قضايا

محمد الشاوي: إبداعية ناقد الفن المعاصر

كان عميد الأدب العربي طه حسين يعلم علم اليقين أن النقد الجاد صَنيعةٌ يُسديها الناقد إلى معشر الكتّاب والشعراء وأهل الفن؛ لأنهم يستفيدون من النقد أكثر مما يخسرون. إن هؤلاء من خلال النقد: "يعرفون رأي الناس فيما يكتبون ويقولون؛ وليست هذه المعرفة قليلة الفائدة. يعرفون رأي الناس ويعرفون رأي الإخصائيين. فيقفون على مواضع القوة والضعف في فصولهم وقصائدهم فينفعهم هذا ويزيدهم قوة إلى قوة، ويعصمهم من السقوط والاسفاف" (طه حسين، حافظ وشوقي، ص: 102). ثم يستمر طه حسين في رصده للنقد الجاد فيقول: "في النقد إقرار للحق في نصابه، ودفاع عن الفن، وتَبْصرةٌ لِمَا في الآثار الفنية من جمال أو عيب". ص: 102.
أما بالنسبة لتوفيق الحكيم، فإنه كان مقتنعا كل الاقتناع أن الناقد هو صاحب رأي بامتياز. ذلك أن "المطّلع على النقد أحد فريقين: فريق يُسلم ويُصدق دون بحث أو تمحيص.. وهذا فريق من لا رأي له، أو من لم يهتم بعد بتربية الرأي فيه.. وفريق لا يقبل التصديق والتسليم قبل الرجوع إلى الأثر الفني يطالعه حرا من كل قيد ليستخص رأيا فيه بنفسه لنفسه". (توفيق الحكيم، يقظة الفكر، ص: 15-16). لذلك، فالنقد الجاد لا يتحقق إلا في مجتمع حر، وفي هذا المجتمع تكتمل رسالة الفنان والناقد معا، وتكتمل أيضا مهمة إيقاظ الفكر من سباته ليمارس عمله ويرتمى في نعيم التأويل الموسَّع الحر الذي ينقلنا إلى فهم يقظ للفن الذي يعاصرنا ويحيط بنا، حاملا معه أفكاره ومعانيه بكل دقة وقوة. فأينك أيها الناقد الذي ينقد الفن المعاصر؟ وهل تتحقّق معك يا تُرى الجمالية المنشودة للتأويل الموسَّع الحر؟
غني عن البيان القول إنه من الضروري اليوم على الناقد الفني الاحتكام إلى التأويل المُوسَّع الحر، لفهم القصدية المضمرة للفن المعاصر. فالقراءة النقدية ذات المسعى الأبجدي، والمتعارف عليها تقنيا إنْ على المستوى الوصفي التقني-التحليلي أو على المستوى الرسمي-الصباغي، ظلت جوفاء المعنى وأثرية المذهب، تحذو حذو النعل بالنعل، لا تُسعف المُتلقي على فك شفيرة الفن المعاصر. فهي تتكئ على أرضية هشة للوصف الشكلي في بعده التحليلي الفارغ من المضمون الجمالي، والمُبتعد عن ناصية التفكير النقدي المُؤسِّس لروح الفن وجوهره، ألا وهو التأويل الموسَّع الحر. وبتعبير آخر، إن تلك القراءة النقدية المستهلكة تتأطر ضمن نسق دائري مغلق يرفض الانفتاح على العلوم والمعارف ذات الارتباط بالفلسفة والعلوم الإنسانية والاجتماعية والمعرفية والعصبية...، لاسيما إذا ما تأملنا مختلف التحولات الراهنة التي شهدتها هذه العلوم من جهة، وأيضا علاقتها بالفن المعاصر من جهة ثانية.
وفي التأويل المُوسَّع الحر، لا بد أن يتوفر الناقد الفني على عُدة معرفية يساهم بها من أجل الخروج من المعنى المضمر في الأعمال الفنية إلى المعنى المُؤوَّل أو الشبيه بالحقيقة أو الممكن الذي يُصنفُ ضمن دائرة الخطاب الاحتمالي، وهو الذي يتم استنباطه بالانفتاح على مجالات وحقول علمية متخصصة داخل المختبر النقدي الذي يشتغل فيه الناقد الجاد. فمن أهداف التأويل الموسَّع الحر في حقل الجماليات البصرية أنه يساهم في رفع صعوبات الفهم الجمالي للأعمال الفنية بطرحه لأبعادٍ جديدة في المنظور والمقاربة، فينقلنا معه إلى مستويات رحبة تخدم غرض التلقي. ثم الدفع بالأثر الفني نحو مكانه الحر للمساءلة والتفكير من أجل تحقيق غايته التواصلية ألا وهي تأسيس نقاش فلسفي بين العمل الفني والمتلقي.
في ضوء ما تقدم، يمكننا بسط التأملات الآتية: كيف نُؤَوِّلُ عملاً فنيًا؟ وإلى أي حد يمكن للتأويل الموسَّع الحر للفن المعاصر أن يساعدنا على فك شفيرة هذا الفن بطرحه إمكانات المساءلة والتفكير من أجل بناء الرأي؟
تتطلب عملية تأويل الأعمال الفنية حسب مقاربة التي دأبنا عليها في هذا المقال، تحقيق عناصر متكاملة، تهدف إلى طرح أفق جمالي حر للفهم والتفسير والتواصل. وفي هذه العناصر تتفاعل الذات الجمالية للعمل الفني (ذات الفنان) مع المتلقي (فردا كان أو جماعة)، والموضوع الفني باعتباره وسيطا لهذه العلاقة الثلاثية (الذات-المتلقي- الموضوع الفني). وإن دور الناقد المؤوِّل يتحدّد في فهم وتحليل هذه العلاقة ورصد أبعادها ومُختلف تجلياتها المحايثة للعمل الفني.
1- كيف يتحقّق الفهم الجمالي للعمل الفني؟
إن الفهم الجمالي هو أول مؤشر دال على استيعاب كُنه العمل الفني وجوهره. ويتم ذلك عن طريق وضعه في السياق الجمالي الذي ينتمي إليه، وباستحضار المادة المُشتغل عليها، من حيث الشكل والمضمون والأبعاد الثاوية خلف فكرة العمل. والمراد بالسياق الجمالي، تقريب المُتلقي من فكرة العمل الفني المنجز، وذلك من خلال: تعريفه، وتجنيسه، ورصد خصائصه، ومكوناته... فقد تبدو لَكَ مكونات العمل الفني مبعثرة، أو غير مفهومة، أو معقدة، أو حتى تافهة في نظر البعض..!! لكن الناقد يجمعها داخل خيط ناظم ينطوي عليه التصور الفني الذي حمله الفنان على عاتقه واستطاع إخراجه في العمل الذي أنجزه في صيغته المعاصرة، فاختار منها التعبير الذي يتناسب مع هذا التصور، وفي تقاطع مع اتجاهات وتيارات لها نفس المسعى والغاية.
2- أي تفسيرٍ جمالي يساعدنا من أجل بلوغ عتبة العمل الفني؟
يحضرنا هنا التفسير الجمالي الأسلوبي باعتباره عتبة أساس لبلوغ العمل الفني، وذلك عندما يكشف الناقد عن مستويات القضايا والموضوعات التي يستند إليها العمل الفني بمرجعية أسلوب الفنان. ويقوم الناقد في هذا السياق بتأطير أسلوب الفنان ضمن تيار من تيارات الفن المعاصر -مع إمكانية الجمع أو المزاوجة بين أكثر من تيار- وفضلا عن استحضار تداخل التيارات داخل نفس العمل/ المنجز. فالأعمال التجهيزية على سبيل المثال، تتطلب أنماطا متعددة للبناء الجمالي البصري للموضوع، فيحضر: الفضاء المكاني ودلالاته، الأحجام وهندستها، الظل والضوء، المفاهيم، القضية المضمرة التي تقتضي من المتلقي البحث عنها، طريقة العرض وأبعادها ذات الارتباط بهندسية المنظور، المجال الإدراكي، الكل والجزء، الزمان الفني، رقمية الصورة وأبعادها الافتراضية، المؤتمرات الصوتية، المستويات الدلالية لمراحل العمل: البداية، الوسط، النهاية... والأمر نفسه بالنسبة لفن الأداء الذي ارتبط بالفعل الحي للعمل الفني. ذلك أن حضور المتلقي أثناء العرض يجعله يكتشف بنفسه الموضوع الجمالي ويبحث عنه أثناء تقديم الفنان لعمله المباشر والحي. فتكون مهمة الناقد ها هنا هي توثيق الأداء الفني بتقديم تفسير متكامل في نهاية العرض. وهو تفسير يستند فيه إلى عُدة متنوعة من التخصصات والمعارف التي من شأنها أن تساعده على رصد الحالات النفسية والعلائقية والوجدانية والمعرفية داخل الإطار الاجتماعي والحياة اليومية بمختلف تفاعلاتها وتأثيراتها على الذات والمتلقي في الآن نفسه. وعلى سبيل المثال: قد نجد في بعض معارض فن الأداء توظيف الفنان/العارض لوثبة تصالُبيَّة، وهي خشبة طويلة مسندة على الحائط، تُستخدم في تعليم رقص الباليه. وعليها يُصالِب الفنان رجلَيْه تكرارا داخل قاعة العرض بطريقة تخلق فعل الدهشة والغرابة لدَى المتلقي، وقد يقرع إحدى رجليه بالأخرى ليلعب دور راقص الباليه. وفي نفس العرض يستخدم الفنان الموسيقى التصويرية أو التعربية، وكذلك هندسة المكان، والألوان المعبّرة عن حالته النفسية... كما تجده يُمسك بيديه الفرشاة ويخلط الألوان ويرسم موضوعا اختاره ليؤثث به أداءه البصري الحي أمام الجمهور. إن هذا العرض يجعل المتلقي يشعر وكأنه يشاهد عرضا مسرحيا من طراز خاص، وهو طراز الفن المعاصر الحر الذي لا تحده قيود أو تلجمه ألجام، فكان فن الأداء آية من آيات الفن المعاصر.
3- أي تواصلٍ الجمالي يسلكه الناقد الفني؟
والمراد بالتواصل الجمالي لحظة مناقشة العمل الفني عن طريق تأويل المعاني والدلالات التي حَصُلَ فَهْمُها واستيعابها. وهنا يتقوى فعل التأويل الموسَّع الحر لكي يضطلع الناقد بالفهم الممكن لحقيقة الفكرة التي يطرحها العمل الفني. فيبدأ الناقد بالبحث عن إمكانيات محتملة لخلق فعل التواصل مع العمل الفني. فيقوم بمساءلته واستنطاقه لتقريب المتلقي من معاني الجمال الذي يوجد بداخله. وهو بذلك يساهم في تربية الرأي والذوق. ولعل جمالية التواصل التي تتولَّدُ عن العمل الفني، أنه يترك في نفسية المتلقي أثرا خفيا يدفعه إلى ممارسة التفكير الحر. كما يساهم هذا التفكير في تكوين الرأي، وبالتالي يتأسس عند المتلقي الحكم الجمالي الذي نُصدره على الأعمال الفنية. إنه حكم حر وذاتي مستقل، يوجد بداخل كل واحد منا، والناقد الفني يساعدنا على التعرف إليه واستخراجه بعدما كان مضمرا. إن التواصل الجمالي ينقلنا بالضرورة من المعنى المجازي إلى المعنى الحقيقي، ويدفع الناقد أيضا إلى توسل الاستقراء والاستنباط والمقارنة والتركيب. فيستعير الناقد مقاربات من علوم ومعارف مُتخصصة: الفلسفة، وتاريخ الفن، وعلم النفس، وعلم الاجتماع، والهندسة، والرياضيات، والفيزياء، وعلم الجمال، وميتولوجيا، والأنثروبولوجيا، والعلوم المعرفية، والعلوم العصبية، واللسانيات، والتداوليات... والهدف من هذه المقاربات هو وضع أسس علمية وإبداعية للمعرفة التشكيلية والبصرية في الكتابة النقدية العالِمة.
تأسيسا على ما سبق ذكره، نخلص إلى أن الفن المعاصر بالنظر إلى أشكاله التعبيرية الراهنة، والتي رغم تنوعها وتعددها، فإنها تفتقر إلى المضمون التأويلي الموسَّع الحر الذي يرتبط بمهام الناقد الفني. وإذا ما تأملنا هذه الأشكال التعبيرية في الفن المعاصر: اللوحة بمفهومها الجديد، والتركيبات النحتية، والأحجام، والتجهيزات، والفيديو آر، وفن الأداء، والصباغة الديجيتالية...، فإننا نجد أنها غير مكتملة المضمون الجمالي، والتأويل الموسَّع الحر وحده الكفيل بملء وتدارك مسألة عدم الاكتمال، وكذلك الصعوبات التي من الممكن أن ترتبط بعملية التلقي. وعلى هذا الأساس، فقد كان هدف هذا المقال هو الوقوف عند مستويات النقد الجمالي للفن المعاصر من حيث الفهم والتفسير والتواصل. تلكم التي تستند إليها وظيفة ومهام الناقد الفني الذي لا شك أنه سيساهم بها في تذليل عوائق التلقي ورفع كل تعقيد من أجل تسهيل الفهم وتقريب الرؤية الجمالية الحرة للعمل الفني في صيغته المعاصرة والإبداعية الراهنة. لذلك فإن عمل الناقد هو عمل إبداعي بامتياز، والعمل الإبداعي أيًّا كان نمطه، لا بد وأن يتجدّد مع مرور الزمن بكل ما يحمل من أبعاد ودلالات متغيرة وليست بالثابتة. فالنقد الذي كان في الماضي ـفي فترة الثمانينيات- كان مثيرًا، ولِمَ لا؟ مدهشًا في عصره. لكن للأسف لم يعد يحظى بنفس القدر اليوم، مع زمن الرقميات والعصرنة، وخدمات الذكاء الاصطناعي على مستوى الكتابة والتأليف والإبداع الفني. أمَا كانت مشكلة: كيف ننقد عملا فنيا؟ وما هي مكونات هذا النقد؟ وحدوده...؟ مدار جدل في الماضي لم يعد يجد من يتأمله اليوم، أو حتى التفكير فيه، مع ظهور مقاربات جديدة تختلف باختلاف الحقل العلمي الذي تنتمي إليه. لعلها إذن ضريبة المجاوزة التي تُعطي في كل عام ولربما في كل شهر نموذجا جديدا من المقاربات اللاحقة التي تتجاوز السابقة!
ولكنْ، إلامَ صارت أحوال النقد على أيدي المتجاوزين من وجهاء نقاد هذا الزمان؟
وبعد، فليبارك قارئ هذا المقال عقل كل ناقدٍ جاد يتصدى لفساد الذوق الذي ساهم فيه دعاة النقد من الذين يفسدون فكرة الأثر الفني بجهلٍ وتجاهلٍ وتحاملٍ على إفساد الذوق العام!
وممّا لا مِراء فيه أن العزةَ كل العزة لأصاحب الذوق الرفيع والحس الجمالي البديع! فلهم خالص التقدير.
***
بقلم: أ. د. محمد الشاوي

في المثقف اليوم