قضايا
أكرم عثمان: فنون التغافل في العمل والحياة الاجتماعية
يمر العديد من الناس بمنعطفات في الحياة ومنغصات قد تشكل بعداً مهماً وواضحاً يلتفت الانتباه لها الكثير من الخلق، أمور قد تكون في غاية البساطة والهامشية من أشخاص خبروا النكد والجهل وركوب محطات فارغة وركزوا على فتات الامور ونقائصها، فننجذب لها ونتفاعل معها حتى تثور دائرتنا ونخرج من السياق ونصاب بالتوتر والانفعال ونغضب ونمارس أفعال لا تمت لنا بصلة ولا تشبهنا لا نألفها، لكنها في محصلة الأمر تبدو سلوكاً يصدر عنا وعن شخصيتنا، كما قال أحد العارفين والمجربين " نواجه الحياة بكل صعوبة وقوة وندع التوافه تغلبنا على أمرنا"، نعم نتمتع بالقوة والتماسك وتغلبنا أشياء تبدو صغيرة ليست ذات قيمة ووجود، وآخرين عصاميون يتمتعون بالجلد والتماسك والرصانة وانتقاء الأفعال والممارسات الإيجابية التي تعبر عن أشخاص نبلاء يعرفون ما يصلح شأنهم وما يرفع من سمتها ويضعها في مقامها ومكانتها، يلتفتون للمواقف التي تستحق وتكون قيمتها وأثرها قيم وذات وقع كبير ويتركون ما لا وزن له، ولا يعيرون الاهتمام بأشياء واستفزازات وسلوكيات لا تشكل نفعاً لهم ولغيرهم.
من أجل ذلك دعونا نتأمل ونناقش موضوعاً مهماً يستحق منا أن نفرد له مساحات ونسلط الضوء عليه من النقاش والقراءة وتدوين الأفكار والأفعال التي تحتم علينا أن نشير لها. إنها ممارسة فنون التغافل فهو قيمة تؤكد التوازن النفسي والشعور بالثقة والمرونة العاطفية في تحلي المرء بها وإنعكاسها على كلماته وسلوكياته وردود أفعاله تجاه نفسه والآخرين، فمن اتصف بالوعي والادراك الذاتي والنضج في التعامل مع المواقف والأشخاص، استطاع أن يمارس ويعيش أطراف وممارسات التغافل الإيجابي المبني على السمو والروح التي تتدفق حكمة وإشعاع من نور الهدى والسكينة والطمأنينة التي تحل في النفوس والتي تنظر للأهداف العليا أهم من المماحكات وهوامش الأمور بدل التخبط والردود الهوجاء التي تزلزل الكيان عند هبة نسائم من الريح والتصرفات البسيطة التي قد تهزم النفوس وتدخلها في دائرة الملامة والتأنيب فهم عرفوا كيف يتحلون بالانضباط والتحكم في أنفسهم، فهم لا يتوقفون عند أشياء لا تذكر ولا تستحق الالتفات إليها وإعطائها طاقتنا ومجهوداتنا. هؤلاء هم أصحاب التوازن والاعتدال فكراً وممارسة وتعاملاً وفهماً ووعياً بالحياة ومن يعيش في كنفها وفي فضائها.
فتأمل معي عندما يتعامل رب الأسرة في بيته مع زوجته وأولاده بفنون من المرونة والتغافل للأمور البسيطة التي قد تثيرها ممارسات الزوج أو الزوجة وأولادهم، يتحلون بالضبط الانفعالي ويناقشون ويحاورن ويضعون النقاط على الحروف دون أن يعرقل حياتهم ترهات المواقف وصغيرها.
وتوقف برهة لتخيل بعض المواقف من الممارسات عندما تصدر عن القائد في منظمته الذي يدير فريق عمله بسهولة ويسر دون أن يعقد الأمور ويضيع طاقاته وطاقاتهم ويشتت انتباههم في أعمال قد تصدر عن أشخاص وقد تظهر في مواقف العمل، بل يشد من أزرهم ويركز الاهتمام على الأهداف التي خطط لها ويسير بهم في بوتقة تحمل للمسؤولية والإنجاز والأداء دون أن ينشغل بمواقف هشة متآكلة تضعف فريقه وتبعده عن تحقيق ما يصبو إليه.
تفكر ملياً عندما تتواصل مع أفراد مجتمعك في مناسباتهم ولقاءاتهم وتجماعاتهم فمن الحكمة أن تولي وتسترعي الانتباه في الذي يجمعك بهم دون أن تشغل فكرك على لحظات من الضعف ينشغل بها أناس ليسوا أهلاً للثقة والمسؤولية، فالتغافل ممارسة فائقة القيمة عندما يتجاوز عن سقطاتهم وإنحدار ممارساتهم، فالعودة إلى الطريق السليم أجدر نفعاً من تضييع الأوقات في هموم وجدال لا يبقى صلة ولا محبة بين الناـ بل يفتت عضدهم وقوتهم.
فالمتغافلون في أسرهم يجلبون النجاح والسعادة لهم ولمن في كنفهم، والصامتون الحكماء عن ممارسات في الأعمال يركزون نحو الأهداف المرسوم لها بثقة وتميز، والمتواصلون في محيطهم الاجتماعي يتجاهلون عن أشياء يثيرها أشخاص تبدو في غاية الروعة أن تحدث تماسكاً وقوة في عضد الجماعة وبنيتها الاجتماعية.
عندما تبحر بنفسك وفي تجاربك الشخصية سواء كنت في أسرتك لا تريد أن تضيع جهود أفرادك وعائلتك في متاهات لا طائل منها، فتهون عليهم بعض الأخطاء من البعض وتركز انتباههم نحو التشارك وقوة اللحمة الأسرية والعائلية، فتثير سحابة من النقاش وتسلط الضوء على أثر التغافل في حياتهم والتغاضي عن بعض الأشياء في مقابل تضمن استمرارية حياتهم وتأثيرها عليهم عندما يتماسكون ويقبلون على بعضهم ويتعاونون في المهمات والأهداف التي تجمعهم.
وكم نحن في غاية السعادة والتألق عندما نمارس فنون التغافل والتجاهل لصغائر الأمور، نرى انعكاس ذلك في نفوسنا وسلوكياتنا وتشكل عادات أصيلة في فكرنا ومهاراتنا وتوجهاتنا نحو الحياة. ستكون قراراتنا أكثر نضجاً ووعياً وعقلانية، ونرتفع عن ردود الأفعال الفجة والهوجاء التي قد تضر بصحتنا الجسمية والنفسية وتضعف شوكتنا الاجتماعية، وأن الأشخاص الذين يمارسون التغافل يسهمون في خلق بيئة إيجابية جاذبة سلسة التواصل وصحية المبنى والمعنى.
وفي الختام: أن التغافل ممارسة وادراك لفنون أفعالنا وكلماتنا بشكل مستدام. فقيمة التغافل تمنحنا فرصة للنمو والتطور وتحقيق التوازن النفسي وتعزيز البنية الاجتماعية التي تشكل نواة الصلابة والقوة في المجتمعات الرائدة وتعزيز جودة الحياة القائمة على النجاح والسعادة والراحة بعيداً عن سفاسف الأمور وهوامشها.
***
د. أكرم عثمان - مستشار ومدرب دولي في التنمية الشبرية
2025