قضايا

خلود بن عبد الله: حين تصطدم العلمانية بالإسلام.. قراءة في النموذج الفرنسي

نحن على دراية تامة بأن الدولة العلمانية الحديثة هي تلك التي تمتلك قيمًا ثابتة كالديمقراطية، ومبادئ أخرى من بينها توفير الأمن والحرية لمواطنيها، واحترام التعدد في الدين والأفكار والرؤى المختلفة. إلا أننا حين نتعامل مع الواقع، نجد أن الجانب التطبيقي يختلف كثيرًا عن الجانب النظري.

إذا ما ضربنا مثالًا على ذلك، فسوف نبدأ بفرنسا في مقدمة الذكر، باعتبارها تمثل الأرضية الأولى التي اندلعت منها شرارة العلمانية المتمثلة في قلب الموازين وتغيير مسار الدولة من نظام ملكي إلى جمهوري.

لقد حازت الكنيسة على أكبر ما يمكن من أرباح، كالأراضي الإقطاعية وتكديس الثروات، والحصول على أموال الشعب من خلال صرفهم عن الدنيا والتغذي بالعلوم الإنسانية، واعتماد العقل مقابل إشباعهم بالأمور اللاهوتية واعتبار أن هذه الأرض "مملكة الشيطان" ، وأن الآخرة أحسن وأبقى. فهذه الجرعة السحرية التي اعتمدتها الكنيسة في أوروبا لإخماد أوجاع الناس وإسكاتهم دامت قرونًا طويلة دون التفكير في سبل النهوض والصحوة.

لكن مجريات الأحداث سرعان ما تغيرت بعد عام 1789، حينما امتلأت حناجر الثائرين بالمطالبة بإسقاط النظام وتصفية الحسابات، فتمت مصادرة أملاك الكنيسة، وإعدام الملك لويس السادس عشر وزوجته، واتُّخذ أهم قرار سياسي تاريخي يتمثل في فصل الكنيسة عن الدولة، لتكون فرنسا في لحظة تدشينية مع أول تأسيس لجمهورية على أرضها بعد حكم ملكي دام طويلًا.

هذه التجربة العلمانية في فرنسا أكسبتها خصوصية تاريخية وثقافية في كونها حركة مضادة للدين المسيحي، وجاءت كردة فعل عنيفة على الانتهاك الذي مسّ بحرمة الذات والتلاعب بمشاعر الناس الإيمانية باسم المقدس لخدمة مصالح رجال الدين والساسة من الطبقة المخملية.

بهذا، تأسست العلمانية على جملة من المبادئ تكشف في جوهرها فصل الدين عن مهام الدولة، والأهم احترام بقية الأديان، دون أن تشكل ممارستها أيّ ضغط على الحكومة أو المجتمع، ما دامت هذه الممارسات ضمن فضاء الدولة العلمانية.

إلا أن ما نشهده على أرض الواقع يخالف كل هذه التصورات ويجرّدها من نزاهتها، خاصة ما تُكنّه فرنسا من عداءٍ للإسلام، وتعاملها معه باحتراز شديد يحتم القول بأن مشكلتها باتت مع الإسلام بالذات، لأنه أولًا يشكل تهديدًا ديموغرافيًا سكانيًا، وثانيًا لأن أوروبا لم تنسَ حتى الآن الطعنات الحادة التي نالتها في الحروب الصليبية، وفي حربها مع الإمبراطورية الإسلامية، وشنّ الأخيرة غزوات طالت مساحة واسعة من الرقعة الجغرافية في العالم.

إذن، الآن صار بالإمكان الإجابة عن سؤال: لماذا كل هذا الضغط على الإسلام في ظل نظام علماني قائم في فرنسا يشرّع كل الديانات ويختار الحياد؟

ثم إن هذا التوتر ناتج أيضًا عن ترويج مغالطات من طرف بعض الإسلاميين نتيجة تعصبهم وتشددهم، مما أدى إلى ربط الإسلام بالإرهاب، والتطرف، والقتل. فأصبح المنظور الأوروبي والعام يتجه إلى أن الإسلام دين عنف وتخلّف وتعصّب فكري، يشكل خطورة على المجتمعات الراقية والمتحضرة داخل أراضيها.

كما أن لهذا الترويج أصولًا قديمة، إذ بدأ مع أول لحظة اتصال المستشرقين بالعرب عقب الاستعمار، في محاولة للتنقيب عن حفريات وآثار الماضي العربي. فتكاثرت أبحاثهم بدافع الفضول والاستكشاف، إثر فترات الأزمنة الخانقة زمن الاستعمار، فخرج الإسلام حينها في صورة التخلف والهمجية، بينما تصدرت أوروبا المرتبة الأولى في التطور والازدهار، فظلت هذه الصورة راسخة إلى حدود اليوم.

بعد أن صارت الفجوة بين الغرب والشرق الإسلامي واضحة، وبدأت الصحوة تلامس وعي التيار الإصلاحي النهضوي، في محاولة للنهوض والبحث عن أسباب تقدم الغرب على حسابهم، كانت القوى الاستعمارية تسعى لتأصيل هوية الدين الإسلامي على أنه دين عنيف همجي يشكل تهديدًا مباشرًا لدولتها القومية العلمانية، ما نتج عنه الإسلاموفوبيا، وشنّ هجومات عدائية على المقيمين في أراضيها، ما يناقض علمانيتها ودستورها القائم على احترام التعدد وحق توفير الأمن للمواطنين مهما كانت انتماءاتهم الدينية.

***

خلود بن عبد الله

 

في المثقف اليوم