَ لكتابة وتدوين عتبة الإهداء بلغةٍ شعريَّةٍ جذابةٍ وأهداها إلى روحه الشعورية الارتكاسية النكوصية الحزينة المؤلمة حتَّى صارت أول رأسٍ للفجيعة من رؤوس المكانية المحطَّمة؛ نتيجةَ أفعال المناوئين وآثار الغزاة له على حدِّ قوله:
"لَقدْ تَحوَّلَ إلَى نُدبةٍ فِي رُوحِي كُلُّ شِبْرٍ مَرَّتْ عَلِيهِ أحذيةُ الغُزاةِ".
(لم أكُنْ عَاريَاً قَبلَ الهُبُوبِ، ص 3)
يا لهُ من إهداءٍ نفسي باعثٍ على معاني الأسى ودلالات التوجُّع وعلامات التصبُّر في تلقي آثار وقع الحادثة الموضوعية التي بُنيت عليها شخصية الشاعر المهجوسة المُحبَطة الصارخة من قاع الألم، والصادحة برحم المعاناة وهمِّ الواقع الحياتي المرير الذي أخرج لنا شاعراً متفرِّداً ونتاجاً شعرياً تخليقياً زاخراً بالثراء مثل مدوَّنته الإعلانية (لَمْ أكنْ عارياً قبلِ الهُبُوبِ). ويبدو لي أنَّ رعدَ زامل أصبح حائط الصدٍّ الشعري القوِّيِّ المُواجهَ لتلك الأفعال والمُثيرات الشرطيَّة الصادمة شعرياً.
عَتبةُ التَّصديرِ الشِّعريِّ:
والأغرب في ذلك الإهداء كلِّه أنَّ الشاعر برغم سعة ألمه وكثرة توجُّعه وتعدُّد خيبات شعوره المُحبَط إثرَ سِهامِ هُويةِ النسقِ الجمعي الآخر وتأثيرات نُبالهِ الموجعة بوقعها النفسي المؤثِّر سار بخطىً سريعةٍ واثقةٍ وَجَلَدٍ وَصَبرٍ جَميلٍ واعدٍ بالأمل الممزوج بشعور الألم إلى عتبة التصدير لتأثيث مجموعته الشعرية هذه بنصٍّ شعريٍّ بالغ فيه كثيراً بحزنه المستديم القارِّ الآسر للنفوس والذي تحوَّل إلى ما يُشْبِهُ سكينَ قاتلٍ تَذبحه على قيد الحياة رُويداً رُويداً دُونَ رحمةٍ فقال مخاطباً:
حُزنِي يَتحوَّلُ إلَى سِكِّينٍ
ثُمَّ يَذبَحُنِي
(لَمْ أَكُنْ عَاريَاً قَبلَ الهُبُوبِ، ص5)
ولولا وقع هذا الحزن الدائم الأبدي القارُّ الذي يسكن روح وجسد وعقل وفكر الشاعر رعد زامل المتزاحم بالهموم لِمَا استطاع أنْ ينتج لنا مثل هذه النماذج الشعرية الشعورية النابضة بصور الوجود ووقائع الحياة اليومية المتشابكة أحداثها بصراع (الألم والأمل) المغذِّي لإدامة هذه الشعرية.
ثمَّ قام الشاعر زامل بانعطافة إجرائيةٍ تصديريةٍ جديدةٍ ثانيةٍ أُخرى أنسنَ فيها محاسن اللُّغة بفضيلةٍ جماليَّةٍ من فضائلها الكثيرة؛ كونها تُعدُّ أُمَّاً رَؤُوماً مع بنات أُسرتها المخلصات من الكلمات، وأبنائها الخُلَّصِ الذكور من الحروف. بينما جعل من إرادة نفسه الأمَّارة بالحبِّ والطاعة التامَّة لهذه اللُّغة؛ كونه مازال يتعثَّر بطراف أذياله بين سطورها المتراصَّة المُحتشدة، ويعيش بين أفياء ظلالها وأحضانها الدافئة التي تمدُّه بنسغ الحياة العالي برغم عثراتها وويلاتها النفسية الدامية التي لا تنتهي:
هَا أَنتِ فِي كُلِّ لَيلٍ
تَسهرينَ مَعَ بَناتِكِ الكَلمَاتِ
وَفِي كُلِّ مَرعَى
تَخرُجِينَ خَلفَ أبنائكِ الحُرُوفِ
بَينمَا اِبنُكِ الضَالُ
هَذَا الشَّاعرُ الَّذي مَا اِلتفتَ إليهِ يَومَاً
مَازَالَ يَتعثَّرُ بَينَ السُّطورِ
أَيتُهَا اللُّغةُ .. الأمُّ!
(لَمْ أكُنْ عَاريَاً بَينَ الهُبوبِ، ص 6)
مَدخلُ المُدوَّنةِ الشِّعريَّةِ:
إنَّ أول نصوص هذه المجموعة ومبتدأ مطلع بواكيرها الشعرية الإشهارية كان نصَّاً لقصيدة ارتأى الشاعر أن يكون عنوانها(إعلانٌ) إشهاريَّاً دالاً على مدلول وقع عتبتها التاريخية الذي تداخلت فيه الوحدنة الذاتية الشخصية بالموضوعية الجمعيَّة الشاعرية المشتركة. وكأنك تقرأ عنعنةً لسندِ روايةِ حديثٍ دينيٍّ تراثيٍّ تاريخيٍّ عن تجلِّياتِ رهان حاضره، وقد أسقط زامل في هذا النصِّ الفنتازي والغرائبي وقائع وأحداث التاريخ الأسطوري السومري وعناصر طبيعة الواقع المكاني الأهواري لمثابات الحياة على مشاهد وقائع حاضره المعيش وتمظهرات أحداث تشابك عقابيله المتصارعة.
والمثير في تجلِّيات هذا النصِّ أنَّ الشاعر بدأ مُستهله المطلعي بمفتتح إخباري (عنعني) توثيقي عن سيرة أبيه الراوي، ثمَّ عن أجدادهِ السومريين الأوائل ولمحةٍ إشاريةعن بطل ملحمتهم التاريخي الأُوروكي كلكامش الباحث عن عشبة الخلود لرفيق دربه الكائن المُؤنسن (أنكيدو) الذي يُعدُّ البطل الحقيقي لهذه الملحمة. وقد انتهى الشاعر بهذا الإخبار اللَّوحي عن سُقمِ نفسه العَليلةِ المنسيَّة في فضاء بيئتها المكانية الأهوارية، تلك النفس الظامئة لعشبة الرواء الرُّوحي التي لا علاقة لها لا من قريب أو بعيدٍ البِتَّةً بعشبة الخلود الكلكامشي أو الفناء الدنيوي، وبرغم ذلك يعدُّ نفسه أنكيدو عصره:
عَنْ أبِي، عَنْ أجدَادِهِ السُومريينَ
أنَّهُ قَدْ جَاءَ فِي لَوحِهُم الأخِيرِ
هَذَا مَا اِدَّخَرَهُ كِلكَامِشُ
لِلمنسِي فِي الأهوَارِ، وَهوَ سَقيمُ
لِرَعدِ زَاملِ الطَّاعنِ بِالعَطَشِ
قَارُورةٌ مِنَ الدَّمعِ وَعُشبةٌ أُخرَى
لَا عَلاقةَ لَهَا بِالفَنَاءِ
(لَمْ أكُنْ عَاريَاً قَبلَ الهُبُوبِ، ص 8، 9)
واللَّافت للنظر في هذه القصيدة وفي قصائد سبع أخرى من بين هذه المدوَّنة الشعرية أنَّ الشاعر في سابقة شعرية وفنيَّةٍ لم نعهدها عند غيره من الشعراء المُجايلينَ والسابقينَ له عَمدَ في أسلوبيته الشعرية إلى تكرار وترديد اسمه الصريح الدال على هُوية صفته الشخصية(رعد بن زامل) سبع مراتٍ تفاوتية لسبع قصائد رتَّل فيها اسمه ورسمه الذاتي الذي نتلمَّس من خلال مجسَّاته التردُّدية وجعاً ومشاعرَ حسيَّةً بالغة الأثر تفيض بها تكرارات الاسم(الزاملي) بين طيَّات نصوصه الشعرية الصارخة بصوته في محاولة صوريَّة تجريبية منه لإثبات ذاته الشاعرية المأزومة بخيبات الوجع.
بَعدَ أنْ نَجونَا بِأُعجوبةٍ مِنَ العَاصفةِ
قُلتُ لَهُ اِقفزْ يَا رَعدُ زَاملُ
فَلَا مَكانَ لَكَ فِي قَاربِ النَّجاةِ
(لَم أكُنْ عَاريَاً قَبلَ الهُبُوبِ، ص 72، 73 )
فضلاً عن تفاعلها الذاتي العجيب مع صبرها القوِّي وجَلَدِها الجميل تُجاه شامتيها وحاسديها في التماهي مع سلسلة من وقائع الأحداث الموضوعية لريب الدهر وتوجُّعه، والخروج من قبضة براثنها المخلبية الناشبة بخواتيم نصوص شعرية مذهلة تبعث الانتشاء والسرور والإمتاع في نفس القارئ الذي ما انفكَّ أنْ يتواصل مع تداعيات مبدعه الشاعر المقوَّض المنحسر الذي يقلب موازين الهزيمة والانكسار الروحي والنفسي برغم ذلك إلى مثاباتٍ إبداعيةٍ مُفعمةٍ بالجمال والخلود الفنِّي.
تَأثيثُ فَضاءاتِ المُدَوَّنةِ الشِّعريَّةِ:
إنَّ المُتتبع لمجموعة (لَمْ أكُنْ عَاريَاً قَبلَ الهُبُوبِ)، لا بدَّ وأنْ يقرأَ فيها أنَّ الشاعر في تأثيث هندسة عمارتها الشعرية المتواثبة قد مالَ كثيراً في تدشين أقانيم أسلوبيته الشعرية في قصائده النثرية التكثيفية الإشراقية المركَّزة إلى ضبط إيقاع بنائه التركيبي اللُّغوي والموسيقي الخارجي والداخلي، وخرج بلغته الشعرية التلقائية الممتنعة مُنزاحاً إلى خيار الجمع بين ثنائية الذات الشعرية الوجدانية المعبِّرة عن صوت تفاعلات أناه الشعرية الفردية الضيِّقة، وعرجَ إلى مِساحةٍ أوسع وأرفع شأناً في هذه الذات، تلك هي آفاق الشعرية الموضوعية المشتركة في توحدنها الجمعي. وأنَّ مسوغ هذا الجمع الثنائي لمفهومي الشعرية يُدلِّلُ بوضوحٍ على أنَّ الدالتينِ (الذاتية والموضوعية)، هما مفهومان مهمَّان جداً في الأدب والشعر والفكر والفلسفة، ولا سيِّما إذا كان الأدب شعراً أو سرداً إبداعياً.
ومن الخطل أنْ لا نفهم فروض ومستحبَّات هذا الجمع الوحدوي المتداخل روحاً وجسداً وفكراً ودلالةً ومعنىً في تعالقه؛ لأنَّ الذاتية في أقرب توضيح لها، تعني التعبير عن مجموعة الأفكار والقيم والمبادئ والمشاعر الإنسانية الجيَّاشة والخبرات الشخصية المتراكمة للشاعر أو الكاتب السارد، وهي في الوقت ذاته تعكس بصدقٍ وجهات نظر الفرد (الشاعر) وخبراته الشخصية الحياتية.
وفي الأعم الأغلب أنَّ مفهوم الذاتية يكون متأثراً كثيراً بشحنات المشاعر والخبرات والفيوضات الشخصية المُكتنزة عند صاحبها الكاتب المبدع في التخليق الإنتاجي. في حين أنَّ(الموضوعية)، تعني إحدى أهمِّ وسائل التعبير المهمَّة عن مجموعة الأفكار والمشاعر الإنسانية المحتدمة والخبرات والمهارات الفردية الثقافية المكتسبة من جهة المنظور العام والمستقل عن وجهات نظر الفرد الذاتية الخالصة. أي أنَّها الانفتاح الحُرُّ على آفاق مستقبل العالم الآخر الذي لا بدَّ من مسايرته.
ولهذا يُفضَّلُ في أساليب الشعرية الإبداعية الحداثوية وما بعدها، أنْ تكون فنيَّة الكتابة التخليقية المُبدعة في الثنائيات(الذاتية والموضوعية)متداخلةً مع بعضها بعضاً. حيثُ يمكن للشاعر أو الكاتب أنْ يُعبِّرُ عن رؤاه الفكريَّه وآيدلوجيته العقائدية وهموم مشاعره الشخصيَّة الذاتية الخاصَّة وفق منظور سياق عام جمعي مستقل بعيداً عن الأنانية الضيقة، ولا بدَّ من الخروج من عباءة الفكرية النفعية المصلحية الضيقة الخاصَّة إلى دوحة واعتاب هُوية العالم الآخر الذي ينشد حُبَّ الرفاهية الجمعية والوئام الإنساني العام لأبناء الجامعة الإنسانية في المعمورة الكونية لهذا الجمع المشترك.
وعلى وفق هذه النظرة الجمعية الشمولية والتَّوِحدُن الفكري الإيثاري الإجرائي، اِنسَاقَ رعد زامل راغباً لا رَاهباً في مركزية اشتغالاته الشعرية والفكرية، وحقول معجمه الشعري وميادينه الدلالية الثرَّة إلى سياق هذا النهج الأسلوبي المُختلف تعبيراً، والمؤتلف وحدةً في أكثر من قصيدة شعريةٍ زخر بها قاموس خطابه الشعري في هذه المجموعة التألُّقِيَّة لغةً وتصويراً وثقافةً وأدواتاً.
بَيدَ أنَّ النصوص التي احتفت بها قصائد هذه المدوَّنة وشكَّلت البؤرة المركزية لشعريَّة رعد زامل في طيَّات هذه المجموعة أربع رسائل شعرية متواليةً احتشدت فيها موازين هذا التوافق الجمعي بين هواجس الذاتية الفردية وتطلُّعات الآخر الموضوعية الجمعية، وهي العنوانات الآتية: (رسالةٌ إلى العراقِ، ورسالةٌ إلى أبي، ورسالةٌ إلى سلمى، ورسالةٌ إلى أمِّي)، ونصوص جمَّة أخرى.
1-رسالةٌ إلى العِراقِ:
لا شكَّ أنَّ (رسالةٌ إلى العراقِ)، هي أول هذه الرسائل الإئتلافية التطبيقية الإجرائية المتَّحدة كانت موجهةً لموطن الشاعر ومنبت عيشه الأرضي الفسيح، والتي تمثِّل قمة وقائع الموضوعية الجمعية العراقية الواسعة. حيثُ تحدَّث فيها الشاعر عن قضايا الوطن السياسية والاقتصادية والاجتماعية والحياتية التي تُلامسُ حقيقةَ الإنسان العراقي وحبِّه لوطنه، وشعوره بآثار الفقر والفاقة والغربة في وطنه الذي لا تنقصه ثرواتٌ وطنيةٌ أو ماديَّةٌ أو الجاهُ الحضاريُّ الكبير الذي يقلِّل من شأنه الرفيع. فلنقرأ في هذا السياق الموضوعي ما قاله ابن زامل في مناجاته الأبوية لوطنه وتساؤله الكثير له:
لِمَاذَا يَجرِي نَهرَاكَ بِالدَّمعِ يَا أَبَتِ... ؟
لِمَاذَا أنتَ شَاسعُ الحُزنِ وَغَرِيبْ؟
مَا بَالُ بَساتِينِكَ فِي كُلِّ حَربٍ وَهيَ مُجَزَّرةٌ
تُذبَحُ فِيهَا رُؤُوسُ النَّخيلْ؟
ألِهَذَا دَمعُكَ أَخضَرُ
وَهدَيلُكَ فِي المَلَاجِئ يُشبِهُ النَّحيبْ؟
إِلَامَ يَظلُّ جُرحُكَ فُرَاتَاً
ونَزفُكَ يُخضِّبُ الكَلماتِ والأنَاشيدْ؟
إِلَامَ وَأبنَاؤُكَ فِي المَنَافِي
يستبدُ اللَّيلُ بِأحلامِهُم وَالزَّمهريرْ؟
تُرَى مِنْ أيِّ جُبٍّ ومَنَفَى نَأتيكَ بِقمِيصِهُم؟
(لمْ أكُنْ عارياً قبلَ الهُبُوبِ، ص 55، 56)
لقد أسهمت أدوات الاستفهام (الاسمية والحرفية) السبع:(لماذا المُكرَّرة، ومَا، والهمزةُ، وإلَامَ المُكرَّرةُ، وأيّ) في دفقات هذا المقطع الجمعي الشعري الشعوري الطويل الممتدُّ مع تصاعد أنفاس نياط الشاعر المحتدمة في إيصال صوته المُتهدِّج وصرخاته المدوِّية من خلال تعبيراته المجازية والاستفهامية التواترية التي ألقت الضوء على أكثر من وحدة موضوعية تؤرِّق فكر الشاعر وتقتله.
ومن المؤكَّد أنَّ الشَّاعر في هذا الكم التَّكراري من التساؤلات الوطنية المُنَكِّسة للرؤوس لا يُريدُ قطعاً إجاباتٍ مباشرةً عنها، بل يُريد إيصال معاني تساؤلات رسالاته الصوتية إلى قارئه ومتلقيه ليُشاركه وقع همومه للوقوف على حجم آثار الخراب الذي مرَّ به البلد الآمن الكبير(العراق)في مأزقه الجُبِّي الذي سوَّقه في تناصِّه الدِّيني التَّحوُّلي استدعاءً لقصَّة سيِّدنا يُوسفَ الموضوعية مع والده يعقوب وإخوته في بئر خيانة العهد الواثق بينهم في الآية(96)، لسورة يوسف في قوله:)فَلَمَّا أْنْ جَاءَ البَشِيرُ أَلقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ، فَاِرْتَدَّ بَصِيرَاً قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُم إنَّي أَعْلَمُ مِنَ اللهَ مَا لَا تَعلَمُونَ).
لم يقف الشاعر زامل عند هذا الحدَّ الذاتي الموضوعي المشترك مع وطنه، بل راح يستذكر رمزاً لإحدى الشخصيَّات الشعرية المحبَّبة إلى قلبه، والتي عاشت آثار الغُربة وذاقت طعم المنافي وحياة الفقر والفاقة والتشرَّد والموت الغريب، تلك هي شخصية صديقه وزميل دراسته الأولية الشاعر العراقي المُشرَّد الذي مات غريباً بحادث دراجة في كندا، ذلك هو المتألق عبد الأمير جَرص الذي أسقط سيرته الذاتية على نصِّ رسالته التساؤلية والموضوعية في خطابه الموجه لأبيه وأُمِّه العراق:
أتَعلمُ يَا أَبَتِ أنَّ عَبدَ الأميرِ جَرَصُ
عَاريَاً فِي كَنَدَا يُواجِهُ مَوتَهَ الغَريبْ؟
لَقَدْ أَودَتْ بِحياتِهِ دَراجةٌ طَائِشَةٌ عَلَى الطَّرِيْق
قُبُورٌ كَثيرةٌ عَلَى الأرضِ تَهتِفُ شَواهِدُهَا
بِاسمِكَ فِي آخرِ اللَّيلِ غُرباءٌ كَثيرونَ مِثْلِي
يَذرفُونَ فِي مِحرابِكَ الشِّعرْ
والدُّموعُ فِي عُيونِهُم تَتَأرجَحُ بَينَ الضَوءِ والظِّلْ
(لَمْ أكُنْ عَاريَاً قَبلَ الهُبُوبِ، ص 56، 57)
إن استنطاق الشاعر لإحدى الشخصيات الرمزية والشعرية في وجع تساؤلاته الوجدانية الذاتية المريرة، هو استحضار للموضوعية العراقية ولهُوية الآخرين ممن يعيشون الشتاتَ والتِّيهَ والمنافي الغريبة، وكأنَّهم من خلال وجوههم الغريبة وأرواحهم السليبة أبناء السبيل الذين ينتظرون الرَّحمة.
ومن لوافت الشعرية الجميلة في خطاب الشاعر ومناجاته لوطنه العراق في كثرة تساؤلاته التي ازدحمت بها انثيالات قصيدته الوطنية بهذه الأدوات التعدُّدية الاستفهامية الدالة على وقع معانيها التساؤليَّة، لم يكن هدف الشاعر من تساؤلاته العاصفة هدفاً توبيخياً أو استنكارياً عارياً عن الحقيقة الموضوعية المُرَّة، بل كان خطاباً أبويَّاً تهذيباً بامتيازٍ ومَشحوناً بالعاطفة الفردية والجمعية، بدليل أنَّ استخدامه وتوظيفه لأُسلوب النداء المُحبَّب في جملته البياضية الدالة على تقنية الحذف(يا أبتِ...).
2- رِسالةٌ إِلَى أبِي:
أمَّا الرسالة الفردية الثانية التي بعثها الشاعر ذاتياً إلى أقرب إنسان إليه في الوجود الحياتي، فكانت(رسالةٌ إلى أبي)، وعلى الرغم من أنَّ هذه الرسالة تمثِّل قمة التعبير عن الذاتية الإنسانية في سمت الحديث عن العلاقات الشخصية والعائلية الخاصة للشاعر، فإنَّها في الوقت نفسه تمثِّلُ تعبيراً واستنطاقاً عن لشعور الجمعي للآباء مع الأبناء، وتنطبق موضوعيتها الذاتية والوجدانية على الجميع ولكل الآباء والأبناء في مركزية الجامعة الإنسانية الكبيرة التي لاحدودَ لها في المشتركات.
ولعلَّ المشترك الأسلوبي بين القصيدتين الأولى الموجَّهة رسالتها إلى العراق، والثانية الموجَّهة أي للأبِّ الحنون، استخدامُ الشاعر لأُسلوب الاستفهام التساؤلي وخاصَّةً إذا ما تأمَّلنا مدخل النصِّ الثاني للقصيدة الثانية ونظرنا لمطلعها الاستهلالي لوجدنا استفهاماً خاصَّاً عن الكيفية الحالية لروح هذا الأب الذي يعيش حياة برزخ الموت في قبره واستنطاقه وتذكيره بحنينه إلى معالم النهر أو الشطِّ القريب من بيته. ذلك الشاخص الرمزي المكاني الذي كان مسكوناً بهِ وبفضاء حياته؛ وذلك كون هذا الحاني كان يعمل صيَّاداً ماهراً للأسماك ثروة عطاء هذا النهر الذي أخذ ردحاً طويلاً من عمر وحياة الأب البسيط الفاني الذي كان الشاعر نفسه شاهداً عينياً يُشاركه الشعور ذاته نحو النهر:
وَكيفَ هِيَ رُوحُكَ فِي البَرزخِ أيُّهَا الأبُ؟
وَهلَ مَا زَلْتَ تَحُنُّ إلَى النَّهرِ المُحاذِي لِكوخِنَا؟
لَا شَيءَ يُثيرُ غُبَارَ القَلقِ
لَا شِيءَ سِوَى أنَّ رِيحَاً غَامضَةً قَدْ عَصفَتْ بِالكوخِ
وَأنَّ النَهرَ لَمْ يَعُدْ غَيرَ مَجرَىُ لِلدمُوعِ
أمَّا شَجرةُ الزَّيتونِ الَّتِي وَدَّعتَنِي تحتها
فَلَا غُصنَ فِيهَا يُوحِي بِالسلامِ
لا شَيءَ قَدْ تَغيَّرِ تَحتَ سَماءِ كُوخِنَا القَديمِ
لا شَيْءَ يَا أبتِ
(لمْ أكنْ عاريَاً قَبلَ الهُبوبِ، ص 59، 60)
وأنَّ اللَّافتَ للنظر في تداعيات هذا النصِّ أن الشاعر زامل مثلما أثار سيلاً من الأسئلة لوالده في المقطع الأول من القصيدة ذاتها نراه يجيب عن كثرة تساؤلاته الوجدانية المثيرة بلغة من ينفي الحدث ويثبته ويؤكِّده من خلال استخدامه للأداة(لا) النافية لجميع الجنس مع اسمها النكرة(شيءَ)، والتي تكرَّرت لتقوية المعنى وتأكيده مرتين أخريين في جملتيه (لا شيءَ يُثيرُ غبارَ القلق)، و(لا شَيءَ أنَّ رِيحاً غامضةً قدْ عصفتْ بالكوخِ). وقد أضاف لهذا الإثبات في نفي النفي توكيداً آخر بالأداة الناسخة(أنَّ) الحرفية الناصبة، فاثبت للنهر قائلاً:(وأنَّ النهرَ لمْ يَعُد غَيرَ مَجرىً للدِّموعِ).
يا لبلاغة هذا التعبير الفردي الذاتي الجمعي في توصيف حركة النهر التي أصبحت لا قيمةً نفعيةً لها سوى كونها مجرد وسيلة لجريان الماء لا للحصول على الثروات المائية التي يكتنزها بداخله!
وأنَّ مثل هذا التوصيف الذي حفل به النهر، نهر القرية أو المدينة احتفت به رمزية شجرة الزيتون التي لا غصن فيها يوحي بعلامات السلام من بعد موت الأبِّ. ومن أجل تأكيد المعنى الشعري وتقويته ونزع الشكِّ عن متلقيه كرَّر الشاعر عبارته المحورية (لا شَيْء) النافية للجنس أربع مرات في مقاطع القصيدة الأخرى؛ كي يُثبتَ لها بالأداة (أنَّ) صفة الحضور الشكِّي الروحي الذي كان تتمايز به قبل الموت. كما ويقابل هذا التوكيد التكراري توكيدٌ آخر بعبارة النداء المحبَّب للنفس مرتين(يَا أبتِ) الذي أكَّدَ فيه الشاعر بخاتمته النصيَّة التشاؤمية التي ينفي فيها من يشهد على ذبوله:
يَا أبَتِ... إذَا مَا مِنْ أحدٍ يَشهدُ عَلَى ذُبُولِي...
(لمْ أكُنْ عَارياً قَبلَ الهُبوبِ، ص61)
ومما يُزيد من جمال القصيدة الغنائية الذاتية ويرتقي فيها من أسر ظلال الفرديَّة الشخصية إلى كون فضاء الموضوعية الجمعية الشاسعة، تماهي الشاعر وهوسه بعناصر الطبيعة الكونية(الثابتة والمتحركة) والارتماء بأحضان ووقع رموز مثاباتها المكانية وصدق حرارة التفاعل مع مشاهد موجوداتها وحقولها الدلالية التعدُّدية المُبهرة حقَّاً، (أنهاراً، وأشجاراً، وأغصاناً وريحاً، وصحراءً، وسماءً، وتراباً، ومجرىً، وأكواخاً)، وصوراً لونيةً مبهجةً وتمثُّلاتٍ حيَّةً أخرى تعبيراً عن صدق مشاعره وأحاسيسه النفسية والروحية الجيَّاشة تجاه هذه التشكُّلات الطبيعية المغذِّية لديمومة لحياة.
يَا أَبتِ سِوَى أنَّ أُمِّي الصَحراءَ
قَدْ وَزَّعتْ ظِلالِكَ عَلَى الإخوةِ التَّماثيلِ
وَأنَّ نُطفتَكَ الخَضراءَ مُعلَّقةٌ لَمْ تَزلْ عَلَى حَبلِ الهَجِيرِ
فَانظرْ إليهُم كَيفَ يَحثُّونَ التُّرابَ
بِوَجهِ نُطفتِكَ الحَزينةِ
(لِمْ أكُنْ عَارياً قَبلَ الهُبُوبِ، ص 60)
3- رسالةٌ إلَى سَلمى:
لا نعدمُ لوجود مثل هذه الذاتية الغنائية المُفرطة وجوداً لذاتيةٍ أخرى محبَّبة للنفس؛ ولكنَّها من نوع آخر يخرج عن سياقه الصمتي الفردي إلى ميادين الجمع الإنساني المشترك، تلك هي رسالته الثالثة الموجهة بياناتُها الاجتماعية النصيَّة المُشعرَنة وسهامها العاطفية والروحيَّة إلى أكناف حضن الحبيبة الأولى في نصِّه العنواني الدال على واقع ذاتيته التفرُّدية الرمزية (رسالةٌ إلى سَلمى). فمن هي سلمى يا تُرى؟ إنها معشوقة الشاعر الحقيقية إبَّانَ سِنِّي دراسته الجامعية الأولية بكليَّة الآداب في بغداد، والتي أبعدته عنها الفوارق الطبقية والمالية القاتلة عن فضيلة الاقتران بها وحرمانه منها.
وسلمى هي الاسم الرمزي لمعشوقته، وليس الاسم الحقيقي لها، والتي تَعلَّق بها قلب الشاعر فَحَزَبَتْهُ، وجَسَّدَها بهذه الرسالة الوجدانية التي كان فيها عاشقاً لا مَعشوقاً. وسلمى هي علامة رمزية إنسانية لكلِّ وجمعِ المعشوقات الحياتية في الوجود المحيطي، وليست حصراً على خاصية الشاعر الذي راح يستدعيها للوجود الذاتي ويستنطقها بأجمل تحيَّةٍ يوميةٍ، تلك هي تحيَّةُ المساء المعطَّرة في مطلع قصيدته الهادئة دليل على تعلُّقه الرُّوحي ما زال قائماً بها رغم إمارات التنائي والتجافي الزمني العالقة بينهما بدلاً من أوصر اللُّقيا وطيب التداني. وبرغم ذلك فإنَّ موضوع واقعة فعلها الحدثي كان قاسياً بينهما على أسماع تلك الحبيبة التي لم تتنكر له يوماً؛ لكنَّ القدر الزمكاني العاثر وكروبه المقيتة هي التي حال بينها وفرَّقت شملهما شرقاً وغرباً، وزماناً ومكاناً.
فها هو ابن زامل الشاعر الكَيِّس الودود الشفيف يخرج من قمقم صمته الحزين الماثل فيصفها وصفاً مؤلماً تحت مُسمَّى يقول فيه لها أصبحتِ بعد هذا الحبَّ:(أُمَّاً لقطيع من الأطفال) يا سلمى. فما أقسى ذلك التشبيه القطيعي الذي يُحيل صورة الأمومة الأنوثية الرؤمة إلى سرب قطيعٍ من البهائم الحيوانية! ولم يكتفِ بذلك التوصيف الشعوري رغم تعلُّقه الشديد بها، بل زاد عليه ذمَّاً آخر في تعديم وكسر صورة تلك المرأة الحسناء الحقَّة، ذمَّها بأوصافٍ تنال من ذات كينونتها الشخصية رغم الحُبِّ الشديد الذي يكنُّهُ لها، لكنَّه التعبير الثأري الناجم عن وقع فقدانها وابتعادها الأبدي عنه:
مَساءُ الخَيرِ يَا سَلمَى...
يُقالُ إنَّكِ أصبَحتِ أُمَّا لِقطيعٍ مِنَ الأطفَالِ
وَيُقالُ إنَّ البَنفسجَ فِي عَينيكِ قَدْ تَلَاشَى
وَإنَّكِ مَحنِيَّةٌ عَلَى الدَّوامِ
تَلتقطينَ مَا يَتنَاثرُ مِنْ أغصَانِ أحلَامِكِ
سَمِعتُ أنَّ كَأسَاً هَذَا الصَّباحُ
قَدْ هَوَتْ مِنْ بَينَ يَديكِ وَانكسَرَتْ
(لَمْ أكُنْ عَاريَاً قَبلَ الهُبُوبِ، ص 62، 63)
الشاعر في انتقاداته على الرغم من وقع تلك الهجمة الشرسة القاسية التي يشنُّها بحقِّ تلك المرأة التي لا ذنب لها في ما حصل لها من قهرٍ اجتماعي خارج عن رغبتها الإنسانية، فإنَّه يركن في نهاية المطاف إلى أسلوب التوافقية والمهادنة والهدوء والإقرار الذاتي بالواقع الموضوعي الحدثي المكين الذي فرض ضروبه عليهما كمعشوقين حالت بينهما غائلة الزمن، فكان الفراق مصيرهما.
فما كان منه إلَّا أنْ يُهدِّئها من ذلك الحزن الذي يمكن إصلاحه بطريقة طالباً منها في الوقت نفسه عدم الاعتذار عن موقفها من عدم الوصال معه قارَّاً الشاعر في الوقت ذاته بوجعه ونكوصه وانكساره الذاتي وهزيمته العاطفية بعد مرور أكثر من ثلاثين عاماً على حادثة هذا الحُبِّ الذي مرَّ بمحطَّاتٍ خُذلَانٍ كثيرةٍ، آخرها صوت الشاعر المكسور قلبه جَرَّاءَ هذهِ الرحلة العشقية عبر التراسلِ الزمني الأثير من بواعث شعريته وحنينه لأول عشق وطأته قدماه وشعرَبِهِ قلبه رغم بون المسافة:
لا تَحزَنِي... يَا سَلمَى
كُلُّ شَيءٍ يُمكنُ إصلَاحُهُ فِي نَهايةِ المَطَافِ
ثُمَّ مَا مِنْ شَيءٍ يَبقَى عَلَى حَالهِ سِوَى قَلبِي
قَلبِي الَّذي كَسَرتِيهِ عَلَى يَدَيكِ
حِينَهَا لَمْ أُطالبُكِ بِالاعتذارِ
****
إنَّكَ فِي كُلِّ يَومٍ بِهذهِ الرِّحلةِ سَتركبينَ أَكثرَ مِنْ قِطَارٍ
وَفِي كُلِّ مَحطَّةٍ سَتسمعينَ صَوتَ اِنكسَارِي
(لَمْ أكُنْ عَاريَاً قَبلَ الهُبُوبِ، ص، 63، 64)
إذا كانت هزيمة الشاعر وانكساره ووجعه الذاتي على المستوى الشخصي، فإنَّ ألفَ ألفَ رَعد زامل، وألفَ سلمى في الوجود الجمعي تُعاني ما عاناه الشاعر في نصِّ رسالته لسلمى المعشوقة لا العاشقة، وإنَّ ما كان ألماً ذاتياً، يصلح أنْ يكونَ ألماً جمعياً مشتركاً لهموم الإنسانية الثقيلة المتعدَّدة.
4- رِسالةٌ إلَى أُمِّي:
إنَ آخر تراتيل الشعر وخيبات الوجع والانكسار الروحي الأربع التي حفلت بها مدوَّنة رعد زامل الشعرية هذه، تلك هي رسالته الذاتية الموجَّهة إلى أُمِّه الحبيبة، والتي جاءت دالةً على معاني ومضامين دلالتها العنوانية الصريحة المباشرة (رسالةٌ إلى أُمِّي)، والتي تحدَّث فيها الشاعر بصدقٍ وحميميةٍ عن مشاعر العلاقة الشَّخصية العائلية التي تربطه بها وجوداً وكوناً.
ولا أدري لماذا الشاعر لم يكن موفقاً في ترتيب رسائله الأربع من حيث الأسبقية الزمانية لها، فإذا كان الوطن الكبير(العراقُ) يستحقُّ منَّا ومن الشاعر أنْ يكون محلَّهُ العالي والسامي في صدارة هذه الرسائل وفي مقدِّمة بواكيرها الطلليَّة الرائدة ترتيباً، فإنَّ تأخير رسالته الموجَّهة لأُمِّه، وإيثاره بتقديم رسالتي الأبِّ وسلمي الحبيبة على رسالة الأُمِّ أمرُّ لم يكن في الحسبان والتوقُّعات الخارجة عن جدار أفق المألوف الرتائبي الذي لا يمكن إقراره بمبدأ القبول من حيث المفاضلة والترتيب.
ولا أدري ما السبب الذي دفع الشاعر زامل في رسالة خاتمة هذه الرسائل الأربع التي تجمع سماتها الفنيَّة بين محتوى الذاتية الضيِّقة والموضوعية الواسعة كما أشرنا لها في مواضع كثيرة من هذه الرسالة؟ فهل أنَّ سلمى الحبيبة من نوافل المستحب لا الواجب تُقدَّمُ رسالتها على رسالة الأُمِّ التي وضعت الجنة -إكراماً- تحت أقدامها العارية وحضنها الأليف الدافئ؟! ألَا تستحق الأُمُّ أنْ تكون في الصدارة بعد رسالة الوطن الكبير؟ والمسوغ قد تكون للشاعر أسبابه النسقية المُضمرة وعفويته وأعذاره الحقَّة المُبهمة في هذا التأخير الذي تلفُّهُ ضبابية موضوعة(الموت) والفقد الرحيم لها. بدليل أنَّ الشاعر كان موجعاً بالأسى، وكان تشاؤمياً وحزيناً لفقدها الكبير، بل كان كما يرى ويعتقد أنَّه يُدَرِّبُ نفسَهُ الذاتية المازوشية المتألمة على ظُلمة القبر ووحشته في آخر اللَّيل البهيم.
فضلاً عن وقع حديثه الهامس الودِّي لها في نهاراته المُوحشة عن فعل مُنكرٍ ونكيرٍ، وعن أحلام يقظته ورؤياه الحُلُمية المحبَّبة لها، والتي لم تنقطع يوماً عن الاستذكار لها، مُتمنيَّاً وراجياً ومخلصاً من خلالها أنْ يطوي آخر صفحة من صفحات كتاب حياته الشخصيَّة المعذَّبة بموتٍ رحيمٍ يجمعه في محاولةٍ منه في غلق آخر أضواء ذلك النفق الطويل الذي يمدَّه بتكرار الرؤيا وصور الفقد الجمّيل. إنَّه شعور بالانكسار والتلاشي بدلاً ممن ذلك الشعور المملوء بالألم من تلك الذئاب الهائمة التي تنهش روحه المُستباحة؛ نتيجةً لسخريةِ القدر الناشب لروحه، ونوازلِ العذاب المُضني الكبير:
عَنِ المَوِت الَّذي وَصَلتُ إلَى حَافتهِ
وَعَنْ سَالفِ الأيامِ أقولُ يَا أُمِّي:
لَقَدْ كُنتُ أُدَرِّبُ نَفسِي عَلَى ظُلمَةِ القَبرِ
فِي آخرَ اللَّيلِ
وَأُحدِّثُها عَنْ مُنكرٍ وَنكيرٍ بِأطرافِ النَّهارِ
وَلَمْ أكُنْ عَاطلاً عَنِ الأحلَامِ يَومَاً
فَلَقدْ حَلِمتُ بِيدِ اللهِ وَهيَ تَطوِي
أخرَ صَفحةٍ مِنْ حَيَاتِي
وَمَعَ كُلِّ حُلُمٍ كُنتُ أظنُّ أنَّ المَأزقَ سَينتهِي
(لَمْ أكُنْ عَاريَاً قَبلَ الهُبوبِ، 65، 66)
ويستمرُّ الشاعر في طقس مناجاته الذاتية، وفضاء تماهيه الشعوري مُستذكراً في الوقت ذاته تلك الأيام الخوالي والمثيرات التي عاشها في ظل كنفها حتَّى وصل في دفقات لوحة تراتيله الشعورية الوجدانية المشحونة بالألم إلى أقصى مراحل أو مشاهد الفناء وصور الحياة الفنية بآخر القصيدة:
هَذَا مِنْ بَعدَ أنْ ذَبَحُوا الشَّمسَ
عَلَى مَرأَى مِنْ نَوافذِ بِيتِكِ
فِي هَذِهِ الحَياةِ الفَانيَةِ...
(لَمْ أكُنْ عَاريَاً قَبلَ الهُبُوبِ، ص 67)
وتظهر على الأفق معاناة الشاعر ومكابداته الحياتية من أثر الشامتين والمناوئين له في آخر صورة من صور هذه القصيدة التي تتحدَّث عن جدليَّةِ (الحياة والموت) الفاني لها جملة من المشاهد التعبيريًّة المأساوية التي تختلط فيها روح المشاعر العاطفية الوجدانية والذاتية للشاعر بالمشاعر الموضوعية الجمعية المشتركة لمحيطه من الناس؛ وذلك بكون الأُمّ أيقونة إنسانيةً حيَّةً، وتُمثِّلُ لهم رمزاً ووطناً وأرضاً وسماءً تلتحف بها جميعُ الناس وتغطِّي حياتهم الإنسانية بوافر الودِّ والعطاء.
ولعلَّ اللَّافت للنظر في مثل هذه المشاعر الإنسانية المهجوسة بحزن الشاعر أنَّ القصيدة ذاتها ابتدأت بمفردة (الموت) الفاني ذاته، وكأنَّ الشاعر رعد زامل يؤكِّد لِمُتلقيه أنَّ خِتامَ القصيدة بحسن جمال المطلع؛ لأنَّ الموت حقٌّ على كلِّ إنسانٍ يؤمن به بالقدر الفاني، وأنَّ الحياة ما هي إلا رحلة ماراثونيةٌ سريعةٌ فانيةٌ ماتعةٌ لا تأخُذ منها سوى الخلودِ الذي يصنعه الإنسان بعمله المذهل في مساراته عمله الذاتية بهذه الحياة. فلا يَنفعُ التَّمتُّع بِاللَّذات ولا الغِيدِ الحِسَانِ، فكُّلنا راحل عنها وفَانٍ.
بقي أن نستخلص من خواتيم هذه الرسائل الشعرية الموجَّهة لجهاتها المعنية الأربع، (الوطن والأبُّ وسلمى والأمُّ) موحيات هذا اللَّون القصدي من أساليب فنيَّة التعبير الشعري الذي يُعدُّ من أهميات الشعر العربي الحديث؛ بوصفه جامعاً لحمولات خصائل وسمات الذات الشاعريَّة الفردية وصفات الذات الإنسانية الموضوعية (المَا حَوليَّةِ) ومخرجاتها الزمكانية؛ كونه جاء تعبيراً عن آفاق وتجارب الحياة الشخصية وخصوصيات العَلاقات الاجتماعية العائلية، والوطنية الوجودية المتوحدة. ومن دلائل شعرية هذا الخلط التوليفي المتداخل الرؤى ما نجده جدليَّاً حاضراً في فجائية نصٍّ(غيابٌ):
مُنذُ أْن غَابَ عَنْ هَذهِ الأرضِ وَجهُ أبِي
وَأنَا تَحتَ لَهيبِ الشَّمسِ
كُلَّمَا طَرَقتُ بَابَاً خَرَجَ لِي
مَنْ يَحثُو التُّرابَ فِي وَجهِي
وَكُلَّمَا آوَيْتُ إلَى شَجَرَةٍ طَردَتنِي
مِنْ ظِلِّهَا البَارِدِ المَمدُودِ...
(لم أكنْ عَاريَاً قَبلَ الهُبُوبِ، ص 105)
فَضاءاتُ الخِطَاب الشِّعريَّة:
لم يكن رعد زامل في كلِّ مدوناته الشعرية الإبداعية شاعراً نصوصيَّاً مألوفاً مثل بعض نظرائه شعراء النصيَّة المشهدية الكُثَار في أيامنا الحالية أو التي خلتْ من قبل، إنما كان شاعراً ثقافياً وصاحب مشروع شعريٍّ ثقافيٍّ مُتجددٍ الأفكار والرُّؤى ببدائله الثقافية التي لا تقف في سعة اشتغلاتها البؤريَّة والمركزية عند دائرة ضيقةٍ من سلسلة الأفكار المعطوبة البالية والمستهلكة الرتيبة المعادة في مِساحة كشوفاته الشعرية وتمظهرات فتوحاته الصورية الإبداعية. لذلك لم يغفل الشاعر شأناً مهمَّاً من شؤون الحياة التداولية المعصرنة، ولا همَّاً من هموم الناس وذاتها الإنسانية الموَّارة إلَّا وقد تناوله في تضاريس قصائده الوجودية الداخلية وتخوم مدونته الشعرية الناطقة.
فكتب عن أثر النكوص، وعن وحشة الطريق في غابات الحياة، وعن جمر الكلام، وعن لواعج هموم الغربة وعن إسقاطات النفس في الأحلام، وعن جمرة النسيان، وعن خطيئة الإنسان وفلسفة أفكاره، وعن حصار الذات الفردية الضيقة وعزلتها عن المَا حَولِ الخارجي، وعن آثار عاصفتها قبل الهبوب. ولم ينس الحديث عن هُويته الاسمية الصريحة (رعد زامل) في سبعة نصوص توثيقية إقراريةٍ اعترافيةٍ صارخة بتردداته هُويته الشخصية الإنسانية وتجربته الشاعرية، وعن رمزية الذات الشاعرية من خلال ضمير الفاعلية المستترة في أكثر من نصٍّ من نصوص خطابه الشعري.
فكتب أيضاً أربعة نصوص مكانية خصَّ بها البصرة مدينة الشعر والإبداع، مستعرضاً فيها مدى حبِّه وإخلاصه وولائه الجمَّ لمدينة السيَّاب الحيوية الفاعلة، ومنشداً في الوقت ذاته بأشعاره لفضائها الرحب، ونخلها الكثير الوارف، ومثابات موانئها وجمال شطها ومحاذاة بحرها وأمواجها وحقولها الفسيحة وأشرعة سفنها المكتظة ورمزية سندباها البحري وأثرحكاياتها وتاريخها التراثي والثقافي.
لم ينس الشاعر أنْ يستدعي في ثنايا تلك النصوص النَّدِيَّة والمُحتشدة بمرايا عينه الشعرية الكاشفة الثانية ويستحضر رمزاً بَصْرِيَّاً شبابياً مهمَّاً من رموزها الشعرية والقصصيَّة المُقيمين في المنافي بمغتربهم البعيد في بلجيكا وفاءً وحبَّاً لعيون البصرة وثقافة أهلها المبدعين، ذلك هو ابن خالته الشاعر المعروف بـ(مُهنَّد يعقوب)، الذي هو أخ الشَّاعر والأكاديمي الدكتور سراج محمَّد يعقوب:
قُولُوا لِمُهَنَدٍ
لِذلكَ اللَّامعُ القّصِيُّ
إنَّ جَدَهُ يَعقوبُ مَا زَالَ يَجوبُ اللَّياليَ وَالأيَامَ
وَهوَ يَصيحُ: كَذِبٌ هَذا الدَّمُ عَلَى القَمِيصِ
(لْمْ أكُنْ عَاريَاً قَبلَ الهُبُوبِ، ص 98)
والشاعر في تماهيه التناصِّي التحوُّلي الجديد يُقارب ما بين يعقوب جدِّ الشاعر مهند، والنصِّ القرآني القديم الذي يُخِبُر عن قصَّة يعقوب أبِ سيِّدنا يوسف في قضية القميص الذي جاءوا به إليه بدمٍ كاذبٍ مُفتعلٍ على أنه دم يُوسفَ في حين أنَّه كان دمَ سَخْلَةٍ: (وَجَاءوا عَلَى قَمِيصهِ بِدَمٍ كَذِبٍ).
ثمَّ ختم رعد فِهْرَست هذه المجموعة الشعرية بنصوصٍ وثنائياتٍ مُتضادةٍ عديدةٍ تتحدَّث عن اليأس والأمل والشكّ واليقين، والمرئي وغير المرئي، وعن دجلة والفرات، وعن العروج من الأرض إلى السماء، وعن الورود والأشواك، وعن الغياب والحضور، وعن الميلاد والممات، وعن الوجود والعدم والثبات والندم، وعن الرسائل التي تحملها الطيور في أخبارها عن آثار الحزن والسرور.
ومن النماذج الإجرائية الشعرية المهمَّة لهذه المحطَّات والمرافئ الذاتية والموضوعية نصُّ قصيدته الرمزيَّة (طفلُ الفراتِ) التي هي من نصوص وقصائد شعره التراثي القليلة ذات القافية الشعورية المُتحركة التي يُحيلنا فيها الشاعر زامل إلى سياحة البوح الفكرية والإمتاعية الزاخرة الإضاءات في فنارات ومحطَّات عوالمه الوجودية المنسابة عبرَ أثير فضاء دفقاته الشعورية النابضة بالحياة:
يُحَمِّلُنِي الهَوَى مَا لَا يُطاقُ
فَأكبُو ثُمَّ يَسندُنِي اِشتياقُ
وَيَخنقنِي بِطَفَّكِ ألفُ بُوحٍ
وَكُلُّ البُوحِ مَولايَ اِختنَاقُ
يَتيمَاً بًعدً كًفِّكِ ظَلَّ رَأسِي
كَمَا فِي حُزنهِ ظَلَّ العِرَاقُ
رَأيتُ بِيومِ نَحرِكِ ألفَ شَمسٍ
إلَى الظُلُماتِ فِي قَفَصٍ تُسَاقُ
رَأيتُ يَدَ الحَقيقةِ فِي وِثَاقٍ
وَيَنزفُ فَوقَ مَعصَمِهَا الوُثَاقُ
(لَمْ أكُنْ عَارياً قَبلَ الهُبُوبِ، ص 81، 82)
شِعريَّةُ التناصِّ الثَّقافيّ:
لم أرَ مجموعةً شعريةً بهذا الحجم الكمي الصغير، والنوع الكيفي المكثَّف الكبير الذي احتفتْ بما احتفت به مدوَّنة رعد زامل (لَم أكُنْ عَاريَاً قَبلَ الهُبُوبِ)، واكتنزتْ به زاخرةً بالثراء النوعي المكين من التناصَّات الشعرية عن غيرها من المجاميع الشعرية الأخرى من إصدارات الشعراء المبدعين في النقديات الشعرية العراقية الحديثة. فقد احتوت مضامين هذه المدوَّنة وقصائدها ومحتوياتها الموضوعية على(12) تناصَّاً شعرياً، لتناصَّات دينيَّةٍ وتاريخيةٍ وأدبيَّةٍ وثقافيَّةٍ زيِّنتها بتحولاتها النصيَّة التجدُّدية تسعُ قصائد تُشكِّل الثُّلثَ من بين قصائده(31)، وكانت موزَّعةً على فضاء ديوانه توزيعاً إجرائياً عفوياً غير مُتَكلُّفٍ وفق قصائد العنوانات الآتية: (ترنيمةٌ، نكوصٌ، إسقاطاتٌ، جمرة النسيان، العاصفة، رسالة إلى العراق، غربةٌ، نصوص البصرة، نصوص)، وتكرَّر في قصيدتين.
وأنَّ اللَّافت في هذه التناصَّات أنَّ شعريتها الفنيَّة جاءت منسابةً تجرُّ أذيالها لخلافة الشعر دون تَكليفٍ أو إجبارٍ أو تصنعٍ أو لَيٍّ لِعُنقها، بل على عكس ذلك امتازت بسمة العفوية وصدق التلقائية. والتناصُّ في أقرب تعريف موجز لمفهومه الأدبي الذي حفلت به نظريات الأدب الحديث ونَقَّاده من الذين استقرَّ عندهم أمثال الناقدة البلغارية الأصل جوليا كرستيفيا وباختين وجيرار جينيت وغيرهم، هو إدخال نصَّ أدبيٍّ جديدٍ في نصٍّ آخر أصلي قديمٍ يمتزج فيه ليُشكَّلَ نَصَّاً جديداً مُتكاملاً والتحوُّل عنه من خلال هذه الاقتباسات النافذة الأثر برؤيةٍ فكريةٍ أَلمعِيَّةٍ جديدةٍ تخدم الوحدة الموضوعية لمدوَّنة الخطاب الشعري الَّتي يستنطق فيها الأديب الشاعر مكنونات تراث الحياة الإنساني المعيش.
وقد سعى رعد زامل في أغلب تناصات قصائده الشعرية إلى استقراء التناصِّ الثقافي المعرفي غير المباشر، والذي يمكن أن يسمَّى بتناصِّ الأفكار الموضوعي المُستنبط من نصوص الذاكرة التراثية التاريخية الواعية بالمقروء الثقافي الذي يستشعره القارئ أو المتلقِّي عبر آليات القراءة وجماليات التلقِّي المعرفي في كتب النصوص الدينية والرمزية والشعرية والتاريخية والأُسطورية والأدبيَّة الأصلية المؤثِّرة التي اكتنزتها ثقافته الشعريةالمُكتسبة عن تجلِّيات الدين والأساطير والتراث.ولنقرأ في هذا المجال المعرفي أنموذجاً لنصِّه الشِّعري(العاصفةُ) الذي استلَّ منه عنوان مدونته الرئيس:
لَمْ أكُنْ عَاريَاً قَبلَ الهُبُوبِ
وَلكِنَّ العَواصفَ تَسلِبُ النَّاسَ أشَياءَهُم
اُنظُرِي إِلَى الرِّيحِ
كَيفَ تُقَلِّبُنِي ذَاتَ اليَمينِ وذَاتَ الضَّيَاعِ
مِثلَمَا تَعصِفُ بِطائِرَةٍ مِنْ وَرَقٍ
ثُمَّ اُنظُري كَيفَ أَضيعُ مِثلَ طِفْلٍ
لَا أثرَ لَهُ بَعدَ العَاصفةِ
سِوَى الخَيطِ الَّذي كَانَ عَلَى يَدِهِ
ثُمَّ اِنقطَعَ
(لَمْ أكُنْ عَاريَاً قَبلَ الهُبُوبِ، ص 52)
لقد استفاد الشاعر زامل في تأثيث المقطع الأول من قصيدته هذه من سورة هود الآية(85) في المقاربة التناصِّيِّة بين العواصف والميزان في خاصية النهي في سلب أشياء الناس وبخس حقوقهم ظُلماً وتجاوزاً للناس وفقاً لقوله تعالى ((ولا تَبخسُوا النَّاسَ أشيَاءَهُم ولَا تَعثُوا فِي الأرضِ مُفسدِينَ) ولكون تأثير الريح العاصفة الهبوب كان موجعاً لحال حركته الذاتية فقد أضاف إلى هذا التناصِّ النِّصي الديني تناصَّاًآخر استمدَّ في تضمينه الفكري والمعرفي من معنى سورة قصة أهل (الكهف)، الآية(18) وأسقطه على تدفقاته النصية الشعورية مستفيداً في مسار حركة تقليبه الرياحية من قوله: (وَتحسِبُهُم أيقَاظَاً وَهُم رُقُودٌ وَتَقلُّبُهُم ذَاتَ اليَمينِ وَذَاتِ الشِّمَالِ وَكَلبُهُم بَاسِطٌ ذِراعِيهِ بِالوَصِيطِ).
أمَّا في المقطع الثاني من قصيدته(نُصوصٌ)، فيذهب الشاعر في رسم لوحة تناصِّه الأدبي إلى الإفادة من العنوان الرئيس لرواية اللَّاتيني غابريل غارسيا ماركيز (الحُبُّ في زمن ِالكُوليرَا)؛ لِيُشيِّدَ تأثيثَ قصيدته في المقاربة الشعرية بين ذاته الشاعرية وبين مفتاح ثيمة هذه الرواية السردية من حيثُ ثنائية الشعور بحبِّ (الموت والكآبة) التي يشعر بها في زمن حصل فيه وباء الكوليرا القاتل.
العُصفُورُ قَدْ مَاتَ مُصاباً بالشَّكِ وَالحَيرةِ
وَتَمَاماً كَمَا يُشارُ لِيْ بِالكآبَةِ
فِكِلَانَا أحبُّ فِي زَمنَ الكُوليرَا
(لَمْ أكُنْ عَاريَاً قَبلَ الهُبُوبِ، ص 100، 101)
يحيلنا الشاعر ابن زامل في نصوص مجموعته الشعرية (لمْ أكُنْ عَارياً قَبلَ الهُبُوبِ) إلى نظرته الفكرية ورؤاه الفلسفية الشعرية الضاربة بالعمق الإنساني عبرَ متضاداته الصُّورية في مجموعة من الثنائيات الفكرية التي تهمُّ الإنسان مثل، اليأس والأمل والحياة والموت والاحتراق وعدمه مثلما يحيلنا النِّفَّرَي في نظرته الصوفية ومواقفه الفكرية في قوله: (كُلَّمَا اتَّسعتِ الرُّؤيةُ ضَاقتِ العِبارةُ).
لذلك الأمر الجمعي المُتوحدن وتلك الرؤية الشمولية الخاصَّة لا يمكن أن نسلخ صور ومعاني ودلالات الحزن المستديم منه والقابع تحت جلده الشعري السميك، والذي لا يمكن الخلاص منه أو الفكاك عنه مَهما استبدَّ به الألم وطال أمد العذاب؛ لكن الذي يمكن أن نأخذه من شخصية رعد زامل(أَيوبُ الشعرِ الحديثِ) المازوشية الصَبُورة، هو شعريته الذاتية المِقدَامَة الإيثارية المُبدعة لا سلوكياته الشخصية الحياتية الخاصَّة التي لا تعرف عوامل اليأس طريقاً للفشل، بل تُعبِّدها طريقاً مُتجدَّداً نحو آفاق الأمل وشطآن الحياة المستقبلية الزاهرة بالعطاء الإبداعي الفذ الذي هو مراميه:
كَم ضَاقَ بِي
فِي هَوَاكِ اليَأسُ وَالأَمَلُ
وَصُرتُ بِالمَاءِ
رُغمَ المَاءِ أشتعلُ
(لَمْ أكُنْ عَاريَاً قَبلَ الهُبُوب، ص 100)
على الرغم من مِساحة ضيق هذا الحبِّ والشقاء النفسي الذي يشعر به الشاعر ويُعلنه إشهاراً لِمتلقِّيه وهدفاً مَقصدياً واضحاً من خلال هذه الـ(كم) الخبرية، فإنَّ فرضية التساؤل المعرفي التي تُلقي بحجم ظلالها على رؤية الشاعر وشعوره بالألم. كيف يمكن أنْ يَحدُثَ مثل هذا الاشتعال الرُّوحي اللَّاهب والمُضمَّخ بالماء الشبم البارد الذي رسم لوحة صورته التجريبية الشاعر بدمه! فهو رغم الماء يشتعل لا ينطفئ لهيبه الذاتي بالماء. ولا يمكن أن تحدث مثل هذه الألفة الجمعية من الضرب التضادي المزدوج بالمصاحبة في بوتقةٍ شعورية واحدةٍ إلَّا عندَ هُويَّةِ رعد زامل الشاعر المملوء منجمه الشعري بتباريح هوى الحزن السومري الجنوبي الضارب المنبت بتاريخه الأصيل.
الشاعر الذي صَيَّرَ بِمُعجمهِ الشعري المعاصر وبإيقاع لُغته التعبيريَّة المؤثِّرةِ الحَبكِ حقولَ التنافرِ وأقطابَ التناحرِ الحدثي الفعلي للفواعل الحركي كوناً جديداً. فصارَ الألم عندَهُ أملاً، والرمادُ حياةً، وبدَّدَ وحشةَ اليأسِ والقنوطِ فرحَاً ورحمةً، والحياة تجدُّداً ونهجاً وعملاً دون شعور بأيِّ كَللٍ أو مَلَلٍ. إنَّها شعرية الإبداع المكين التي وهبته هذه الروح الجمالية والفنيَّة التي جعلته أن يكون في تجربته الشعرية الباذخة الشاعرَ والإنسانَ في ظلِّ رهانات هذا العصر وعقابيل أثار هذا الزمان.
***
د. جبَّار ماجد البهادليّ / ناقدٌ وكاتبٌ عراقيّ