قراءة في كتاب

علجية عيش: ملاحظات حول "سؤال العدل في السياسة اللغوية المغاربية"

في التربية والتنمية، للدكتور العربي فرحاتي..

دعوة إلي تكريس المواطنة اللغوية في المغرب العربي

***

(سؤل: بأيّ لغة كان الرسول يراسل الملوك لنشر الإسلام؟)
حان الوقت لاستحضار الوضع اللغوي وتاريخه من حيث هو وضع متعدد الإثنيات والعرقيات للحديث عن العدالة اللغوية في الدول المغاربية، فهذا الوضع أفرز وضعا متعدد اللغات واللهجات علي مستوي هذه اللغات، هي الإشكالية التي طرحها الباحث الدكتور العربي بلقاسم فرحاتي من جامعة باتنة، وهو يتطلب تدخل السلطة بسياسة الشأن اللغوي وتخطيطه وفق لحاجات المجتمع فالتعدد اللغوي تفرضه مظاهر "العولمة" وفي هذا يُحيل الدكتور العربي فرحاتي الباحثين والأكاديميين إلي إجراء دراسات حول "التهيئة اللغوية"، مذكّرا بالاستراتيجيات التي وضعها المُنَظِّرُون اللغويون للنهوض بالسياسة اللغوية كمحاولة عبد القادر الفاسي الفهري ومحمد الأرواغي، يكون ذلك بالتخلي عن الارتجال وافتعال العقبات والصعوبات بتكريس مفهوم المواطنة اللغوية
ما هو متداول متفق عليه في مجال اللسانيات واللغويات أن اللغة هي أداة تواصل بين أفراد الجماعة اللغوية ونقل وتناقل للمعلومات والعقائد والمعارف وبالتالي هي ثروة من بين الثروات التي يمتلكها الإنسان، واللغة هي تراث وهي تحمي التراث وتنقله، نقول أن هذه اللغة باعتبارها تراث فهي مهددة في عقر دارها، لأن نسبة كبيرة من شعوب المغرب العربي ومنها الجزائر في خطابهم اليومي يتكلمون إما بالعامية أو باللغة الفرنسية التي هي لغة المستعمر وأهملوا القاسم المشترك بينهم، والسؤال : هل عندما نر بط اللغة بالتربية هل نبدأ من الأسرة ثم المدرسة؟ وكيف نفرزها عن لغة الشارع عندما ربطها بالواقع؟، فالقدرة علي التكلم وضبط الأصوات تعتمد أولا وقبل كل شيء علي التكرار والممارسة، فمسالة التعدد اللغوي إن كان مقيدا أو معرقلا للتنمية، نقول أن التعدد ضروري عندما يتعلق الأمر بالمصلحة العامة لمواكبة التطور العلمي والتكنولوجي، فالذي يتلكم بلغة العلم ليس كمن يتكلم بلغة الدين والفلسفة، لأنها مجموعة أفكار تختلف من مفكر لأخر ومن عالم لأخر ومن مؤرخ لأخر، لأن كل من هؤلاء له لغته التي يخاطب بها الأخر أو العامّة.
نقف هنا مع الباحث الدكتور العربي فرحاتي من جامعة باتنة الجزائر في كتابه الذي حمل عنوان: سؤال العدل في السياسة اللغوية المغاربية" - في التربية و التنمية- الجزائر نموذجا، قدم فه معطيات ومفاهيم حول اللغة من منظور تنموي، باعتبارها اداة تواصل وهي بالتالي تشكل ثروة رمزية تنمو بإرادة الإنسان، ولها مناعة وهذه المناعة وحدها القادرة علي حماية اللغة من التخلف، فاللغة كما يقول (ص17) تراث ودورها حماية التراث وتنقله، نجد هنا أن صاحب الكتاب يربط اللغة بالتربية وعلم النفس، عندما اشار إلي نظريات فرويد وتحليله للغة المضطهدين نفسيا وغير الأسوياء، كما يشير إلي مدي تأثير الخطاب اللغوي في النفوس (ص18)، والحقيقة أن علم اللسانيات واللغويات واسع ومعقد وهذا يعود إلي خصوصية كل مجتمع واللسان الذي يتكلم به المجتمع العربي، الفرانكفوني، الإنجلوفوني والمجتمعات الأخرى كما هو في بلاد الصين والهند والفرس، بحيث نجده يستشهد بالمفكر نعوم تشومسكي الذي يري أن اللغة كنظام هي قطرية وهي جزء من عالم الفكر أو بتعبير أخر هي مجرد الوجه الخارجي للأفكار وهي وعاء لها، وهو ما جاءت به الدراسات حول فلسفة اللغة، حاول الدكتور العربي فرحاتي أن يفرق بين الكلمة والمصطلح (المفهوم) ويف يعبّر الفعل عن لكلمة كما نراه مثلا في أرشد من الإرشاد وكَتَبَ من الكتابة وهكذا...، وهنا نلاحظ أن المؤلف اتخذ منهجا أخر يختلف عن من سبقوه أو كتبوا من بعده في هذ المجال، فهناك من عالجوا إشكالية اللغة من جانب قواعدها كما نراه في كتاب تطور اللغة العربية بحوث مجمعية في الأصول والألفاظ والأساليب للدكتور محمد حسن عبد العزيز، وكتاب العربية لغة العلم والحضارة للعلامة الشيخ محمد اصالح الصديق، ثم كتاب عروبة الفكر والثقافة أولا للدكتور عبد الله ركيبي وغيرها.
المواطنة تقتضي الشراكة اللغوية
فاللغة عند الدكتور العربي فرحاتي تطبع المفهوم والمصطلح والكلمة بطابع خاص تؤثر فيه الثقافة وهو ما أشار إليه عندما قدم حال الجزائر مشيرا إلي "الشاوية" التي يتكلم بها ساكنة منطقة الأوراس وما جاورها في شرق الجزائر واعتبرها هو لغةً، وكيف يتم نقلها إلي السامع (ص 24 الفقرة الثالثة) وربما هو محق لأن الشاوية هي واحدة من اللغة الأمازيغية التي اعتمدتها السلطات الجزائرية كلغة رسمية إلي جانب اللغة العربية وقامت بدسترتها، ومن هذا المنطلق هل يمكن القول ان القبائلية والميزابية والتارقية لغة وليست لهجة، فاللغة ترتبط بالساكنة وهي تتباين من لسان لأخر ولولا القاسم المشترك بين المجتمعات العربية وهو اللغة العربية التي هي لغة القرآن لما كان هناك تواصل، خاصة وأن المواطنة تقتضي الشراكة اللغوية، وهذه الشراكة تقتضي ايضا وجود عقد لغوي تفاهمي تقاربي وهو ملتصق كما يقول هو بمفهوم التنمية والهوية، لاسيما وهذه الأخيرة هي التي تميز مجتمع عن أخر، حتي لو كان محلي، ويعبّر اللغويون عنه بـ: "الإنتماء"، فالأمازيغي حين يتكلم باللغة العربية يصبح منتميا إلي مجموعتين لغويتين، وبالانتماء يمكنه أن يحقق التكامل الهوياتي، فهو يظل محافظا علي هويته كمسلم أمازيغي، ثم أن التعددية اللغوية لا تشترط أن يكون الناطق باللغة العربية مثلا محسوبا علي دين معين (الإسلام) فالمستشرقون تعلموا اللغة العربية نطقا وكتابة ويتكلمون بلسان طليق دون عقدة أو أخطاء أو تلعثم في اللسان، فقد يكون الإنسان بدون دين، لكن لا يوجد إنسان بدون لغة، لأن اللغة حاملة للوعاء الديني والثقافي (ص32) .
الملاحظة التي وقفنا عليها هي أن الدكتور العربي فرحاتي تحدث في كتابه عن مجتمعات ما بعد الإمبراطوريات وهذه المجتمعات شكلت في صيغة الدولة الحديثة، لكن هذه الإمبراطوريات أسست حضارتها وواكبت التحديث والعصرنة دون أن تتخلي عن لغتها وثقافتها وهويتها وجذورها إن صح التعبير، وهي اليوم أكثر تحكما في التكنولوجيا وهي تتكلم بلغات عديدة بما فيها اللغة العربية دون أن تهمل لغتها كما نشهده في الصين، فالتعدد اللغوي لا يشكل خطرا أو عائقا علي هوية كل مجتمع، إن استعملت اللغة في مكانها، فاللغة وحدها تنهض بوحدة المجتمع، ونلاحظ أن المؤلف ربط التعدد اللغوي بالعامل الإقتصادي، فقوله أن الجماعات اللغوية تعتمد علي بيع لغاتها أكثر من شراء لغات من سوق اللغات (ص50)، وكررها في الصفحة رقم (77) عندما وضع مسألة تعلم لغة في إطار (بيع وشراء) فهذا القول يحتاج إلي إعادة نظر، صحيح أن اعتماد الجامعة مثلا كمؤسسة نخبوية علي "لُغَوِيٍّ أجْنَبِيٍّ" في تعليم طلبتها لغة أجنبية تحتاج إلي ميزانية خاصة تتكفل بها الجامعة من حيث إيوائه والتكفل بمستحقاته مقابل تلقين الطلبة باللغة التي يريدون تعلمها، إلا أن هناك حالات استثنائية، فالمستشرقون كما أسلفنا تعلموا اللغة العربية وأتقنوها في كتاباتهم، كما أن إسرائيل مثلا تتكلم عربي وهي اليوم تحاربنا بلغتنا، أما مسألة وجود 6700 لغة في أكثر من 200 دولة كما جاء في كتابه، فهذا شيئ إيجابي، وفي حالة الجزائر نلاحظ أن هناك تجاوب كبير مع الانفتاح علي العالم، ومواكبة التعددية اللغوية.
الترجمة همزة وصل بين طرفين أحدهما في موقع ضعف
فعلي سبيل المثال لا الحصر نجد جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية بقسنطينة شرعت في السنوات الأخيرة في تدريس لطلبتها اللغة الروسية والصينية وكذلك اللغة العبرية، كما شجعت الحكومة الجزائرية علي فتح المدارس الخاصة لتعليم اللغات الأجنبية، الهدف منه تحقيق التنمية اللغوية، وهذه تقتضي وجود تواصل والتواصل مع الأخر لا يكون بلغة احدة، ومن هنا يحق القول ان التعدد اللغوي لا يعني التغريب، خاصة إن تم توظيفه علميا، لأن العلاقة بين طرفين علاقة شراكة وتبادل، بين طرف يكون في موضع قوة وطرف في موضع ضعف وفي حالة عدم وجود توافق بين الطرفين، يتدخل طرف ثالث عن طريق "الترجمة"، ولولا هذه الأخيرة لما تمكنت الجماعات والمجموعات من الإطلاع علي فكر الأخر وثقافته ومنتوجه الفكري والإبداعي وحتي في الجانب الإقتصادي، والكاتب هنا يستشهد بالدراسة التي أجراها فلوريال كولماس (ص43)، يقول العربي فرحاتي: " لا يمكن فهم الإقتصاد بشكل افضل إلا بالتحكم في لغته، وبالتالي فإن الإستثمار في اللغة من أهم ميادين الإستثمار الإقتصادي والتنموي، يكون ذلك بسبك المصطلحات وتشجيع التأليف والترجمة وفرض حضورها في الشبكة المعلوماتية، وبهذا ترتقي اللغة ولا تبقي مجرد أداة تواصل بين الناس، بل تساهم في نقل التراث وتحيينه وتعليمه للأجيال"، يلاحظ أن الدكتور العربي فرحاتي يتكلم عن مرحلة معينة عاتها الجزائر ايام الإحتلال الفرنسي أين فرضت اللغة الفرنسية كمعيار ثقافي لغوي وكلغة رسمية مكان اللغة العربية ويلاحظ هنا أن الجزائر متأخرة في مجال تعليم اللغات الأجنبية، لأن اللغويون في الجزائر درسوا المسألة من جانب ديني فقط.
و يركز الدكتور العربي فرحاتي علي مجتمعات العالم الثالث التي تعاني من التخلف في مستوي التأهيل وفقر المحيط وهي بالتالي تحتاج إلي عناية خاصة، بدليل أنه ركز علي السياسة اللغوية في الدول المغاربية التي تتعامل حكوماتها باللغة الفرنسية كلغة أولي إداريا، فالتعريب كان من بين المشاريع التي انجزتها دول المغرب العربي ومن بينها الجزائر، إلا أن بعض القطاعات في الجزائر لا تزال مفرنسة إلي يومنا هذا كقطاع الصحة والمالية، وقد اشار الكاتب في الصفحة 76 أن تغريب التنمية استلزم تغريب اللسان وذلك بإدماج الفرنسية، فما ينطبق علي الجزائر ينطبق كذلك علي تونس والمغرب، وهذا كما يضيف راجع إلي غياب الشفافية والحكم الراشد واستمرار الصراع العروبي الفرانكفوني فيما عرف بـ: "حرب اللغات والثقافات"، نلمس ذلك في توظيفه بعض المفاهيم والمصطلحات وهي مفاهيم قليلة التوظيف في الكتابات والبحوث والدراسات، كونها لا تتصل باللغة العربية ولا نقول دخيلة عنها، مثل مفهوم (العوربة، الأمزغنة، الأدلجة والتلهيج (يراد به اللهجة)، ومصطلح "الكومبرادور" ويراد به الشخص التابع (من التبعية)، ليس عيب أن نتعلم أو نبتكر ألفاظا أو مفردات جديدة لكن هل هناك اتفاق جماعي من طرف اللغويين علي استعمال هذه الألفاظ في خطابنا، وكيف يمكن إعرابها؟، فنقول مثلا: (عورب، يعورب، معوربا أو عربن يعربن معرَّبا) وأيهما الصحيحة؟ وكما في (أمزغ، يمزغنُ – أي يتكلم باللغة الأمازيغية أو يكتب بها، كما في كلمة فَرْنَسَ، يُفَرْنِسُ ومُفَرْنِسًا، ثم أننا نلاحظ أن هناك اختلاف في النطق في بعض المناطق ففي الجزائر مثلا، هناك مثلا من ينطق القاف كاف.
الخلاصة أن الجزائر متأخرة جدا في إنشاء هيئات لترقية اللغة العربية ومنها المجلس ألأعلي للغة العربية، ففرنسا في اتفاقيات إيفيان أنشأت المنظمة الفرانكفونية في 20 مارس 1970 وذلك بغية توسيع استعمال اللغة الفرنسية وثقافتها في المستعمرات المستقلة ومن أجل استغلال النخب المفرنسة في البلدان المستعمرة لخدمة اللغة الفرنسية، عن اللغة العربية يقول العربي فرحاتي أنها لم تتمكن من أن تكون لغة مشتركة رسمية فما زالت تعاني اللا توافق المفتعل، ما جعل الإهتمام باللغات المحلية محتشما في سياسة الدول المغاربية.
***
قراءة علجية عيش مع ملاحظات

في المثقف اليوم