قراءة في كتاب

حاتم حميد محسن: تصنيع العسكرتاريا وبروباغندا امريكا في الحرب على الارهاب

منذ هجوم 11 سبتمبر قبل 24 عاما، والولايات المتحدة تشن حربا ضد الارهاب في داخل البلاد وخارجها. ان الحرب على الارهاب أعادت صياغة حياة الامريكيين بشكل جوهري. اجراءات ادارة نظام النقل TSA اصبحت شرطا مسبقا للسفر الجوي. ملايين الامريكيين وضعوا أرقام هواتفهم وبياناتهم الوصفية الاخرى لدى وكالة الأمن القومي. طبقا لدراسة عن تكاليف الحرب في جامعة براون، فان الحكومة الامريكية أنفقت اكثر من 8 ترليون دولار في تلك الحرب. الدراسة وجدت ايضا تكاليف انسانية باهضة شملت وفاة اكثر من 900 الف شخص في الحرب على الارهاب. البعض من طلاب الاقتصاد يتسائلون ما اذا كان لدى علم الاقتصاد ما يقوله حول العالم الذي يعيشون فيه، خاصة ان كانوا تعلّموا فقط نماذج مجردة. لكن الاقتصاد ليس فقط مجموعة نماذج مجردة على اللوحة. الاقتصاد طريقة في التفكير. وكما يقول بيتر بوتكي peter Boettke ان طريقة الاقتصاد في التفكير هي مجموعة من النظارات تساعدنا لنرى العالم الذي حولنا بوضوح.
في كتاب تصنيع العسكرتاريا يستعمل المؤلفان Coyne and Hall الاقتصاد لتوضيح الحرب على الارهاب. وبشكل خاص، يستعمل المؤلفان الاقتصاد لتوضيح دور بروباغندا الحكومة الامريكية في الحرب على الارهاب. هما يقتبسان من الفيلسوف جاسون ستانلي Jason Stanley في تعريفه للبروباغندا في "ثلاث خصائص رئيسية":
1- البروباغندا هي متحيزة وكاذبة بشكل متعمد. هدفها منع الناس من الوصول الى معلومات صادقة.
2- البروباغندا تُستعمل لتعزيز هدف سياسي.
3- البروباغندا هي سيئة من منظور اولئك المُستهدفين برسالة اصحاب البروباغندا لأنها تُضعف قابليتهم على عمل حكم مستنير". وبينما هما يعترفان بان البروباغندا يمكن ان توجد في عدة مجالات من الحياة، لكنهما يركزان على بروباغندا الحكومة والأمن القومي الامريكي. هما يسلطان الضوء على هذه الظاهرة الهامة مستخدمين مزيجا من نظرية اقتصادية وتاريخ حقيقي. المنظرون الاقتصاديون يستعملون نماذجا لتحليل العالم الاجتماعي. هذه النماذج تصف الحالة المثالية. في هذا النموذج، تتوفر للمواطنين امكانية الوصول الى المعلومات حول آداء المسؤولين الحكوميين. بموجب هذه المعلومات، هم يمكنهم القاء المسؤولية على المسؤولين ومحاسبتهم. هذا يخلق حوافز للمسؤولين للتصرف لمصلحة مواطنيهم. في ظل هذا النموذج، لاحاجة هناك للبروباغندا. اذا كان المسؤولون يعملون سلفا لرغبة المواطنين عندئذ لايحتاج المسؤولون الى بروباغندا لضمان دعم المواطنين. ايضا لا توجد هناك مساحة للبروباغندا في هذا النموذج. المواطنون ُيفترض لديهم معلومات كافية تحول دون الخداع.
لكن وكما يبيّن المؤلفان هول وكوين ان حكومات العالم الواقعي تنحرف بشدة عن هذا النموذج المثالي. الدول الحالية تتميز بمشكلة الموكل- الوكيل او مشكلة تضارب المصالح principal-agent problem. مشكلة الموكل- الوكيل تحدث عندما يمتلك شخص معين (الموكل) اصولا لكن السيطرة الحقيقية هي بيد شخص ما آخر (وكيل) يُفترض ان يعمل لمصلحة المالك. فمثلا،الشركات هي "مملوكة لأصحاب الأسهم الذين يجب ان يثقوا باولئك المستأجرين لإدارة الشركة وخدمة مصالحهم". الوكيل سوف يعرف أشياءً لايعرفها المالك، وايضا لديه الخبرة والوقت. عدم تماثل المعلومات يعني ان هناك مساحة للوكيل يمكنه التصرف فيها بشكل نفعي، يتجاهل مصلحة المالك. مشكلة الموكل-الوكيل لاتنطبق فقط على الشركات. جميع الدول الديمقراطية تعاني منها. مواطنو الدولة الديمقراطية يمكن فهمهم كموكلين، والمسؤولين الحكوميين كوكلاء للمواطنين.
الاعتقاد الشائع هو ان المسؤولين الحكوميين لديهم حافز قوي للعمل لمصلحة المواطنين، وان المواطنين لديهم القدرة للتصويت على اخراج السياسيين من مناصبهم. لكن المؤلفين يشيران الى عدة عوامل تحول دون التغذية الديمقراطية. احد هذه العوامل هو الجهل العقلاني. بما ان صوتا واحدا من غير المحتمل ان يغير نتيجة الانتخابات، فان الناخبين يصبح لديهم حافز ضعيف للحصول على معلومات مفصلة عن تصرفات المسؤولين الحكوميين. وحتى لو اكتسبوا فعلا مثل هذه المعلومات، فان الوقت الفاصل بين الانتخابات يجعلهم غير قادرين على معاقبة المسؤولين المنتخبين الا بعد ان يصبح الوقت متأخر جداً لإبطال قراراتهم. هذا الوضع يخلق ركودا في النظام تستغله المصالح الخاصة لكل من الشركات والموظفين الحكوميين.
وبالطبع، السرية المتعلقة بسياسة الأمن القومي تجعل هذه القضايا أكثر حدة. هذا يعني ان حالة النموذج المثالي لن تنجح، وتبقى هناك مساحة هامة لمسؤولي الحكومة الأقوياء لإستعمال البروباغندا في إستغلال الجماهير.
التحليلات الاقتصادية التي يقدمها الكاتبان هي نظرية الإختيار العام الكلاسيكية. منظّرو الخيار العام يستعملون أدوات الاقتصاد لتقديم تحليل واضح للحكومة. بدلا من افتراض النية الحسنة، هم يدرسون الحوافز الدافعة للناخبين، والسياسيين الباحثين عن الاصوات، والبيروقراط، والمقاولين.
لكن المؤلفين يقدمان أكثر من نظرية. هما يستعملان مثالا واقعيا ليبيّنا ان النظرية صالحة تجريبيا. في بداية الكتاب، يناقش المؤلفان التاريخ الطويل لبروباغندا حروب الولايات المتحدة. هما يتعقبان بروبوغندا الحرب على طول الطريق رجوعا الى الثورة الامريكية ويقدمان تحليلا ثاقبا للبروباغندا خلال الحربين العالميتين الاولى والثانية واثناء الحرب الباردة. في النهاية، هذا فقط يمهد الطريق لتركيزهما الأساسي: وهو الحرب المستمرة على الارهاب والتي غيرت شكل حياتهما جذريا.
ان الحرب على الارهاب متعددة الأشكال. احد أهم المظاهر للحرب كان غزو واحتلال العراق. العديد من الامريكيين يعرفون الآن ان الغزو ارتكز على ادّعاءات كاذبة مثل القول ان صدام حسين متورط بهجوم سبتمبر وانه كان يطور أسلحة ذات تدمير شامل. لكن كيف أقنعت الادارة الامريكية المواطنين بهذه الادّعاءات؟
(كل منْ يريد ان يفهم بشكل أفضل البروباغندا التي استُخدمت لتسويق غزو العراق يجب ان يقرأ هذا الكتاب).
المؤلفان يوضحان بعناية ما عرفه المسؤولون وما قالوه، مبيّنين "عدم الارتباط بين ما عُرف من جانب مسؤولي الحكومة الامريكية وما عُرض على الجمهور". هما ايضا يوضحان كيف استعمل مسؤولو الادارة الامريكية الميديا لتسويق الادّعاءات الكاذبة. المصادر لدى الادارة تقوم بتسريب المعلومات الى الصحافة، مثل الادّعاء بان حيازة العراق على انابيب المنيوم عملاقة يشكل دليلا قويا على برنامج العراق النووي. وعندما نشرت صحيفة ذي نيويورك تايمز هذه المعلومات، أشار المسؤولون مثل كونداليزا رايس ونائب الرئيس دك شيني الى القصة كـ "إشارة للمصداقية المستقلة خارج الادارة".
استمرت البروبوغندا بعد الغزو، حيث كان المسؤولون يعملون بنشاط لتشكيل الرأي العام حول الحرب. هم استمروا باستعمال ستراتيجية الميديا في غسل الأدمغة. حيث قاموا بدمج الصحفيين ضمن القوات المسلحة الامريكية الامر الذي غير الحوافز والمعلومات المتوفرة لدى اولئك الصحفيين. الافراد الذين لديهم علاقات مباشرة مع متعاقدي الدفاع واللوبيات والبنتاغون ظهروا في نشرات التلفزيون لكنهم عُرضوا كخبراء مستقلين.
كانت الميديا التي تنقل تقاريرها عن الحرب على الارهاب مشوهة بشكل كبير بفعل بروباغندا الحكومة الامريكية. هل يمكن للامريكيين تجنب هكذا بروبوغندا عبر تجاهل الأخبار؟ بالطبع كلا. وكما يبيّن المؤلفان، ان الامريكيين يُغمرون ببروغندا الحكومة عندما يشاهدون أحداثا رياضية، او يذهبون للمطار، او يشاهدون افلاما صيفية.
أنفقت وزارة الدفاع الامريكية ملايين الدولارات لرعاية العروض الوطنية في الأحداث الرياضية خاصة ألعاب اتحاد كرة القدم NFL . ليست "الوطنية المدفوعة الثمن" الشكل الوحيد لبروباغندا الرياضة لما بعد سبتمبر 2001. عندما ترك لاعب كرة القدم الامريكي Pat Tillam اتحاد الكرة ليلتحق بالجيش، بدأ المسؤولون الحكوميون استعمال خدماته العسكرية كفرصة للبروباغندا. وبعد ان قُتل بنيران صديقة في افغانستان، أخفى المسؤولون الكبار في الحكومة الامريكية المعلومات عن وفاته. الكاتبان قاما بعناية بتوثيق ما عرفه المسؤولون، وعن الفجوة بين ما عُرف وما قيل علنا، وكيف خدم هذا الخداع بروباغندا الحرب.
في كل مرة يسافر بها الامريكيون في الطيران التجاري، يُطلب منهم المرور خلال نقاط تفتيش اُعدت مسبقا من جانب ادارة أمن النقل. الكاتبان يجادلان بشكل مقنع ان ادارة امن النقل لم تجعل الامريكيين اكثر آمانا. هي متورطة في بروبوغندا من خلال مزيج من تطبيق اجراءات أمنية وتهديدات متضخمة. ولهذا السبب فان أفعالها ترسخ الاطار الأوسع للحرب على الارهاب حتى عندما لاتخدم صراعا معينا. لكن هذه الاجراءات الأمنية تأتي بتكاليف هائلة للحريات المدنية. وبالذات تكون مؤذية لبعض المسافرين جوا. مثل اولئك ذوي الاطراف الاصطناعية والأكياس المساعدة للقولون والادوات الطبية الاخرى. الناس تعرّضوا لتعامل مهين، وبشكل أكثر من أي فوائد أمنية.
يواجه الناس البروباغندا ايضا عندما يذهبون لمشاهدة الأفلام. العديد من الافلام تُنتج باستعمال موارد تُقدم من جانب وزارة الدفاع، مثل الاجهزة العسكرية. لكن لكي يحصل منتجو الافلام على هذه الموارد، يمنحون وزارة الدفاع حق الفيتوعلى ما يكتبون من نصوص وبرامج. هذا بالطبع يغير الرسالة والافكار المنقولة في الافلام وعروض التلفزيون.
موارد الحكومة تُستعمل كمكافأة لتشجيع صانعي الأفلام لإرسال المزيد من الرسائل المفضلة حول العسكرتاريا الامريكية. كتاب عسكرتاريا التصنيع يمكن ان يلهم مزيد من البحوث في المستقبل ويشجع ايضا القراء على التفكير النقدي حول سلطة الحكومة وكيفية مقاومة العسكرتاريا.
***
حاتم حميد محسن
.......................
كتاب تصنيع العسكرتاريا: بروباغندا حكومة الولايات المتحدة في الحرب ضد الارهاب للكاتبين كريستوفر كوين و أبيجيل هول، صدر عن مطبوعات جامعة ستاندفورد/كاليفورنيا عام 2021.

 

في المثقف اليوم