قضايا

رحموني عبد الكريم: تهافت تنبؤات النبي حزقيال وحرق التكهنات

وأكثرُ ما صدم أشباه بعض أساتذة الفلسفة والمتطفلين بغية تدريسها والعازفين على وتر التكهن والتنبؤ بما سيأتي في شهادة البكالوريا، بل الجزم بكل حزم أن المواضيع التي تم التطرق إليها في دروسهم الخصوصية بأثمان باهظة، غالية أنهكت جيوب الأولياء وأتعبت كاهلهم فذلك من حياتهم قد مضى بمُضي تكهنات النبي حزقيال ونبوءاته، فسقط معبده وأحرق هيكل التوقع في درس الفلسفة وهي كما تبدو أكثر من محاورة، نقد ومساءلة، انبعاث ودهشة، لا تنبؤ ومقامرة للموضوع والمقالة الفلسفية، ومثل هذا الفهم والاستيعاب عظيم القدر والفائدة لكل دارس للفلسفة ومدرس لها يتعاطى فنون المحاورة وظلالها الوفيرة، محبة الدرس الفلسفي الممتع برد وعي التلميذ وتفكيره حول متعة الدرس وجمالية مفاهيمه، والمعاني المكتوبة، وكيفية الحكم عليها وتقويمها وكشف هذه الظلال؛ ظلال الفلسفة التي هي محبة ومغامرة، تعاطي وملازمة للأستاذ في حجرة الدرس؛ وفي الملازمة « سيكشف عن ثوابت الأسئلة الملحة على عقل الإنسان وعن الأجوبة المتغيرة، سيكشف عن الفلسفة الدائمة الأبدية من خلال الفلسفات المتغيرة المتعاقبة، وسيتكشف الدارس آخر الأمر عن نفسه حاملا للفلسفة الدائمة.»[1]

اليوم بتاريخ السابع عشر من شهر يونيو، حزيران سنة ألفين وخمسة وعشرين في الامتحانات الوطنية، شهادة البكالوريا للدولة الجزائرية، مواضيع امتحان الفلسفة أثلجت صدر كل أستاذ محبا للحكمة اللوغوسية، مخلصا في عمله داخل حجرة القسم وأشفتْ غليل المفتشين، المتفقدين لمادة الفلسفة وخففت من شدة غيظهم لتلك التكهنات، وأزالتْ السحر العظيم الذي سحروا به أعين التلاميذ في درسهم الخصوصي وتوقعهم المزعوم، « أنني منذ أن ارتدت طريق الفلسفة ووعيت رسالة الفلسفة واتخذت منها مهنة لم يخامرني شك في قدرها ونفعها، ورأيت بها ومن خلالها العالم الواقعي الذي كنت أعيشه وقد أضيء بضوء نفاذ ووعي جديد. وخُلق أصيل، وكيف لا وهي نفسها ولدت من معاناة أسئلة الحياة كما أنها بعث للحياة.»[2]

بعث العهد الجديد مع الفلسفة في الجزائر بين شكوى ونُواح المتطفلين، أشباه الأساتذة الطامعين في المال، البائعين للكذب والبهتان، فلا نبوءاتهم صدقت ولا تكهناتهم طُرحت، فجاءت مواضيع شهادة البكالوريا قمة في الطرح ومتعة في التحليل وعمق في التجديد، الموضوع الأول: هل الفعل الأخلاقي هو امتثال لسلطة العقل فحسب؟

وفي رحلة البحث وطرق باب الأسئلة عن مصدر القيم الخلقية وجب إثارة التساؤل الآتي: ما مصدر القيم الخلقية العقل أم هناك مصادر أخرى؟

القيمة الخلقية عقلية: الأخلاق تستعمل تارة بمعنى الملكات الحاصلة للنفس والتي تغنيها عن التروي في الأفعال الإرادية، سواء كانت فاضلة أو رذيلة. وتستعمل تارة بمعنى نفس الأفعال التي تستحق المدح والذم، وبناء على ما خلفته الحضارة اليونانية ومواقف الفيلسوف أفلاطون القوية وأصحاب النزعة العقلية في الفلسفة الحديثة الغربية بقيادة إيمانويل كانط، يمكن القول: جعل أفلاطون القانون الأخلاقي عاماً للناس في كل زمان ومكان ولا يتحقق هذا إلاّ في عالم المثُّل التي تعيش فيه النفس العفيفة، الفاضلة، العاقلة وما الجسد إلاّ عالم حس تسجن فيه الأنفس الطيبة المتعالية نحو السمو والكمال لقد استطاع الفيلسوف الألماني كانط أن يجعل مصدرَ الأخلاق هو الضمير الذي يبعث الإنسان نحو الخيرات ويزجره عن الشرور والقبائح.

عبّر عن هذه الأطروحة "أفلاطون" قائلا { إن الخير فوق الوجود شرفاً وقوة}, كما عبر إيمانويل كانط:{فليست الأخلاق هي التي تعلمنا كيف نكون سعداء بل هي المذهب الذي يعلمنا كيف نكون جديرين بالسعادة }.

أما الموضوع الثاني: يرى بول ريكور: أن التحليل النفسي أقرب إلى التأويل منه إلى العلم.

اللاشعور بين إسهامات فرويد والفرضيات المضادة له:

النظـريـة الكلاسيكية كأساس للأحوال النفسية ورفض اللاشعـور: يبدو أن الشعور هو أساس كل العمليات النفسية، فالتسليم بثنائية النفس والجسم، يقود إلى التسليم بأن النفس تعي جميع أحوالها وما يصدر عنها. فنشاط الروح يتمثل في الفكر وهو نشاط نفسي شفاف ليس فيه أي غموض، فلا شئ يحدث في النفس دون أن يشعر أو يعي ويعرف صاحبها ذلك. وهنا الإشارة إلى غياب اللاشعور وعدم ضرورته للفكر خاصة لدى ديكارت، إذ محور فلسفته حول الذات الواعية وحول الأنا المفكرة التي تفكر وتعي أنها تفكر في الآن نفسه يقول رونيه ديكارت الفرنسي ( 1596- 1650 ): « لا توجد حياة نفسية خارج الروح إلا الحياة الفيزيولوجية ». كما يقول آلان باديو Alain Badiu ( 1937 ): « إن الإنسان لا يستطيع أن يفكر دون أن يشعر بتفكيره  «. وعليه فكل ما هو نفسي شعوري بالضرورة، وأما الحوادث اللاشعورية فهي تتمثل فقط في بعض النشاطات الفيزيولوجية الآلية التي تحدث دون وعي منا كانقسام خلايانا الجسمية وتكاثرها. ومن أهم الفلاسفة اللذين نقدوا فرويد نجد الفيلسوف آلان قائلا: « إن اللاشعور هو احتقار للأنا، وعبادة للجسم » وقال أدولف غرامبوم: « التحليل النفسي هو علم زائف ».

« وقد تم نشر « الكتاب الأسود للتحليل النفسي » سنة 2005، وهو عبارة عن نقد لاذع يعتمد على معطيات العلوم العصبية. كما نشر ميشال أونفري Michel Onfray  كتابه « أفول صنم، أكذوبة فرويد » الذي أراد من تأليفه تفنيد أطروحات التحليل النفسي »[3]

في حين الموضوع الثالث: نص ممتاز أعاد النظر لمكانة التفكير الفلسفي الجزائري ولفت الانتباه لمفكرين جزائريين وضعوا بصمتهم في الوطن العربي، الأستاذ عبد الرزاق بلعقروز من كتابه الجيد مدخل إلى الفلسفة العامة، فخرجنا من تلك الدائرة الضيقة، المنبهرة بالآخر والمعلقة بعرقوبه حتى أضحى نصوص فلاسفة الغرب ومفكرو الشرق هم الأساس في منهاجنا والمفكرين الجزائريين عقدة في تفكيرنا وجب التخلي عنها، لهذا فالمواصفات الايجابية والمكتسبات التأسيسية التي تسعى إليها بيداغوجيا الكفاءات في منهاجنا التربوي الجزائري تَرومُ إلى خلق تواصل علائقي بين مادة الفلسفة والنصوص الجزائرية المغيبة فيها، وبالأحرى مد جسور التصالح و"إستطيقا" التواصل بين المدرس والنص الفلسفي الجزائري الذي يعتبر الأرضية الخصبة لإنبات أستاذ ينصهر في هوية النص، وجعل التلميذ ينخرط فيها كذلك من أجل تثمين ثقافة المحاورة النصية، الشك والمناظرة الفكرية، الحوار والمساءلة النقدية وعليه ولدت وعشت لأضع مقالا واحدا، لا أكثر ولا أقلَّ ضد النبي حزقيال الذي سقطت عليه جدران المعبد بعد حرق بخور التكهنات.

***

رحموني عبد الكريم - باحث من الجزائر

.....................

قائمة المراجع:

- محمد ثابت الفندي: مع الفيلسوف، طبعة أولى سنة 1974، دار النهضة العربية للطباعة والنشر، بيروت لبنان.

- اللاوعي: إعداد وترجمة: سميرة شمعاوي ومحمد الهلالي، دار توبقال للنشر، الدار البيضاء، المغرب.

هوامش

[1] محمد ثابت الفندي: مع الفيلسوف، ص:12 .

[2] المرجع السابق، ص:12.

[3] اللاوعي: إعداد وترجمة: سميرة شمعاوي ومحمد الهلالي، ص: 11 .

 

في المثقف اليوم