قراءات نقدية
عبد الـمـُجيب رحمون: مغامرة السرد النسائي في مواجهة الأنساق الثقافية (2)
نقد رواية "أموات يحكموننا ل شيماء أبجاو"*
تنميط خطاب المرأة: عندما لا تتحقق الشروط الضرورية، يـخفق العمل الفني في توليد الأثر الذي يريده الكاتب، وعلى رأي "ميلان كونديرا: لا يستطيع الروائي المعاصر الذي يشتاق إلى الحرية المرنة التي كتب بها المؤسسون الأوائل، أن يقفز فوق موروث القرن التاسع عشر، إذ عليه أن يجمع بين متطلبات التأليف القاسية؛ الجمع بين حرية "رابليه" و"ديدرو" في الكتابة والتخطيط المنظم الصارم، الذي يتطلبه التأليف[1]. من شروط الإبداع إذن إحداث الأثر، والأثر بمفهومه النفسي هو التفاعل مع الموضوع، أو المتعة «وهو العنصر السائد في القصة، وهو الطاقة المحركة فيها، [...] ولعل تنوع عقليات القراء، أو تباين تجاربهم في الحياة، أو اختلاف أمزجتهم هي العناصر التي تحدد مصدر المتعة في الأثر الأدبي»[2]، هذا التفاعل ينطلق من توجهات انطباعية محدودة بالحكم على العمل بجدته أو رداءته، أو منهجية، تتعلق برأي نقدي مشفوع بأدلة، وأسمى أنواع الأثر هو الذي يحرك في القارئ شهيته لمساءلة النص ومساجلته، سجالا معرفيا، من هذا المنطلق لا يمكنا إلا نقبل برهان هذا العمل الأدبي، ونقبل بأسئلته الوجودية والثقافية بل والدينية، هذه الأسئلة على لسان شخصيات متنوعة يحدوها التأمل والمعرفة، باعتبار أن اختيار الشخصيات تحكمه خلفية معرفية كذلك، فاسم طارق، وسلوى، وسعيدة، والسيد المصطفى، والهاشمي تستضمر كما هائلا من التأويلات والقراءات يمكن أن تشكل مبحثا خاصا لدلالة الأسماء لأن «الشخصيات من أصعب جوانب الفن الروائي يمكن مناقشتها تبعا لحضورها في النص»[3].
إن موضوع هذه الرواية في نهاية المطاف وبأبسط تعاريفه رسالة فنية من الذات المتشظية الملتفحة بنيران وقسوة المجتمع، إلى مجتمع آخر يؤمن بأفكار الرواية ويتبناها؛ قد نكون جزءاً منه .«فالمحك الحقيقي لعظمة القصة، أو الخلود أي أثر أدبي، على اختلاف الأساليب والموضوعات، هو مدى اتصاله بالحقائق التي تجعل الحياة الإنسانية أكثر عمقاً»[4]، لكن ما يُلاحظ على العمل فنيا هو طريقة الاشتغال على مفهوم الحبكة، لقد أخلت الكاتبة بقواعد هذه التقنية حينما كسرت وأوقفت الحوار الشيق المعرفي/ الوجودي بين "السيد المصطفى" وابنه "طارق"؛ حوارٌ يتأسس على أسئلة فلسفية أنطولوجية، بنفس سردي لم يكن طويلا وعميقا، لأن الغاية الكبرى لهذا العمل تتجلى في انتقاد منظومة متوارثة ذكورية منطلقاتها القرآن والسنة، وبين الأسئلة والرهان فقَدَ مسار الحكي بوصلته، ليقع في تحنيط وتنميط خطاب المرأة، وتكرار تلك المعزوفة المتمثلة في قهر الرجال للنساء، من منطلق الدين، ولو واصلت الساردة مسارها السردي في السؤال والحوار الفلسفيين كان العمل سيبدو بصورة أخرى. لذلك فالرهان في مواجهة الأنساق الثقافية كان مغامرةً سرديةً، من جهة البناء الفني، ومن جهة تناول الموضوع، لأن الدين في نهاية المطاف في خدمة المجتمع، والمجتمع في خدمة الفرد، والتربية الدينية هي تحرير العقل من الأفكار المسبقة والأحكام المتوارثة كما يؤكد ذلك جان جاك روسو[5]، ولعل الأديان جميعها تتوحد في رؤيتها وتصورها للإنسان عبر قانون أخلاقي أو ميثاق مؤسساتي منظم للسلوك وموجه له. ولعلنا نتساءل ـــ بقصد إضاءة جوانب النقد الروائي الذي يضع على عاتقه مسؤولية القراءة والتوجيه، علما أن مستويات هذا النقد تخضع بدورها لمقولات مختلفة ـــ، لماذا ننظر إلى الدين الإسلامي نظرة أحادية، ونتبنى خطابا واحداً ووحيداً من بين خطابات متشعبة ومتنوعة؛ وهو خطاب المرأة وعلاقتها بالرجل؟، ثم نقوم بتحليل هذا الخطاب من زاوية ضيقة مُشبعة بأفكار حداثية موغلة في التشديد والاستلاب؟ لماذا يُنظر إلى هذا الدين بمنظار واحد ضيق، هل خطاب المرأة و علاقتها بالرجل هو محور الدين؟ وهل ظلم المرأة وسلبها للحقوق هو ما يمكن أن نتحدث عنه؟ نتفق مع الكاتبة في كون المجتمعات على اختلافها تعيش هضماً لحقوق الإنسان، ثم إن علاقة الرجل بزوجته أو أبنائه إذا شابها سوء خلقٍ أو إهانةٍ، فهذا السلوك لم يقر به نص، وإنما سلوك فردي أملته دواعي كثيرة منها النفسي المرضي، والسوسيو الثقافي والاجتماعي. وبناء على ذلك كيف لنا أن ننظر إلى صورة المرأة واستهلاك أنوثتها في المشهد البصري، واعتبارها مادة إعلانية ممن يدعون إلى التحرير والتحرر؟ كيف نقبل بالممارسات العدائية على النساء،؟ كيف نقبل بتشغيل القاصرين في المزارع والحقول؟ كيف نقبل بترك الأمهات في دور العجزة؟ هي أسئلة في صميم معاناة المجتمعات الإسلامية والدينية عموما تكرس لقهر المرأة وظلمها من طرف سياسات بشرية وليس من طرف دين سماوي.
خاتمة
في الأخير مثلت رواية "أموات يحكموننا" سجالا معرفيا وفلسفيا ونقديا مع التراث، والمجتمع، والدين، وشكلت في جزء منها رؤية مغايرة للكتابة النسائية، لأنها لم تقع في اجترار مواضيع الذات الأنثوية، وأبانت عن تصور معرفي فلسفي ميز العمل؛ قبل أن تنزلق الحكاية إلى مسار التنميط، وتقع ضحية تصور ماضوي لا ينتمي لميثاق الأخلاق الذي يدعو إليه الإسلام، وإنما هو فكر متطرف استدعته أوضاعٌ وظروفٌ سياسية، ولا يقبله عقل ولا منطق، وهو منزلق أو هفوة سردية يمكن الاصطلاح عليه "بالومضة السريعة" ( Eclat rapide (هذه الومضة السريعة أملاها غياب السياق الذي يعد موجها للخطاب ومؤثرا فيه.
***
د.عبد الـمـُجيب رحمون
.........................
الهوامش:
* نشر الجزء الأول بتاريخ 24/07/2024، عبد الـمـُجيب رحمون: مغامرة السرد النسائي في مواجهة الأنساق الثقافية (1) (almothaqaf.com)
[1] أيمن الغزالي، لذة القراءة في أدب الرواية، دار نينوى، سوريا، الطبعة الأولى 2001، ص: (9ـــ10).
[2] يوسف نجم، فن القصة، دار بيروت للنشر، لبنان، 1955، ص: (11، 13).
[3] انظر، ديفيد لودج، مرجع مذكور، ص: (78).
[4] يوسف نجم، مرجع مذكور، ص: (60).
[5] انظر، دين الفطرة، ترجمة عبدالله العروي، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى 2012، ص: (15-16).