قضايا

إبراهيم برسي: حين يصبح الماضي سلاحًا.. تفكيك التراث بين السلطة والذاكرة

ليس التراث مجرد بقايا محفوظة في الكتب والمتاحف، ولا هو الامتداد الرمزي الذي يربط الأجيال ببعضها البعض، بل هو بناء ثقافي متحوّل، يتم تشكيله وإعادة تشكيله وفقًا لحاجات السلطة وأطر المعرفة السائدة.
في كل مرة ننظر فيها إلى التراث، فإننا لا ننظر إلى “الماضي” كما كان، بل إلى صورة تمت إعادة إنتاجها وترتيبها وفقًا لرغبات الحاضر.
بهذا المعنى، لا ينبغي أن نراه ككيان متجانس يحمل حقائق ثابتة، بل كنسيج متشابك من الصراعات والتلاعبات والانتقائية التي جعلته يبدو كما هو اليوم.
لكن، إذا كان التراث يتغير باستمرار، فكيف نعيد قراءته دون أن نقع في فخ التقديس الأعمى أو الرفض المطلق؟ وما الذي يجب أن نبقيه منه، وما الذي ينبغي تفكيكه وتجاوزه؟ وهل يمكن فصل التراث عن السلطة، أم أنه لا يوجد إلا داخل علاقات القوة التي تحدد وجوده ومضمونه؟
إن ما وصلنا من التراث ليس إلا ما سمحت به البُنى السلطوية عبر التاريخ. فقد خضعت الذاكرة الجمعية، كما يؤكد ميشيل فوكو، لعمليات انتقاء وتصفية، حيث تم إقصاء بعض الأصوات وإبراز أخرى بما يخدم هيمنة معينة. وعليه، فإن الاحتفاء بالتراث ليس مشروعًا بريئًا، بل هو في جوهره اختيار محكوم بتصورات سياسية واجتماعية.
كارل ماركس، في تحليله للتاريخ، يشير إلى أن “أفكار الطبقة الحاكمة في كل عصر هي الأفكار الحاكمة”، مما يعني أن التراث، كما نعرفه اليوم، ليس مجرد سجلٍّ محايد، بل هو منتج ثقافي صُمِّم للحفاظ على استمرار البنية السلطوية وإعادة إنتاجها.
لكن، هل يمكن فهم التراث خارج هذا الفهم الكلاسيكي للسلطة؟ فوكو يرى أن السلطة ليست كيانًا جامدًا، بل شبكة متداخلة من العلاقات، تتغلغل في كل مستويات الخطاب والمعرفة. وعليه، فإن “التراث” ليس مجرد مجموعة من الأفكار التي فرضتها سلطة عليا، بل هو ميدانٌ للصراع والتفاوض، حيث تتقاطع قوى متباينة، كلٌّ منها يسعى لإعادة إنتاجه بطريقة تخدم أهدافه.
لذا، لا يمكن التعامل مع التراث بوصفه “نصًا نهائيًا”، بل كحقل نصي مفتوح، يخضع لعمليات تأويل لا نهائية، حيث يتم استعادته وإعادة تشكيله وفق متطلبات كل لحظة تاريخية جديدة. لكن المشكلة أن معظم المجتمعات تتعامل مع تراثها بواحدة من مقاربتين متطرفتين: إما الجمود والتقديس، أو القطيعة والرفض.
فمن ناحية، نجد نزعة تقديسية تتعامل مع التراث بوصفه جوهرًا نقيًا يجب الحفاظ عليه كما هو، مما ينتج مجتمعًا متخشبًا، تتحول فيه القيم والممارسات القديمة إلى أدوات تقييد أكثر من كونها فضاءً للإبداع والتطور. ومن ناحية أخرى، نجد نزعة مفرطة في الحداثوية ترفض التراث جملةً وتفصيلًا بوصفه امتدادًا للتخلف، متناسية أن الهويات والثقافات لا يمكن أن تنشأ في الفراغ، وأن الهدم المطلق لا يؤدي بالضرورة إلى بناء جديد، بل قد يكون مجرد إعادة إنتاج لهيمنة أخرى في ثوب جديد.
لكن، هل يمكن تفكيك هذه الثنائية نفسها؟ جاك دريدا، في تحليله لفكرة “الأصل”، يشير إلى أن البحث عن “جوهر نقي” لأي شيء هو محض وهم، لأن كل ما نعتبره “أصيلًا” هو في الواقع نتيجة عمليات تكرار وتحريف مستمرة. بهذا المعنى، فإن التراث ليس “شيئًا” يمكن أن يكون أصيلًا أو مزيفًا، بل هو لعبة لا نهائية من الإحالات والتأويلات.
والتر بنيامين، من جانبه، يذهب أبعد من ذلك حين يقول: “حتى الموتى لن يكونوا في أمان إذا انتصر العدو”، مشيرًا إلى أن الماضي ذاته ليس محصنًا من التشويه، بل هو ساحة معركة مستمرة، يُعاد تشكيلها وفقًا لمصالح القوى المنتصرة.
إذا كان التراث جزءًا من الهيمنة الثقافية، كما يرى أنطونيو غرامشي، فإن إعادة قراءته لا تعني فقط استعادة “القيم الأصيلة”، بل تعني الكشف عن آليات السلطة التي جعلت بعض الأفكار تُعتبر “تراثًا”، بينما تم دفن أفكار أخرى في النسيان. فالتراث ليس قائمة جاهزة من القيم التي يجب الحفاظ عليها أو رفضها، بل هو بنية ديناميكية يجب أن تخضع للتفكيك المستمر، لا بهدف رفضها أو القبول بها، بل بهدف الكشف عن المنطق الذي يحكم تشكيلها وإعادة إنتاجها.
لهذا، لا يكون الاحتفاء بالتراث طقسًا استهلاكيًا أو إعادة إنتاج للمقولات السائدة، بل يجب أن يكون فعلًا ديناميكيًا يتحدى القوالب الجاهزة، ويفتح المجال لقراءات متعددة لا تهاب المواجهة مع الماضي، ولا تُسقط عليه رغبات الحاضر.
في عصر “المحاكاة”، كما يصفه جان بودريار، لم يعد التراث حتى مجرد “بقايا الماضي”، بل هو صورة تمت إعادة إنتاجها في الحاضر، وأُعيد تقديمها كشيء حقيقي، رغم أنها ليست سوى محاكاة لصورة متخيلة عنه. من هنا، يصبح السؤال ليس فقط: “ما هو التراث؟”، بل: “من الذي يصنع التراث اليوم؟ وما الأغراض التي يخدمها؟”.
إن التعامل مع التراث لا يمكن أن يكون عملية محايدة، بل هو اختيار أيديولوجي بامتياز. ما يستحق الاحتفاء ليس مجرد الطقوس والمرويات التي تراكمت عبر الزمن، بل القيم التي تحمل بُعدًا تحرريًا، والتي يمكن أن تشكّل أساسًا لنقد الحاضر وبناء مستقبل أكثر عدالة.
لكن حتى هذا الاختيار يجب أن يُفهم على أنه عملية غير نهائية، إذ لا توجد قراءة “أخيرة” للتراث، بل فقط محاولات مستمرة لإعادة تأويله وفق المعطيات التاريخية والمعرفية المتغيرة.
لهذا، لا يجب أن يكون الاحتفاء بالتراث مجرد استعادةٍ للقديم، بل يجب أن يكون مشروعًا مستمرًا لإعادة إنتاجه بطرق جديدة، تكشف تناقضاته، وتعيد توظيفه خارج الإطار الذي حُبس فيه.
فالتراث ليس صنمًا يُعبد، ولا هو وثيقة جامدة يجب حفظها، بل هو فضاء للعب والتفكير، يمكننا أن نعيد تشكيله بطرق تتجاوز السلطة، لا أن نرسخها من خلاله.
إن إعادة النظر في التراث ليست مجرد ممارسة أكاديمية أو ترف فكري، بل هي ضرورة ملحة في مجتمعات تعاني من اختلال علاقتها بالماضي. فإما أن يكون التراث أداة للتنوير والتحرر، أو يصبح قيدًا يكرس الاستبداد ويعيد إنتاج علاقات القوة نفسها التي صاغته منذ البداية.
في النهاية، إن قراءة التراث من جديد ليست فعلًا فرديًا منعزلًا، بل هي جزء من صراع أكبر حول الحقيقة، والمعرفة، والسلطة. وما نختاره من التراث، وما نقصيه منه، يحدد ليس فقط كيف نفهم الماضي، بل كيف نبني المستقبل أيضًا.
***
إبراهيم برسي

 

في المثقف اليوم