قراءات نقدية
يوسف علوان: القصة القصيرة جدا وعتبة العنوان في مجموعة "بصيرة البلبل"
للكاتب والروائي حنون مجيد
استطاعت (القصة القصيرة جداً) ان تبرهن على أنها جنسا أدبيا مستقلا بذاته، وقد تحقق لها ذلك بعد هذا الكم الهائل من الإصدارات، والدراسات النقدية، والمهرجانات الأدبية المحتفية بها، والجوائز التي أنشئت ونظمت تقديرا لروادها. ويعتبرها البعض جنس المستقبل، لأن الحياة بجميع نواحيها تنحو للاختزال والتكثيف والسرعة، ولا ريب إن التطور الهائل في وسائل الاتصالات، والتغيرات الاجتماعية والسياسة والثقافية العميقة، ساهمت في ولادتها لتماشي إيقاع الحياة المتسارع. اضافة لدعائمها القوية، التي تتمثل في المفارقة المدهشة والعمق الكشاف، والرمز النفاذ والكثافة الخصبة، واللحظة الزمنية البارقة ودقة التقسيم المدهشة، والطاقة الإيحائية الممتعة والأساليب الشاعرية الشفافة، ومكوناتها السردية.
ونستطيع ان نقول عن القصة القصيرة جدا بانها السرد الصعب، من بين جميع الاجناس السردية الاخرى، فهي صعبة الكتابة وصعبة القراءة! لان كتابتها تستوجب سردية موجزة حاذقة وقدرة كبيرة على استشفاف اللغة وتوظيفها بأقل الجمل وأجملها، بالرغم من ان المساحة الأفقية والعمودية المتوفرة لها اقل مساحة مما تتوفر للاجناس الأخرى. وهي صعبة القراءة لان هذه الجمل القليلة والصغيرة جدا في اغلب الاحيان، تستوجب من القارئ جهودا كبيرة للمساهمة في هذا العمل عبر الرجوع على قراءاته السردية السابقة، لاستكشاف الصور التخيلية التي يبعث بها القاص. علاوة على اختزالها للكثير من أدوات الرسم التي يهبها الراوي او القاص لقرائه، مثل الوصف والحكي والاسترجاع، التي تساعده في اكتشاف المعنى المحدد لتلك الصور المطلوبة! لا شك ان كاتب القصة القصيرة جدا عند الانتهاء من كتابة قصته الصغيرة جدا وتسطيرها على الورق، يحس بالراحة والخلاص من ثقل المهمة التي كان يقوم بها! بينما يدوم هذا الثقل والتعب لدى قارئها لفترة طويلة بعد انتهائه من قراءتها للبحث عن معاني الجمل والكلمات، والتنبه لجميع علامات الترقيم، ليستشف العوالم الخيالية التي اراد ان يُوصلها الكاتب، من خلال هذه الصور اللغوية الصغيرة والمختصرة، والتي سطرها بدراية ومهارة لا يملكها الا من تمكن من سلاسة لغته وحبكة قصته وعمق جمله وسعة افقه الفني. وإن الحدث في هذا الجنس الحديث يجب أن يكون متنامياً يومئ ولا يوضح، وأن يكون مكثفاً دون إفراط في استخدام الكلمات التي لا تفيد القصة، ويستند على فكرة عميقة، ويتصف بالسمات الدرامية من فعل وحركة وتوتر اللازمة لنمو الحدث وإحداث الصدمة وصولاً إلى النهاية في حبكة محكمة ومتقنة. وهي معنية بتناول حدث محدد في لحظة توتر، بأقل عدد من الكلمات، ولابد أن يكون نصا سريع الإيقاع، فعلي الجملة، مكثف الهوية، وهذا هو الفارق بينها وبين القصة القصيرة الاعتيادية.
ومثلما في جميع اجناس السرد الاخرى يكون للعنوان أهمية كبيرة، كذلك في القصة القصيرة جدا، فللعنوان اهمية كبيرة لانه نص مواز للمتن القصصي القصير جدا، يظهر مدى الارتباط و الصلة التي تجمع بين العنوان والنص، ويساعد من خلال استفزاز القارئ وإثارة انتباهه، واستمالته وإقناعه لتقبل موضوع القصة والتعاطف مع ثيمتها، والعنوان بوابة القصة، ومفتاحها لضبط النص، ووسيلة تحديد هويتها، به نبتدأ وبفضله يدفعنا الفضول لقراءة ما يضمه النص وطبيعة الموضوع الذي نحن بصدده، وبداية لحوارية المتلقي مع هذا النص!
في "بصيرة البلبل" المجموعة القصصية القصيرة جدا التي صدرت عن دار غراب للنشر والتوزيع القاهرة 2018، للكاتب والروائي حنون مجيد، الذي مارس كتابة الاجناس السردية جميعها؛ الرواية والمسرحية والقصة القصيرة والقصيرة جدا وقصص الاطفال. وقد نشرت اعماله السردية في الكثير من الصحف العراقية والعربية وتُرجم الكثير منها للغات اجنبية عديدة. نستشعر باهمية العنوان في مجموعته القصصية هذه، ومن خلال تلك العناوين يدخل القارئ إلى صلب محتوى ومضمون النص. وسنستعرض البعض من هذه العناوين التي نستمد من مغزاها، أو من طبيعتها الإيحائية، والتناصية، والساخرة ما ابتغاه وسعى اليه القاص في قصص مجموعته هذه:
العنوان الايحائي
يساعد الايحاء القارئ في التخييل واشراك الفكر بحثا عن مدلولات المفردات والتراكيب مما يمنح النص جمالية ويمنح المتلقي لذة البحث والتقصي بما توحي به هذه المفردات..
(صوت الآخر...)
استطاع القاص هنا ان يوظف اسم المجلة التي يعمل فيها الصديق (صوت الآخر) في العنوان الذي رمز له بالموت (الصوت الآخر..) الذي بات ينادي صديقه بسبب الداء الخبيث الذي يستعصي شفائه. عنوان هذه القصة يقود الى ما يخشاه كل انسان يلازمه ذلك الداء الخبيث، و(الآخر) هو رمز الى عالمنا الآخر، الذي من المحال ان نبعد عنه الى ما لا نهاية فكلنا راحلون! وقد اشارت الجملة التي تحت العنوان "الى روح صديقي عبدالستار ابراهيم" للايحاء للقارئ ان الصديق لابد من رحيله: اما مقاومته للمرض واصراره على الحياة فلن تجدي، لذلك رفع ذراعيه قائلا؛ كفى.. كفى.. ها انا قادم إليك" ص8.
(عجلات)
في قصة (عجلات)، نلاحظ مجموعة افعال الجمل السردية المتوالية والمتعاقبة، التي ينبني المقطع السردي عليها في القصة ورسم صورة لما يعانيه هذا الطفل، بتنقله بين اكشاك الصحف والمجلات لاكمال قراءة مجلته المفضلة، لعدم امتلاكه النقود لشرائها وقراءتها، فيضطر للقيام بالوقوف امام كشف بائع الصحف ليقرأ مجلته. ولا يكتفي عن ذلك عندما ينهره البائع وينصرف متألما الى كشك آخر، ليعود لتصفح المجلة ثانية، فإذا نهره البائع الاخر ذهب محزونا الى غيره. محاولة قراءة المجلة ونهره من قبل بائعي المجلة لاكثر من مرة واصراره على اكمال قراءتها ومن ثم نهره من جديد، يشبهه القاص بدوران العجلة، في لا نهائية دورانها المستمر! لكنه ازاد على ذلك بتشبيهه بعجلات العربة المتعبة في طريق صعب!: "تدور عجلات هذا الصبي مع المجلة عينها كما تدور عجلات العربة المتعبة مع الطريق العسير" ص9.
(طيور "السايلو")
"على ريح عاتية هبت فجأة انهار "سايلو" المدينة.. طيوره التي استباحت قمته من قبل وعاشت وتكاثرت بين مفاصله، تشتت في البعيد والقريب وطفقت تراقبه..." القصة توحي لـ(السايلو- مخزن الحبوب) كأنه البلد الغني الذي كان يسكنه اهله وهم متنعمين بخيراته لكن رياح عاتية هبت عليه واسقطته وابعدت اهله عنه. وهذه المحنة (انهيار السايلو) دفع بالطامعين من الغرباء (طيور غريبة)! غزت خيراته المسفوحة على الارض لتستبيحها، وبسبب شقاق هذه الطيور الغريبة واختلافها فيما بينها وتحولها الى صيد سهل للصيادين؛ "يحزن السايلو (البلد) على حبوبه (خيراته) تتبدد وتنفد، "فيلقي بلومه على الريح ولم تكن اي ريح" ص34.
العنوان التناصي
تقنية التناص، يلجئ اليها القاص في بعض الاحيان لانها تتيح له حرية في الحركة أو القول لا تتوفر خارج التناص .. فالإشارات اللغوية من ترتيب الكلمات أو الاقتباسات أو التلميحات الثقافية بأنواعها المختلفة، كلها علامات تحفز التخييل على استنطاق الموجودات النصية .
(البرهمي)
هنا يحضر تناص النصوص مع العنوان وما يحيل إليه من مضمرات كامنة في ذهن القارئ، حيث يشترك المرسل والمرسل اليه في تشكيل الرؤية إلى عالم هذه القصص، فالعنوان يثير في المتلقي الرغبة في التأويل في قصة (البرهمي) عنوان القصة وما كتب تحته: "بتصرف"، هيئ القارئ للبحث في قراءاته السابقة فالحكاية التي تدور بين البرهمي الذي عطف على النمر المحبوس واطلق سراحه، وتصرف النمر غير المتوقع ورغبته لافتراس هذا الرجل الذي انقذه من قفصه! وهي تشير الى المثل الذي يقول: "خيرا تفعل شرا تلقى". ولولا ذكاء الثعلب الذي طُلب منه التحكيم في هذه الحادثة، والذي استطاع ان يعيد النمر الى القفص مرة ثانية، بعد ان طلب من النمر والبرهمي ان يحكوا له الحكاية من اولها؛ فادخل النمر القفص واعاد غلقه وانقذ الرجل. واستغراب الرجل من انقاذ الثعلب له بدون اجر، وعندما سأل الثعلب عن سبب انقاذه؟ اجابه الثعلب بفخر وخيلاء؛ "هذا لانك برهمي مني!" معلوم ان هؤلاء القوم يعتبرون انفسهم الطبقة الافضل في مجتمعهم.. ص7.
(بئر يوسف)
في هذه القصة يوحي العنوان واستهلال القصة الى فضاء قصة اخوان النبي يوسف وتآمرهم للخلاص منه بالقائه في البئر: "في النهار يستمع الى حداء الركبان يطرقون أرضه فيطرب ويسلو وحدته، في الليل يسترخي على قصصهم حين يؤون اليه، ويتزودون من مائه". غير ان البئر يشح بمائه رفقا بالنبي يوسف حين يلقوه اخوته في البئر: "ليستقبل جسده الكريم بترف ولين، وليحميه من موت"! ص66.
(حجر ماتا)
القصة تحكي حياة امرأة اتهمت بالتجسس المزدوج تدعى ماتا هاري، هذه المرأة الهولندية التي فتنت جماهير باريس برقصاتها التي كانت تؤديها كراقصة في معبد هندي، والتي أشعلت الخيال الجامح للبوهيميين في أوروبا أثناء العهد الجميل الذي سبق الحرب العالمية الأولى. وهناك عدد لا يحصى من القصص، ليست كلها حقيقية، تدور حول حياتها البراقة والغامضة. اعتقلت ماتا هاري، واسمها الحقيقي مارجريتا جرترودا زيلي، في مداهمة أثناء الفجر لفندق فخم في باريس. أدينت بأنها عميلة مزدوجة وبتهمة الخيانة العظمى، .
وفي 15 تشرين الأول 1917، تم إعدامها رميا بالرصاص في فينسين على مشارف باريس، وكانت تبلغ من العمر حينذاك 41 عاما، رفضت ماتا هاري وضع عصبة على عينيها وصارت توزع القبل على جلاديها. استطاع الكاتب حنون مجيد ان يلخص حياة هذه المرأة: بهذه الكلمات القليلة وهي ترمي حجرا مسننا بعد تودعه وصيتها: "ابتعد ايها الحجر، واحمل ماضييّ معك، كل عاري، وكل اخطائي التي ارتكبتُ". وتدفن كل ماضيها. ص71.
العنوان الساخر
وهو يوجه توقعات القارئ لموضوع معين، إلا ان هذه التوقعات تتغير اثناء قراءة النص:
(البطل)
"عندما قابلته تراخت اعصابي وكاد يُشلُّ لساني، ومع ذلك جرؤتُ وسألته؛ سيدي العظيم" كلمة العنوان؛ (البطل) واستهلال القصة يشيران الى الصورة المهيبة التي يرسمها لنا الكاتب عن شخصية هذا المصارع؛ الذي استطاع الفوز على كل خصومه، فهو الجبار الذي لم يستطع ان يقف بوجهه احد؛ فالاعصاب التي تراخت والشلل الذي اصاب لسان السائل والجرأة التي تطلبتها عملية السؤال، وصفة السيادة والعظمة التي اطلقت عليه!. وعندما تجرأ السائل وسأل اجابه البطل بشكل غريب؛ "ما قابلتُ رجلا إلا وساعدني على نفسه، اما انا نفسي فلا اعلم!" فالعنوان هنا جيء به للسخرية من هذا الرجل المصارع الهيبة والفخامة، لان جوابه كان نقيضا لصورته، فهو لا يعلم كيف يصرع الاخرين! لكن الاخرين هم الذين يساعدونه للانتصار عليهم لانهم يتهيبون منه! فيخشونه ليصرعهم! ص5.
(السحرة ونحن)
القصة تتحدث عن واقعنا الذي نعيشه الان؛ "صديقي؛ عندما حدثته عن ان امس، خدعنا ساحر بألعابه الماهرة حتى بتنا نتذكرها كل حين، فنحزن علينا او نضحك منا ثم نغضب عليه..." فلم يشر العنوان (السحرة ونحن) الى الساحر الاول وسحرة الوقت الحاضر، بل اشار الى السحرة والى المتأثرين بسحرهم (نحن) كناية الى مصيبتنا، التي استمرت منذ الساحر الاول الى وقتنا الحاضر؛ فنحن كنا نحزن على انفسنا او نضحك منها، معه؛ غير ان ما شاهدناه من هؤلاء السحرة الجدد اشد وطئة من ذاك الساحر الذي مضى منذ زمن بعيد؛ "لا نحزن ولا نغضب وكأننا اموات" اذن السحرة الجدد اوصلونا الى الموت. فهل السبب امتلاكهم للفطنة والذكاء، أم غفلتنا وغباءنا؟ تساءل يحمل السخرية والمرارة بما نعيشه الان، ودوام هذه الحال التي نعيشها؛ "يبدو الامر كذلك!"(ص38).
(قسمة عادلة!)
"ليرتوي.. أمر الشيخ احد عبيده ان يسقيه ابريق لبن مباشر من ضرع البقرة التي نسي اسمها من بين اسماء مئةٍ مثلها، قبل ان ينهض الى صلاة الفجر.. الى قريب من بيته الكبير، كوخ فيه طفل ملتاع، يشاكس منذ اول الليل ثدي امه الذاوي على قطراتٍ لكي ينام". جمل هذه القصة جميعها مملوءة بالسخرية من القسمة غير العادلة في هذه القصة التي يروي احداثها القاص، فالحليب الذي يشتهيه الشيخ، وشرط ان يكون من ضرع البقرة؛ من اي الابقار التي يمتلكها ويبلغ عددها المائة يحضره له أحد عبيده؛ الذين من الأكيد أنهم اكثر من عبد يتملكهم الشيخ، صاحب البيت الكبير ليذهب الى الصلاة ليقف بين يدي ربه ليشكره على هذه النعم التي يعيش فيها! بينما الكوخ الذي يجاور بيته او قريب عليه طفل ملتاع من الجوع بسبب ثدي امه الذاوي بسبب جوعها هي الأخرى لذلك جف الحليب لديها! كل ذلك وهي (قسمة عادلة!) نشهدها في كثير من الاحيان وبمختلف الصور! ليس هناك من سخرية مؤلمة وموجعة بسبب هذه القسمة! ص51.
***
يوسف علوان