قضايا
جودت العاني: المسخ الثقافي في ذاته وكينونته..
التساؤل هنا، كيف يمكن التحرر من التنميط الملازم للشعر خاصة والثقافة بصورة عامة؟ وليس ذلك من باب الإلغاء أو الإفساد، إنما الأخذ بتحديث الأنماط وتحريرها من القسرية التي تسمى القوالب؟
أنماط كتابات الشعر والنثر، قد تأخذ مسارات شعرائها، وأمثلة ذلك كثيرة كما يتحدث عنها البعض أي لا يجب أن يتبنى الشاعر طريق المتنبي أو طريق بدر شاكر السياب ونازك الملائكه والبياتي او طريق الروائيين والمسرحيين شكسبير وكافكا وكولن ويلسون وسارتر وفيكتور هيجو، حتى يكون شاعرا وروائيا وكاتبا وغيرهم من المبدعين.. هذا يسمونه أسر النمطية في الابداع الفني (يقولون لا يجب ان نتبع مسار كافكا ومسار فرانس فانون وسارتر وطه حسين حتى نكون روائيين ولا مسار شكسبير ودانتي والسياب والبياتي لكي نكون شعراء) ، وهذا كلام صحيح يتوجب عدم اغفاله طالما ان الحداثة تشترط الخروج على النمطية دون احداث ضرر في الإبداع الثقافي والفكري وفنون الجمال.
قال لي احد الشعراء المعاصرين في اليونان-أثينا ضاحية "خلاندري"، ونحن نحتسي القهوة ذات يوم (ان النماذج الاوربية الفنية لا يجب ان تكون انماطا جاهزة تفرض رمزيتها الخاصة على مسارات الابداع الجمالية الاخرى في العالم).. والذي يقصده في المعنى هو التحرر من قسرية الانماط والتوقف عن فرضها على ابداعات اخرى لا من حيث المقاسات ولا من حيث انماط الشعر والنثر وغيرها. فالإبداع لا يتوقف إلا عند فقدانه البيئة والأجواء الصالحة والتذوق المرهف للأدب والفن.. فإذا فقد الشعر اجوائه ومذاق محيطه وغمرته سحابة كالحة من الغيوم الاجتماعية بات الشعر كئيباً وربما يبدع في إنعكاس شاعريته، لأن الشعر والأدب هما إنعكاس لواقع المشاعر الإنسانية في الجمال والحب والفرح كما في حالات الهم والغم والحزن. يتسائل البعض، كيف يمكن للشاعر أن يكتب شعر الفرح والحب في مأتم؟ وكيف يمكن للشاعر ان يتغاضى عن مشاعر الحزن ويكتب بمشاعر الغزل؟ هنا يتحدد شكل او لون الشعر تبعا للواقع المعاش.. وهذا يختلف عن شعر المخيلة البعيد عن ما هو كائن أو ما ينبغي أن يكون، حيث الإغتراب عن حقائق الواقع الموضوعي حين يكثف الاغتراب شكل الوجود ويجعله متالقاً أو كالحاً او وخيماً يبعث عن الشؤم.
بعض قصائد السياب عند مرضه كانت غائمة معتمة وممطرة بالحزن، وقصائد نزار تسيح حباً باذخاً وشهوانياً فاضحا يقطر عسلاً حين تعشق الروح والحب والجسد، ولكن هذا لا يعني ان الشاعر نزار قباني لا يحزن وإن بدر شاكر السياب لا يفرح برؤية حبيبته حتى في الخيال.
الشعر، من الصعب تخيله جاهزاً.. حزمة جاهزة في جعبة الشاعر.. إنها زخة ماطرة من الفرح أو الحزن من التفاؤل والتشاؤم من الحب والكراهية.. تنقط قطرة قطرة كحبات المطر وتتجمع في اناء القصيدة.. والقطرات تنزل من أعلى الإلهام إلى أعماق الذات الإنسانية لتعتمل إرهاصاتها فتولد قصيدة الشعر وقصيدة النثر وهي في خارج أسوار التنميط القسري.. لا يجب ان نتبع نمط السياب ونزار والبياتي لكي نكون شعراء، ولا يجب أن نتبع أنماط دانتي وشكسبير وكولن ولسون وسارتر وسيمون دي بفوار لكي نكون روائيين.. ولا يعني ذلك إهمال الأنماط وإلغائها، إنما التفتيش عن أنماط لا تهدم الابتكار، بل تعزز ما هو كائن، تحديثاً لما ينبغي أن يكون عليه النص.
قصيدة النثر تحمل شكلا ومضمونا تطوريا لا يلغي ولا يهدم اسس الشعر بل يكسر النمطية والقوالب الجاهزة ويبقي على الاصول.. قد يحمل النص النثري أكثر من لحن موسيقي، وهنا قد يسقط الشاعر في تناقض الإيقاع في شكل نشاز.. وهذا يفترض الإنسجام في اللحن وفي الايقاع.. وقد يتحمل النص النثري أكثر من تفعيلة يتوجب أن تكون منسجمة ومتقاربة في اللحن والإيقاع لا أن تكون متعارضة ومتقاطعة.. النص العمودي بدأ يذوب كثلج الجبال يسيح ليتحول إلى نصوص الشعر النثري في سهول القوافي، وهي قد تحمل الدفؤ، بعيداً عن أنماط الأسوار والرياح العاتية.
***
د. جودت العاني
16/12/2024