قراءة في كتاب

علاء اللامي: مع تجربة بشار الزبيدي في الترجمة المباشرة عن الألمانية

أنواع الترجمة إلى العربية: ليس سهلا أن تكتب عرضاً نقدياً لكتاب مترجم عن لغة أنت لا تجيدها. ثمة شيء يشبه التطفل إنْ لم يكن هو التطفل بلحمه وشحمه في مسعىً كهذا! لن أتعرض إذن بالتقييم لنوع ومستوى جودة الترجمة عن الألمانية التي أنجزها بشار حاتم الزبيدي، لأنني لا أجيدها أولا، ولأن تجربتي الشخصية في الترجمة عن الإنكليزية أصغر من المتواضعة وتمثلت بكتاب مختارات شعرية لعدة شعراء قبل ربع قرن أو أكثر. ولهذا سأركز في استعراضي هذا على تقنيات اللغة المترجَم إليها، إضافة إلى إضاءات سريعة على مضموني الكتابين:

معلوم أن الترجمة إلى اللغة العربية يمكن تقسيمها نوعياً إلى ثلاثة أنواع: فالأولى هي الترجمة الحرفية؛ وهي أكثر دقة وانشدادا إلى النص المترجَم عنه "الأجنبي"، ولكنها تمتاز غالباً بالوعورة والجفاف والتركيبات اللغوية المعقدة والجمل الطويلة اللصيقة بالنمط المعنوي للغات الأجنبية المترجَم عنها، أو لنقل بـ "بنية تلك اللغة العاطفية الفطرية الداخلية"، والتي قد لا تتساوق أو تتواءم مع بنية اللغة العربية المقابلة إلى هذه الدرجة أو تلك. وبذلك يمكن أن نحصل بموجب هذه الترجمات على نصوص أقرب إلى نصوص اللغة الأصلية، ولكنها أبعد عن السلاسة واللدانة والجزالة التي نعهدها في لغتنا العربية المعاصرة. أما النوع الثاني فيتمثل بالترجمات غير الحرفية أو التعريبية ومثالها الأشخص والأقرب إلى الذاكرة ترجمات سامي الدروبي لأعمال دوستويفسكي الكاملة عن الفرنسية والتي قيل عن جزالتها العربية ما معناه، لو أن دوستويفسكي نفسه ألف رواياته باللغة العربية لما بلغ مستوى جزالة وفصاحة لغة مترجمه العربي! وهذه الترجمات تكون في الغالب بعيدة معنىً ومبنىً، إلى هذه الدرجة أو تلك، عن النصوص الأجنبية المترجم عنها ولكنها ممتعة بجزالتها ومتانتها اللغوية العربية.

أما النوع الثالث فنجده في الترجمات الوسيطة أي التي تتوسط موضعا هو بين النوع الأول الحرفي والثاني المعنوي فلا تفرط بالجزالة العربية وروح الجملة والتركيب العربي من جهة ولا تخسر الدقة في الترجمة كثيرا. وأرجح أن تكون ترجمات الصديق الزبيدي من النوع الثالث.

ترجم الزبيدي الكتابين، وهما باكورة أعماله في ميدان الترجمة، بلغة عربية أنيقة متماسكة وجزلة، ولا تريد ان يفلت منها المعنى المراد، لدرجة قد يظن قارئ الكتابين أن المترجم قادم من تراث عريض في ميدان الترجمة فهو يترجم بثقة كبيرة بالنفس وبسلاسة لغوية لا نجدها إلا عند كبار المترجمين ذوي الخبرة الطويلة.

العرب والأوروبيين على ضفتي المتوسط

يحمل الكتاب الأول عنوان "العرب وأوروبا - ألفا عام من التاريخ المشترك" ألَّفه ألفرد شليشت. والكتاب كما يقول عنوانه يستعرض تاريخ العلاقات بين العرب وأوروبا شعوبا وجغرافيا. يقع الكتاب في 315 صفحة تنقسم إلى أحد عشر فصلاً وخاتمة.

يوفر الكتاب مادة تأريخية أرشيفية وتحليلية غزيرة وموثقة، تفيد الباحث المتخصص في التاريخ وعلومه، مثلما تفيد وتلهم القارئ غير المتخصص أيضا. ويلاحظ أن منهجية المؤلف تنأى عن الدوغما التقليدية التي روجتها المؤلفات الاستشراقية الغربية ويسودها نفس بحثي محايد على شيء من الإنصاف للإسلام والمسلمين. وفي أحيان كثير نجد أنَّ المؤلف الألماني أكثر أنصافاً وحياداً علمياً من كثيرين من الباحثين العرب المسلمين الذين يزعمون الحداثة وخصوصاً حين يستعرض علاقة الدولة العربية الإسلامية المبكرة بالمسيحيين الآراميين في سوريا والأقباط في مصر حيث كان هؤلاء يمارسون عباداتهم في ظل الإسلام بحرية. ص 34.

ولعل من أثمن الانتباهات الواعدة والجديرة بالمتابعة والتأصيل البحثي التي يقدمها شليشت هي قوله إن "جميع دول البحر الأبيض المتوسط – قبل الإسلام - تشكلت من الثقافة اليونانية والرومانية، ولكن هذه الوحدة الثقافية انتهت في القرن السابع (قرن ظهور الإسلام)، وبات البحر المتوسط يُصِل أقل مما يعزل، وتحول شمال البحر المتوسط إلى غرب مسيحي، بينما تطور العالم الإسلامي على سواحله الجنوبية "..." وكذلك نشأت هوية أوروبا والغرب من هذا العداء - بين شمال المتوسط وجنوبه - ليصبح التناقض بين الإسلام والمسيحية هو التجربة الجماعية التكوينية لأوروبا المسيحية. ص 37".

يمكن التحفظ على هذه الخلاصة بالقول إنَّ الصراع لم يكن دينياً من حيث الجوهر رغم أنه كان كذلك شكلاً، بل هو صراع بين دول الغرب الإقطاعية المترهلة الاستبدادية العتيقة التي أرهقتها حروبها الظالمة المستمرة وخصوصا بين الدولتين الأكبر آنذاك البيزنطية والفارسية والذي وضعت حدا لهما ولحروبهما قوة طازجة جديدة ألقت بها الصحراء العربية في وجهيهما فكانت الغلبة لهذه القوة الشابة الجديدة.

هناك أيضاً، صفحة مهمة أو مجهولة من التاريخ لدى القارئ العربي يسلط عليها الكتاب الضوء بشيء من الإسهاب في الفصل السابع، ص 145، وهي تلك الخاصة بدور الدولة العثمانية وبحريتها خاصة في الدفاع المغرب العربي ومحاولاتها إسناد كفاح شعوب المنطقة ضد العدوان الغربي المستمر صحيح أنها محاولات مدفوعة بنزعة التوسع والهيمنة الإمبراطورية ولكنها كانت ذات أهمية كبيرة في صمود الضفة الجنوبية للبحر المتوسط وبقاء هويتها العربية الإسلامية. ورغم أن العثمانيين لم يحرزوا نجاحات كبرى في هذا الميدان - وخصوصا في دعم ثورة المورسيكيين من بقايا العرب والبربر المسلمين في الأندلس ضد الحكم القوطي وحاولت فرض التعميد المسيحي والتهجير القسري عليهم - ولكن دورهم لا ينكر في صدِّ وعرقلة العدوان الغربي. ولم يقف ضدها إلا حكم الأشراف السعديين العلويين (من نسل محمد النفس الزكية الحسني) في المغرب الأقصى، الذي فضل التحالف مع الغرب المسيحي، وقاتل إلى جانبهم ضد العثمانيين. وهذا ما حدث مثيله أيضاً في تونس حيث تحالف الحفصيون في عهد مولاي الحسن الحفصي مع أسرة آل هابسبورغ الملكية الأوروبية واستنجد بملك إسبانيا كارلوس الخامس بن فيليب هابسبورغ التي أعادتهم إلى الحكم بعد أن أسقطهم البحارة العثمانيون. واستنجد الحسن الحفصي بهم ثانية لقمع ثورة أهالي القيروان ضده ولكن القيروانيين هزموا قوات السلطان وحلفاءه الإسبان في معركة ضارية.

من فصول الكتاب المهمة في الكتاب العاشر، والذي خصصه المؤلف لموضوع العلاقات بين "أوروبا والعرب وإسرائيل". وفيه يستعرض فيه نشوء وقيام الكيان الصهيوني ويُحَمِّل بريطانيا بالدرجة الأولى مسؤولية ما حدث ويسجل أن الهدف من قيام الكيان في فلسطين كان الإقصاء وليس العيش بسلام مع السكان الأصليين الفلسطينيين. وإنَّ العرب شعروا بان عليهم دفع ثمن أخطاء وجرائم الشعوب والدول الأخرى من منطقة ثقافية أخرى وهو يشير هنا إلى ما يسميها "سياسة الإبادة النازية الألمانية" بحق اليهود. ص 256.

نمط العيش الإمبريالي

الكتاب الثاني الذي ترجمه الزبيدي ذو موضوع مختلف، عنوانه "نمط العيش الإمبريالي...استغلال الإنسان والطبيعة في الرأسمالية العالمية" للثنائي أولريش براند وماركوس فسن. يقع هذا الكتاب في 240 صفحة توزعت على ثمانية فصول دسمة المحتوى، تميزت بجدة معالجاتها، إضافة إلى تمهيد موجه إلى القراء العرب بقلم المؤلفَين للترجمة العربية، إلى جانب مقدمة أولى بقلم الباحث العراقي صباح الناصري ومقدمة ثانية قصيرة بقلم الباحثة التونسية مبروكة مبارك بهدف تقريب مضمون الكتاب للقارئ العربي.

يمكن تكرار ما قلنا من ملاحظات حول اللغة المترجَم إليها في الكتاب السابق مع إضافة مهمة تتعلق بكثرة هوامش المؤلفَين والمترجم العربي وهو الأمر الذي لم نلاحظه بهذه الكثافة في ترجمة الكتاب الأول وفي مواضع كثيرة تتطلب ذلك.

نمط عيش مدمر وإجرامي

يقدم المؤلفان تعريفاً لنمط العيش الإمبريالي لا يخلو من البلاغة اللغوية ولكنه أيضاً لا يخلو من الواقعية الجريئة التي يقفز عليها غالبا الخطاب الإمبريالي الرسمي وشبه الرسمي فهما يصفانه بنمط عيش مزدهر يقوم ازدهاره على حساب الآخرين فهو "نمط عيش يقوم على الاستفادة من الطبيعة والقوى العاملة في أنحاء العالم كلها، ويتم تخريج العواقب الاجتماعية والبيئية التي ينطوي عليها في شكل ثاني أوكسيد الكربون الذي ينبعث من جراء صناعة السلع الاستهلاكية للشمال – الأوروبي – وتمتصه النظم البيئية في الغلاف الجوي لنصف الكرة الجنوبي في شكل مواد خام معدنية من الجنوب ، وهي متطلبات الأساسية التي لا غنى عنها للرقمنة والصناعية في الشمال، أو في شكل يد عاملة في الجنوب تخاطر بصحتها وحياتها في استخراج المعادن والفلزات أو في إعادة تدوير نفاياتنا الإلكترونية، أو في مزارع ملوثة بمبيدات الآفات وتنتج "الفواكه الجنوبية" المستَهْلَكَة في الشمال. ص24".

في الفصلين الرابع والخامس يقدم المؤلفان سردية موثقة لتاريخ نمط العيش الإمبريالي منذ بداياته في الحقبة الاستعمارية حتى ذروة تعميمه على العالم في وقتنا الحاضر. أما الفصل السادس خصصاه لإلقاء نظرة بانورامية على الشكل الحالي لنمط العيش الإمبريالي "بالإشارة إلى مجال اجتماعي يتوسع فيه الكثير من محدداته كالتنقل الآلي..". وفي الصفحات الأخيرة من هذا الفصل يسلط المؤلفان الضوء على ما يسميانه " الحماقات الراسخة والواضحة في الإنتاج الرأسمالي التي يمكن تقديمها في ضوء مختلف..." ثم يذكرون عليها بعض الأمثلة الطريفة التي توضح مدى الفوضى في نمط العيش الإمبريالي كهذا المثال: يمكن لألمانيا أن توفر 90 بالمئة من المواد الغذائية الخاصة بها فإنها ثالث أكبر مستورد للمنتوجات الزراعية على مستوى العالم. والسبب هو أن الزراعة الألمانية تركز على إنتاج اللحوم ومنتوجات الألبان لتصديرها فقط. ص211.

إنه جهد مفيد ومتقدم نوعياً يقدمه هذا المترجم العراقي الشاب يجعلنا نـأمل خيراً كثيراً من ولادة مترجم عربي عن الألمانية فشكرا له.

***

علاء اللامي - كاتب عراقي

 

في المثقف اليوم