قضايا
مصطفى غلمان: هل تنهي لغة الصمت فراغ الغوغاء؟

"الصَّمتُ في مثل هذه الأزمنة الضّاجّة بالغوغائيّة خطابٌ عميقٌ لا يلتقطه سوى اللّواتي والّذين ربّاهم الصّمت الكبير بما هو إقامةٌ في شسوع ما لا ينقال. إنّه صمتُ المتصوّفة الّذين فاض من قلوبهم كلام العالم وشغف الآخر. وهو صمت كبار الجرحى الّذين نزلت بهم سراديب الألم إلى قاع الوجود وقاع الزّمن. وهو أيضاً صمتُ كبار المغرمين الّذين اختطفهم بهاء المحبوب فباتوا ما وراء اللُّغة وما وراء اللّسان. لذلك ميّز رهبان معابد التبت بين مئة نوعٍ من الصّمت، وجعلوا لكلّ نوعٍ راهباً موكلاً به". (محمد الشركي)
أجدني مشدودا مندهشا من فارعة العنوان الذي كلل به شاعر الأغوار المغربي الكبير محمد الشركي، هذه الأمثولة الممسكة بعين الروح، وهي تصطلي كنه خلاصنا من وحشة الحياة وعزلتها.. ولهذا، فليسمح لي بملء جرتي من بعض احتراقاته وتأوهاته..
يبلغ ضجيج العالم وصياح الفزع منتهاه، وتنثني الجلبة في انعطافة البؤس القيمي، والتردي الأخلاقي، فلا تجد حكمة صغيرة تنقدك من عسف الغاب الموحشة، ولا قاربا تنط من أحشائه للنجاة. فتلك جائفة قميئة وعلة تشق على الشاهد وتسقط صحة الأبدان والعقول على السواء.
هل تعود البشرية إلى بداياتها الأولى، تنتكأ خطاياها وتجير مثالبها من عظم السقوط وقساوة القرح، ثم تروم إلى فطرتها التي نشأت عليها، وتغلفت بمياسمها، غير ضارة ولا مؤلمة؟
ذلك مبغى هذا الوجود الطامح في أنفس حكمائنا الأخيرين، ممن يحصنون في آخر معاقل الدنيا مواقعنا المهزوزة، بتعزيزات المناعة والحيطة والحرز والتوق إلى السلام والمحبة والرضا.
هذا الصمت، إن كان يعلو على ما يبرر معقوليته، لا يكون مثالا للاقتداء، ولا يحذو رغبة الكائن في الانتصاب ضده، إذ الصمت عن الكلام، يجيب عن محتد المؤامرة والارتقاء بالواقع والاعتبار لوجوده كمعيش لا محيد عنه ولا هروب. فما بالك بالصامتين، من أهل الثقافة والعلم والحكمة. هؤلاء أجدر بالاحتجاج والمناهضة والتعبئة والتحدي والمناكفة وتدبير الأزمة والمنافحة عن الحق، حتى الرمق الأخير؟.
أليس من صفات الصامتين، "فَقْد الصَّوت النَّاشئ عن علَّة في الأوتار الصَّوتيَّة"، بلغة الطب، فهو مرض يستدرج كرها لإعاقة القيام بأمر اعتيادي من قبل الجسد، وفيه أوتار دماغية وعصبية تأمر وتوجه وتؤشر، فيصير الطوع قياسا على ميزاب الوقت وطاقته وظروف تصريفه. كذلك الصمت، هو فعل أو حتى " جذب صوفي غامض وأنه عجز للعظمة الهاجمة"، سرعان ما تنحصر ارتداداتها في الهوامش أو الثغور الهشة للمجتمع. وبغض النظر عما سبق تأويله عند فلاسفة الوضعية المنطقية، خصوصا عند توماس كون وكارل بوبر، على اعتبار تركيزها على مبدئية التمييز بين العلم واللاعلم، بين المعنى واللامعنى، فإن النظر ذاك، يلتقي في تأويل إمكانات تطويع اللغة الكلامية، وجعلها أكثر تأثيرا من أي لغة أخرى (كلغة الصمت)، وهو ما كرسه لودفيغ فيتغنشتاين في قولته الشهيرة، في كون " "اللغة هي طريقة لـ"تصوير" العالم في أذهاننا؛ أي أنها تعطينا صورا عن العالم الحقيقي، وهذه الصور هي نموذجنا الذي نعرفه عن الواقع، وبذلك تتعلق كلماتنا بحقائق".
أليس من تابع هذه الشذرة العميقة، أن يبدو الصمت كما لو أنه منذور للمعرفة، ومبذول لإدراك وجه الحقيقة عاريا، كما ثنائية الاتصال والوجود، بما هما قيمتان خالصتان للإنسانية والوعي بالتمدن والعقلانية؟ إذ يقوم الصمت في أكثر من واجهة واعتبار أخطر من مجرد "غياب الكلام" أو "حشوه" أو "شرطيته"، حيث تصير النهايات أو العدمية وعاء وخاصرة للنفوق والظلام.
قرأت جوهرة فريدة لألبرت إنشتاين، يقول فيها :" الكون مثل غابات يسودها الصمت، وهي مدعاة للتأمل العميق، ولكنك تخشى منها في ظل عتمة ذلك الصمت الهائل، ولكنك تفزع عندما يكسر الصمت بحركة أو رشقة أو رنين أو حفيف أو فرقعة عظيمة، تحدثها ظروف غامضة. إن التهيؤات لا شكل لها بتأثير كثافة التشيؤات. ولكن الأمور تبدو طبيعية عندما يعلن الصمت عن تعبيره بأشكال مستنيرة، فتتوالد أشياء جديدة لم نألفها".
هل تبلغ مهاوي الصمت وصلواته المهيبة، لغات العالم الجديد، المقصوف بالثرثرة والتكرار والتلعثم والمقايضة والتعويم والخسة، دونا عن إفراغ مآلاتنا الضبابية المهدورة في جنح الفراغ والعزلة وانطفاء الجذوة، حتى يصير الهمس والهسهسة والرجم بالغيب وتفريغ الانفعالات شكلا من أشكال "الإباحة" و"إنتاج التفكير" و"تبرير الضوضائية" و"عبثية الخرق"؟
وهل تصمد إنسيتنا المنكشفة على كل سرديات الكذب وتشويه الحقائق، والإفراط في تجميل القبائح، في مواجهة المعتركات التكنولوجية الرقمية الجديدة، المكرسة للصخب والحركة الزائدتين الغارقتين في التغريب والتنميط وتهشيم الهويات؟.
ذلك هو لب التفكير ومصير فهم جدوى الصمت وفلسفته.
***
د. مصطفى غَلــــمَــان