قضايا
مراد غريبي: بين الفكر والكلمة

(المتكلم يفكر والكلام يتبعه)... القديس أوغسطين
لا مناص ان الكلمة ليست مجرد أداة تواصل، بل هي مرآة تعكس نوازعنا وأعماقنا وتجاربنا. هذه العبارة الشهيرة للقديس أوغسطين: «المتكلم يفكر والكلام يتبعه» تختزن في طياتها حكمة إنسانية خالدة، تنبهنا أن كل لفظ ننطقه ينطلق من عمق تفكيرنا وأحاسيسنا وتجاربنا. الفكر، هو ذلك المنبع الخفي للكلام، هو مصدر كل كلمة نقولها، فهي انعكاس لفكرة عميقة تسكن في ذاتنا. الفكر هو الروح الحقيقية للكلمة، هو اللحظة الاساسية التي نصغي فيها إلى أنفسنا قبل أن نصوغ ما سنقول. حين يفكر الإنسان، فإنه يختار الكلمة إما بحرص أو يرميها بإنفعال، ينتقيها لينقل ما يشعر به وما يؤمن به بصدق وعفوية. أو من دون لحظة تفكر، يبقى الكلام مجرد ضوضاء بلا معنى... أما إذا انبثق الكلام عن فكر عميق، يصبح له وقع في القلب والعقل معًا. لذلك كانت الكلمة، الجسر النابض بين الذات والوجود، فالكلمة هي جسرنا نحو العالم بكل معانيه وتعبيراته، هي الطريقة التي نعبر بها عن خيباتنا وآمالنا، وعن هويتنا وتطلعاتنا، عن إنسانيتنا وتطرفنا، وهي التي تقرّب بين القلوب وتبني جسور التواصل بين البشر. كما تهدمها وتدمرها، حين ينطلق الكلام من فكر مسؤول، يكون له تأثير عميق؛ فهو يلمس مشاعر الآخرين ويوصل رسائلنا بصدق ووضوح ومحبة.
إن كل كلمة تخرج منا تحمل صور تجاربنا ونبض إنسانيتنا او انعدامها. لهذا، الكلمة الطيبة ترتقي بالحوار من مجرد نقاش إلى لقاء حقيقي بين الأرواح والعقول والقلوب.
عن قوة الكلمة في تطوير الثقافة والهوية
تمنح الكلمة الصادرة عن فكر مسؤول وغني بالرؤى والتجارب والتطلعات، المجتمع شيئًا من روحه الثقافية وهويته الإنسانية، ففي المجتمعات القديمة، كانت خطب الحكماء وقصائد الشعراء ونصوص الفلاسفة تلهم ذاكرة الجماعة المعنى وتشكّل رؤيتها للعالم من حولها. ولغاية يومنا هذا، لازالت الكلمة أصل بناء الثقافة والحضارة، تخلق جسور الحوار والتفاهم والتعارف، وتقارب بين الشعوب عبر معاني القيم والمبادئ النبيلة الجامعة إنسانيا، كما تدافع عن الإنسان ضد موجات السطحية والغوغائية والتفاهة والتطرف والاستبداد.
كلام أوغسطين ووجدان المعنى
لدى القديس أوغسطين، لم تكن علاقة الفكر بالكلمة علاقة عقل فقط، بل علاقة وجدان ينبض بروح الحب المطلق كذلك. حيث اعتبر أن الكلمة الصادقة هي تعبير عن معنى وجداني، عن ثقة ومسؤولية بحب وإلهام، مما جعل الكلمة في فلسفة اوغسطين مسؤولية مقدسة، وأن التعبير بصدق هو مشاركة أرض الحقيقة مع الآخرين تحت انوار الوجدان. فكل كلمة تخرج من القلب لتصل إلى قلب الآخر هي بناء إنساني عظيم.
الفكر والكلمة: تحدي الانسجام
في عصر رقمي صاخب تكثر فيه الأصوات وتضيع فيه المعاني وسط فوضى المجتمعات والشبكات، أصبح من الضروري أن نقارب الانسجام العميق بين ما نفكر فيه وما ننطق به. دعوة أوغسطين لنتمعن بصدق قبل أن نتحدث، وأن نسمح للفكر أن يعطر الكلمة بعطر الحب والحق والعدل، فتواجه الكلمات الجوفاء بكلمات تحمل المعنى والإحساس والأفق. هنا فقط يمكننا بناء حوار إنساني أصيل يرتقي بأخلاقياتنا وصلتنا بذواتنا وبالآخرين وبالطبيعة والوجود كله.
1. الكلمة وبناء الذات والآخر
الكلمة ليست وسيلة لاستعراض الذات فحسب، بل هي رؤية لبناء الذات وتمتين العلاقات. حين تنسجم الكلمة مع الفكر الواعي، يصبح الإنسان أكثر صدقًا مع نفسه ومع العالم. والكلمة الصادقة تفتح أبواب الحوار والتسامح والتعايش والتعاون والتعارف، تخلق مناخًا من الثقة الرحبة الراسخة والواعدة بغد افضل، تصنع الكلمة مساحة للتعاون والبناء المشترك بين البشر رغم كل التباينات والخلافات والشكوك والمصالح المبعثرة فالكلمة الصادقة تضمد الجروح وترمم الشقوق وترتب الحقوق والواجبات بعدل وإحسان، هكذا الكلمة الطيبة كانت وستظل ماء الحقيقة.
2. الكلمة بوصفها إبداع فني:
ليس المتكلم العقلاني وحده من يحتاج للصدق بين الفكر والكلمة؛ فالإبداع – شعرًا أو موسيقى أو رواية أو مسرح او سينما – هو أيضا ثمرة هذا الانسجام. حين يكتب الشاعر أو يغني الفنان من قلبه، أو يمثل المسرحي بعنفوان او يتخيل الروائي بهيام ويلاحق السينيمائي الواقع بإيمان تصل رسالة كل منهم بلا حواجز، حيث تنهض الأرواح وتتنفس المشاعر ويطير الوجدان في ٱفاق المعنى بلا حياء ولا حيرة؛ لأن الصلة بين ما يفكر وما ينطق تكون صادقة وحية.
أما بعد..
إن حكمة القديس أوغسطين: «المتكلم يفكر والكلام يتبعه» ليست مجرد نصيحة كهنوتية، بل نداء عميق لكل إنسان. ودعوة لكل واحد منا لتصبح كلماته منبعًا للخير والجمال والحب والتسامح والتعارف، أن نبحث عن التفكير المسؤول قبل صدق التعبير. ففي كل كلمة نبني بها، امامنا ٱفاق لتجسير الروابط وتمتينها، لإشعال شموع الوعي، ولإضاءة طريق البشرية نحو المزيد من الإنسانية والنباهة والصفاء..
بكلمة: عندما ينمو الحب في تفكيرك، تنمو معه الكلمة الطبية، لأن الحب هو المعنى الانساني..
***
مراد غريبي