قضايا

كريم الوائلي: هل للمتصوفة اليوم مكان في هذا العالم؟

سألني الصديق (نعيم عبد مهلهل) الاديب والصحفي المعروف هل للمتصوفة اليوم مكان في هذا العالم؟ خذنا إليهم في قرين الحياة الحالية؛ عالم الإنترنت وفوضى الربيع العربي والفضائيات، والبحث عن فسحة لسماع السياب أو مشاهدة هاملت؟

لا أحسب أنَّ التصوف مجرد طقوس يؤديها أفراد في عزلة عن الواقع، بل إنها تجليات مجتمع ينزع نحو الاتصال بالمطلق، إمّا بنزول اللاهوت إلى الناسوت وإمّا باتحاد الناسوت باللاهوت والحلول به ومعه.

إن فهمًا خاطئًا يجعل التصوف مجرد ظاهرة عابرة في التراث العربي الإسلامي وعلى يد مجموعة من المتصوفة، كالحلاج المصلوب والسهروردي المقتول، وأضرابهما، وليس الأمر كذلك، فالتصوف ليس حكرًا على حضارة أو دين أو مذهب، بل تنتشر أنساقه في العالم كله فإنَّ التصوف ضرورة في المجتمع وتجلياته، تمتد عمقًا في حفريات المعرفة فهى تمتد من بكائيات العراقيات على عودة تموز من العالم السفلي إلى الحياة كي تدب الحياة من جديد ومرورًا ببكائيات معاصرة تمتد جذورها إلى قرون في انتظار المنقذ والمخلص.

إننا دون شك نلتقي بنزوعات صوفية نجدها في حضارات أخرى، وديانات متعددة، ونأخذ هذه النزوعات ملامح تأدية الطقوس الجمعية؛ بمعنى أنها ليست مجرد طقوس فردية، في ازمنة معروفة، زيارة ضريح الامام الحسين عليه السلام، في اربعينيته، وغيرها من الطقوس المصاحبة .

لاحظ معي طقوس التعميد على ضفاف الأنهار، فهي ترمز لحركة صوفية تمتد في جذورها إلى أعماق التاريخ، وكذلك السير على الأقدام ضمن طوفان بشري لزيارة أضرحة الأئمة، وهي شكل من أشكال اتحاد الجموع للتوحد بالمنقذ والمخلص كما أشرت. وكل هذا يتدفق ويتلفع بروح إنسانية مشبعة بوجع الخلق وتمتد آثاره نحو الآتي .

جماعات تريد الانفلات من أسر العجز إلى حرية المعجز، تتوحد بالمطلق عبر فك أسر القيد الذي تصنعه معيقات الحياة، والتماهي مع الذات المطلقة.

إن الديانات السماوية كلها تمتح من روح التصوف بطرائق مختلفة، وتعبر عنها بطقوس حسية ظاهرة ليست هي المقصودة، وإنما المقصود هو الباطن العميق، خذ مثلا ً طقوس التعميد تبدو في الظاهر طقوسًا شكلية، ولكنها ذات أبعاد باطنية ورمزية عميقة، ومن الغريب أنَّ المتصوف يحاول أن يعبر عن اللاهوت بأدوات الناسوت، وهذا مشكل .. ومن المؤكد أن يعجز؛ لأن اللغة محدودة لا تستطيع حمل عبء التعبير عن المطلق، وبذلك فإن المتصوف أمام أحد أمرين : إما الصمت وهو الغالب، ومن ثم يحافظ على حياته، وإما الشطح؛ بمعنى " الفعل " الذي يقوده إلى النبذ أو التكفير؛ أو القتل!

وإني لأعجب كيف لا يكون السياب متصوفًا من الطراز الأول من حيث حياته المحزنة وعذاباته المتكررة وانعتاقه عبر الموت نحو آفاق المطلق. وبذلك كان السياب والصوفـي يمتحان من معين واحد لا ينضب من الأعماق، ويحفران معًا تذوقًا في حد الموت، السياب " يشعر " كما " يشعر " الصوفـي، ويتحول شعورهما وجدًا عبر الكلمة العاجزة، فيستعين الصوفـي بالشطحات وبتعالي الناسوت نحو اللاهوت، ويستعين السياب هو والبياتي و أدونيس بالتقنع للتعويض عن شطحات الصوفـي.

الصوفـي يتوحد مع اللاهوت، والسياب وأدونيس والبياتي يتوحدون عبر التقنع مع المطلق عبر فتح من أعماق الداخل، وكذلك كانت اللغة عاجزة عن الإبانة عن هذه الأعماق لديهم جميعًا، بوصفهم متصوفة كبار .

إن حركة الجموع على ضفاف الأنهار للتعميد، أو المشي على الأقدام نحو أضرحة الأولياء تشبه تمامًا أنساق وجدان أدونيس .. توحد الجموع مع الآتي؛ الكائن في رحم الماضي، وتوحد أدونيس مع " علي " في ديوانه مفرد بصيغة الجمع الآتي من عمق التاريخ "علي" هو الإمام ـــ الولي ـــ الفرد بصيغة الجمع، يتماهى مع الشاعر أدونيس، واسمه "علي "، فكأن "علي الإمام " الماضي / المستقبل، هو علي / أدونيس المستقبل المضمخ بعبق الماضي، وقد جمع أدونيس بين الصوفية والسريالية؛ إذ إن كليهما يتوجه نحو الخلاص دينيًّا عن الصوفية وتجاوز الإبحار عند السريالية، فالجذور واحدة وإن كانت الوسائل والنتائج متباينة .

***

د. كريم الوائلي

في المثقف اليوم