قضايا
ثامر عباس: (البرودويلية) ومنهجية البحث في تاريخ العراق
ما نقصده بـ(البرودويلية) هي صيغة مصطلحية مشتقة من اسم المؤرخ الفرنسي الكبير (فرنان برودويل) الذي أضحى علما"بارزا"من أعلام التاريخ وفلسفته، لجهة الدور الذي لعبه في تغيير النظرة التقليدية الى طبيعة التاريخ وأنماط تمرحله . كما أنه أحدث ثورة في مجال المنهجيات التي كان المؤرخين يعتمدونها في تفسير عمليات تكوين (الحدث) أو تشكيل (الواقعة) التاريخيين، هذا بالإضافة الى بيان حدود التداخل ومستويات التمفصل ما بين علم التاريخ من جهة، وبين بقية العلوم الاجتماعية والإنسانية الأخرى التي تشاطره الاهتمام بأنشطة الكائن الإنساني وما ينجم عنها من مظاهر مختلفة وظواهر متنوعة من جهة أخرى .
وإذا ما حمل عنوان هذه المقالة اسم (برودويل)، فهذا لا يعني أنها معنية بالحديث عن مضامين فكر هذا المؤرخ عموما" واستعراض الانزياحات التي أحدثها في مجال تفسيره للسيرورة التاريخية وتأويل أنماط تطورها، بقدر ما اقتصرت على محاولة توظيف جانب من جوانب (المنهجية) التي اجترحها هذا المؤرخ كمقاربة للبحث في تاريخ المجتمع العراقي، الذي عجز الكثير من المؤرخين في الوصول الى تفسير مقنع يحلل ويعلل أسباب تقلباته وتناقضاته . نعم هناك ثلة من المهتمين بالشؤون التاريخية والحضارية والتراثية من حاول أن ينتهج هذا المنهج ويسلك هذا الطريق، إلا أنهم لم يوفقوا بالحصول على ذات النتائج التي أحرزها المؤرخ (برودويل) بالنسبة لمقاربة تأريخ بلده (فرنسا) عبر تطبيق منهجيته المبتكرة والمثمرة . ولعله من الإنصاف القول ؛ ان محاولات الباحث العراقي (سليم مطر) الرامية الى تحقيب التاريخ الجغرافي والحضاري والديني والاجتماعي للمجتمع العراقي تصب نسبيا"في هذا الاتجاه .
وللذين يجهلون أو لم يطلعوا على خاصية المنهجية (البرودويلية) في حقل الدراسات التاريخية، يمكننا القول أن ما يميّزها عن المنهجيات التقليدية السابقة عليها، هي أنها لم تقتفي أثر هذه الأخيرة وتحذو حذوها في تحقيب سيرورة التاريخ وتمرحل أحقابه الى (قديمة وحديثة ومعاصرة) مثلما يجري لحدّ الآن في معظم جامعاتنا العراقية البائسة، كما أنها لم تكتفي بانتهاج سبيل المفاضلة بين العوامل المحددة لصنع الحدث وصيرورة الواقعة (الجغرافي أو السياسي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الديني أو الحضاري) كما تميل بعض الدراسات ذات الصبغة الإيديولوجية . وإنما هي منهجية عمد مبدعها (برودويل) الى تقسيم السيرورة التاريخية الى ثلاث آماد تاريخية مختلفة زمنيا"ومتباينة من حيث طبيعة المضامين التي تشتمل عليها . فالأمد التاريخي (الطويل) الذي قد يمتد لآلاف السنين تتمحور اهتماماته حول المعطيات الطبيعية (الجغرافية والايكولوجية) ذات النمط البطيء جدا"في الحراك والتطور . وأما الأمد التاريخي الثاني (المتوسط) فقد جعله يتمحور بالمعطيات الإنسانية (الاجتماعية والاقتصادية)، تلك التي تتعلق بتطور التشكيلات الاجتماعية وما تنطوي عليه من علاقات وذهنيات وسياقات . هذا في حين يرتبط الأمد التاريخي (القصير) بالأنشطة السياسية والفاعليات السلطوية وما يتمخض عنها من تفاعلات وصراعات وتحولات، غالبا"ما تكون معبرة عن المصالح والمآرب ذات الطابع الآني والسريع نسبيا".
ولعل هناك من يعترض على لجوئنا لمثل هذه المقاربة المنهجية (الغربية)، والتي قد يعتبرها بعيدة عن واقعنا وغريبة عن ثقافاتنا، بحيث ان اعتمادها في تحليل سيرورة التاريخ العراقي مسألة تنطوي على الكثير من المفارقات والمغالطات . والحقيقة أنه لو أنعمنا النظر في الخصائص الفريدة للشخصية العراقية المعاصرة وما تحمله بين جنباتها من تصورات عجيبة وسلوكيات غريبة، سيكون من الصعوبة بمكان البحث عن النوابض التي تحرك انفعالاتها وتوجّه سيكولوجيتها ضمن المتيسر والمعيش من الأسباب والدوافع، والتي يبدو أنها تتأثر بدينامياتها وتنقاد لسيروراتها وتنصاع لمآلاتها . فلو تسنى لنا قراءة التاريخ العراقي قراءة موضوعية مجردة من العواطف – رغم صعوبة هذا الافتراض – سنلاحظ ان الكثير من تلك السمات والصفات التي تتوفر عليها تلك الشخصية، تعود بأصولها الى عوامل فيزيقية وميتافيزيقية عديدة ومتنوعة لا يمكن لأي بحث أو دراسة ادعاء الواقعية والعلمية، دون استحضارها وتحيينها للشروع منها والبناء عليها والاحتكام إليها .
وهكذا، فان الضرورة العلمية والمعرفية تقتضي - للوقوف على حقيقة ما تضمنته سيرورات التاريخ العراقي من تقلبات وانقطاعات وارتدادات وصراعات من جهة، وإماطة اللثام عما تركته هذه الأخيرة في كينونة الشخصية العراقية من عصبيات وكراهيات واحتقانات وتوترات من جهة أخرى - أولا"؛ مراعاة العوامل التي تنتظم ضمن مكونات الأمد التاريخي (الطويل) من مثل (الجغرافيا والايكولوجيا) وما تنطوي عليه من تباينات مناخية واختلافات طوبوغرافية، والتي وان كان تأثيرها على الطبيعة الإنسانية بطيء وغير مباشر، إلاّ أنه عميق الأثر ودائم التأثير في كل ما جبلت عليه هذه الطبيعة من خصائص وسمات . وثانيا"؛ الأخذ بنظر الاعتبار ان الأطر الاجتماعية والأنساق الثقافية والسياقات الحضارية التي يعيش في كنفها الإنسان العراقي في الوقت الحاضر، ليست فقط وليدة المعيش الآني الذي يكتوي بناره ويتلظى بجحيمه، مثلما ليست حصيلة الظروف الصعبة القائمة والأوضاع المزرية السائدة فحسب، وإنما هي أيضا"نتاج تشكيلات اجتماعية اقتصادية ذات أمد (متوسط) تمتد أصولها لمئات السنين، لا تزال علاقاتها (الإقطاعية) وقيمها (البطريركية) تحدد أنماط الوعي وتؤطر أشكال السلوك . وحين ذاك ثالثا"؛ يتوجب توجيه دفة البحث صوب معطيات ومقتضيات الأمد التاريخي (القصير) الذي يشغل بضع سنين أو بضعة عقود، حيث الممارسات السياسية والتوجهات الإيديولوجية تحتل صدارة المشهد الاجتماعي اليومي وما ينطوي عليه من تصورات وتفاعلات وعلاقات، تعكس الحالة العامة لحراك المكونات الاجتماعية وهي تسعى لتأمين مصالحها وضمان حقوقها في المجالات الاقتصادية والثقافية والدينية والسياسية .
وفي ضوء ما تقدم، يمكننا الجزم ان أية محاولة تسعى لدراسة المجتمع العراقي واستكناه الطبيعة المعقدة والملتبسة لشخصيته الاجتماعية، ومن ثم استخلاص الفروض والاستنتاجات بشأن الكيفيات والمقاربات التي تمكّنه من طرح الحلول واقتراح المعالجات، لاسيما في إطار المشاكل التي يفرزها الواقع والإشكاليات التي يعيشها المجتمع، دون أن تضع باعتبارها تلك الآماد التاريخية (الطويلة / الثابتة) و(المتوسطة / البطيئة) و(القصيرة / السريعة)، سيكون مصيرها الفشل لا محالة . ذلك لأن ملابسات الطبيعة المزاجية لسايكولوجية المجتمع العراقي تمتح من نسغ تاريخ مديد تضرب جذوره في عمق الماضي السحيق بكل مواريثه، حيث تمتزج معطيات الجغرافيا والايكولوجيا مع مكونات السوسيولوجيا والانثروبولوجيا، مثلما تتفاعل وتتمفصل مع مرجعيات الاقتصاد والدين والثقافة والسياسة والحضارة، مكونة بذلك ماهية بشرية / انسانية ذات خصائص فريدة ليس فقط في مضمار الأصالة التاريخية والعراقة الحضارية فحسب، وإنما في مضامير الوعي والذاكرة والمخيال والهوية أيضا"! .
***
ثامر عباس – باحث عراقي