قضايا

عبد الحق الزموري: هل كان محمد عبد الله دراز برغسونيًا؟

كان عنوان دراستي الأخيرة التي شاركت بها في مؤتمر الأخلاق ببغداد يحمل إشارة استفزازية عن "المفهمة" في سياق التأسيس لفلسفة أخلاقية قرآنية، من خلال مناقشة كتاب محمد عبد الله دراز "دستور الأخلاق في القرآن". وطبقا لذلك كان لا بد أن نعرض لبعض الزوايا الخفية الحافة بتأليف دراز لرسالة الدكتوراه تلك، خاصة وأن الكاتب قضى ما لا يقل عن 12 سنة في باريس (1936 – 1947) عايش فيها أحداثا كثر.

السؤال الأول الذي نبدأ بطرحه هنا هو المتعلق بالمشرف الذي رافق دراز لإنجاز رسالته؟ لا معلومة يقينية تُنبئُ عن ذلك، إذ لا نجد في الرسالة المنشورة عام 1951 ذكرا له في غلافها (الخارجي أو الداخلي). ولكن صهره السيد محمد بدوي، الذي رافقه في باريس وبقي بعده هناك، والذي أشرف على مراجعة الترجمة العربية والتقديم لها، يقول في مقدمته: "وتمّت مناقشة الرسالة أمام لجنة مكونة من خمسة من أساتذة السوربون والكوليج دي فرانس في 15 / 12 / 1947".

ويؤكد لنا دراز نفسه في ثنايا كتابه "أن لويس ماسينيون الأستاذ في الكوليج دي فرانس ... قد أبدى رغبة في أن يرى الدراسة تتناول في نفس الوقت بعض نظريات المدارس الإسلامية المشهورة، وهو في سبيل هذا الهدف قد مكّننا مما ضمت مكتبته من مؤلفات نادرة وثمينة".(1) ولعل ذلك هو ما دفع بعض الباحثين المعاصرين للتأكيد على أن المشرف على رسالة دراز كان لويس ماسينيون.(2) كما نجد هامشا في الصفحة 163 من كتاب دراز الآخر (Initiation au Qor’an)، وهي رسالته الثانية التي ناقشها في نفس العام، يذكر فيه محرر الكتاب أن اللجنة التي ناقشت الرسالتين تركّبتْ من: لويس ماسينيون، ليفي بروفنسال، ليسن، فالون، وفوكونّيي.(3)

كان لويس ماسينيون (1883-1962) يلعب دورا محوريا في توجيه عدد من الطلبة العرب المبتعثين للدراسة في فرنسا في النصف الأول من القرن العشرين، والاحاطة بهم ومساعدتهم في مساراتهم العلمية. ومن أبرز من كانت لهم علاقات وثيقة به الفيلسوف الشاعر محمد إقبال.(4) كانت علاقة إقبال وماسينيون قوية، يتبادلان الرسائل والكتب، ويناقشان أفكار بعضهما، بل كان ماسينيون هو من قدم لكتاب إقبال "تجديد الفكر الديني" في نسخته الفرنسية عام 1955 (صدرت النسخة الإنجليزية عام 1934).(5) ولكن إقبال كان أيضا متابعا ومتأثرا بالفيلسوف هنري برغسون (1859 – 1941) ومناقشا لأفكاره منذ وقت مبكر عندما اطّلع على كتاب "التطور الخالق" (بحسب ترجمة محمود محمد قاسم) أو "التطور المبدع" (بحسب ترجمة جميل صاليبا) الذي نشره برغسون عام 1907؛ وفي طريق عودته إلى الهند قادما من بريطانيا، التقى إقبال برغسون في الأسبوع الأول من عام 1933 (ترجيحا)، بحسب رسالة بعث بها إلى صديقه السير ويليام روثنشتاين سنة 1933 يقول فيها: "عندما كنت في باريس التقيت ببرغسون. أجرينا حديثًا بالغ الأهمية حول موضوعات فلسفية. وخلاصة فلسفة جورج بركلي ... وقد استمر حديثنا ساعتين. برغسون رجل مسن ومريض جدًا. وهو لا يستقبل الناس، لكنه تكرم عليّ باستثناء خاص".(6) وقد أورد إقبال حصيلة لقاءاته الباريسية تلك في عدد من رسائله لأصدقائه.2246 qoran

يبدو أن أفكار برغسون الفلسفية كانت تجد رواجا كبيرا لدى العرب القادمين إلى باريس في تلك الفترة، وخاصة أولئك الذين تقاطعت مساراتهم مع لويس ماسينيون، ومن بين هؤلاء نجد – على سبيل المثال لا الحصر – اللبناني كمال يوسف الحاج، الذي أعدّ رسالة دكتوراه في الفلسفة في الفترة 1946 – 1949، والذي أشرف على رسالته جان ماري لابورت، وكان ماسينيون في لجنة المناقشة، بل وكان هو من تدخل لصالحه ليحصل على منحة من الحكومة الفرنسية مكّنته من الالتحاق بالسربون، وهو من كان وراء قرار الجامعة اعتماد ترجمة الحاج لـــ"رسالة في معطيات الوجدان البديهية" لبرغسون (صدرت عام 1946)، دكتوراه رديفة. وكان الحاج يقيم صداقة قوية مع ابنة برغسون.

كان ماسينيون هو من قدّم أيضا فلسفة إقبال، ومن ورائها فلسفة برغسون إلى ليوبولد سيدار سنغور لاحقا، كما يؤكده سليمان بشير ديانغ في كتابه الصادر سنة 2011 (Bergson postcolonial : l'élan vital dans la pensée de Léopold Sédar Senghor et de Mohamed Iqbal).

ما دعاني إلى رسم بعض ذلك المشهد الثقافي الباريسي في السنوات التي كان محمد عبد الله دراز في قلبه لسنوات عديدة، وهو الذي درس الفلسفة والمنطق والأخلاق في جامعة السربون كما جاء في سيرته،(7) هو التساؤل عن مدى تأثر هذا الأخير بالأفكار الفلسفية لبرغسون التي كانت رائجة يومئذ في فرنسا، وعن إمكانية تقاطع مساراته مع أفكار إقبال؟ لا يجب أن نُغفل أن الفيلسوف رونيه لو سينّ (René Le Senne)، كان ضمن لجنة مناقشة دراز لرسالته، وهو من تلامذة برغسون النقديين، وكان يومها أستاذ فلسفة الاخلاق في السربون؛ وقد قال عنه دراز في مقدمته: "قد اقترح علينا أن نقارن النظرية الأخلاقية المستمدة من القرآن ببعض النظريات الغربية. وقد استجبنا بحمد الله لما أبديا (لو سينّ وماسينيون) من مقترحات موفقة، يبدو عملنا اليوم بفضلها أرحب مدى".(8) وأن يطلب "لو سينّ" من دراز اعتماد المنهج المقارن في رسالته يمكن أن يؤشر إلى أنه كان مشرفا عليه ( !!) أو على الأقل أحد الموجّهين له.

من المعلوم أيضا أن الحياة الفكرية في فرنسا كانت في تلك الأيام منقسمة بين تيارين كبيرين، التيار العقلاني المادي (كانط) والتيار الروحاني (برغسون) الأخلاقي (لو سينّ – لافال). وكان دراز أميل بالضرورة للتيار الثاني، وهو أقرب للو سين منه لبرغسون في توجهه الفلسفي الأخلاقي، لذلك نجده في "دستور الأخلاق" متأثرا بمنهج فلسفة القيم الحديثة، ولا سيما عند هذا الأخي؛ ويظهر ذلك بوضوح في تحليله لمفهومَيْ الضمير الخلقي والإلزام الأخلاقي. اعتمد دراز بنية تحليلية قريبة من تلك التي أسّسها لو سِنّ في كتابه ( Traité de morale)، وخاصة فصوله المتعلقة بـالقيمة (La valeur ) والالزام الأخلاقي L’obligation morale)، حيث قرّر كلاهما أنّ الإلزام الأخلاقي ظاهرة أصلية لا يمكن اختزالها في التفسير النفسي أو الاجتماعي، ولا ردّها إلى المنفعة أو العادة، بل تفرض نفسها على الذات فرضًا مباشرًا. كما يلتقي الطرفان في توصيف الضمير بوصفه كاشفًا للقيمة لا منشئًا لها، وشاهدًا باطنيًا على الواجب لا مشرّعًا له، وهو ما يعكس رفضًا مشتركًا للنزعة الذاتية والنسبية في الأخلاق. غير أنّ هذا التلاقي المنهجي لا يفضي إلى وحدة في المرجعية أو الغاية؛ إذ يتوقّف لو سِنّ عند إثبات تعالي القيمة تعاليًا فلسفيًا مجردًا، دون أن يؤسّس مصدرًا متعينًا للإلزام أو غاية نهائية له، بينما يتجاوز دراز هذا الأفق الفلسفي بجعل الوحي القرآني مصدرًا للقيمة، والإرادة الإلهية أساسًا للإلزام، والجزاء الأخروي إطارًا لتمام المعنى الأخلاقي.

ومما يؤكد أن دراز، وإن تأثر بأجواء الجدل الفلسفي يومئذ (وهو ما يبرزه تنظيمه لبناء "النظرية الأخلاقية كما يمكن استخلاصها من القرآن" على قواعد الالزام، والمسؤولية، والجزاء، والنيّة والدوافع، والجهد)، كان مستقلا في تصوره، غير تابع لمدرسة، علاقته الوطيدة على سبيل المثال مع مالك بن نبي الذي ذكر في مذكراته أنه التقى دراز عام 1936، وساعده على تعلّم الفرنسية، وكان بينهما تقاطعات فكرية عديدة، بل إن دراز كان قد كتب مقدمة لأول كتاب لابن نبي، وهو “الظاهرة القرآنية” الذي صدر في الجزائر عام 1946، بالرغم من العداء المستفحل بين بن نبي (وصديقه الفيلسوف حمودة بن ساعي) ولويس ماسينيون. وبالرغم من أن بن نبي وجماعته كانت تتبنى أفكار محمد إقبال وتصوراته للخروج بالعالم الإسلامي من سباته، إلا أننا لا نعلم مدى حضور هذا الأخير في تصورات دراز.

وبذلك لا يظهر توظيف دراز لأدوات لو سِنّ ومناهج الفلسفة البرغسونية بوصفه تبنّيًا لمذهبه، بل باعتباره استثمارًا نقديًا واعيًا لمقولات فلسفية حديثة، في سبيل التوصل لفلسفة أخلاقية قرآنية.

***

عبد الحق الزموري - تونس

..................

(1) محمد عبد الله دراز؛ دستور الأخلاق في القرآن: دراسة مقارنة للأخلاق النظرية في القرآن. تعريب وتحقيق عبد الصبور شاهين، مراجعة السيد محمد بدوي. القاهرة: الرسالة، 1973. ص 17.

(2) عبد الرحمان حللي؛ "دستور الأخلاق في القرآن.. بمناسبة مرور نصف قرن على رحيل العلامة الدكتور محمد عبد الله دراز". موقع الملتقى الفكري للإبداع، 28 / 05 / 2008. https://almultaka.org/site.php?id=596

(3) Mohamed Abdallah Draz ; Initiation au Quran. Révisé et Préparé par Khaled Fahmi. The Egyptian National Library and Archives, 2017. p 163 note 1.

(4) أرسل محمد إقبال لماسينيون رسالة بتاريخ 18 فيفري 1932، يخبره فيها بأنه سيلتقيه عند زيارته باريس، وقد تمّ اللقاء – بحسب ما أخبر به ماسينيون – في 1 نوفمبر من نفس العام، مع الإشارة إلى أن الترسل كان قائما بينهما قبل ذلك، وأن إقبال أرسل له مع رسالة فيفري كتابه "جاويد نامه". أنظر:

Center for Islamic Studies; Iqbal Quarterly (formerly Iqbāl-Nāmah); a publication about the poet-philosopher Muhammad Iqbal (1877–1938). Youngstown State University Iqbal Academy Pakistan, Volume 6, Numbers 1–2, Winter and Spring, 2006. § «Iqbal’s Meetings with Massignon and Bergson ».  https://allamaiqbal.com/publications/journals/iqbalquarterly/Winter%20and%20spring%202006.htm?utm_source=chatgpt.com

(5) تجدر الإشارة إلى أن الترجمات العربية اللاحقة للكتاب، أسقطت تلك المقدمة. بل إن الطبعات الفرنسية اللاحقة نفسها صدرت دون تقديم ماسينيون، ممهورة بتقديم آخر، أشهرها تلك التي قدم لها السنغالي سليمان ديانغ

(6) Iqbal Quarterly; op. cit.

(7) دستور الأخلاق في القرآن؛ المقدمة. ص ح.

(8) نفسه؛ ص 18

 

في المثقف اليوم