قضايا

أسعد الامارة: ومن التفكير.. ما قَتَلْ!؟

دوامة التفكير، مدورةٌ غير منتهيه.

التفكير أساس مشكلات الإنسان المعاصر، لا بل منذ أقدم العصور، هو الذي يقوده إلى أسوأ المواقف في الحياة، يجعل منه لا يفكر بما يدور في داخله لارتباطه بالانفعالات فضلا عن ما يدركه في بيئته الخارجية ومن حوله، ليس بقصر التفكير فحسب، بل فيما يريد فعله ويعبر عنه بلغة توصل هذا الفكر عبر اللسان، هي  طريقة التفكير، والأصح أسلوب التفكير Thinking Style ، وليس اللغة، اللغة الحامل – الناقل لإسلوب التفكير، واللسان منفذ هذا الأسلوب. ولو أردنا إختيار تعريف يتناسب مع ما نريد قوله لأخترنا هذا التعريف المنقول " نشاط ديناميكي هادف"، وهو أيضًا تكوين فرضي يعتمد على مجموعة من المتغيرات الوسيطة ويظهر في صور من السلوك المختلف الذي يمكن التعرف عليه.

ويحق لنا أن نقول بأن التفكير يسبب الاضطراب النفسي والعقلي إذا أشتد عند صاحبه، التفكير يقودنا إلى حيث مواطن الضعف فينا، ويضرب المناطق الواهنة بالنفس، التفكير كما تراه أدبيات علم النفس والتحليل النفسي هو نظام معرفي يقوم على اسستخدام الرموز التي تعكس العمليات العقلية الداخلية إما بالتعبير المباشر عنها، أو بالتعبير الرمزي، ومادة التفكير الأساسية هي المعاني والمفاهيم والمدركات كما أوردته موسوعة علم النفس والتحليل النفسي، وربما ما نراه  بالمعنى الأدق أن التفكير يعتمد على الإدراك والتذكر في طرفي المثلث الذي في قمته الإدراك وفي طرفه الأيمن التفكير، وفي طرفه الأيسر التذكر، فالإدراك هو الذي يخزن في اللاشعور – اللاوعي، والتذكر هو الذي يعيد الأفكار بشقيها المسرة وغير المسرة، إذن هو مفتاح اللاشعور – اللاوعي، وكما عبر عنه  فرويد في مقالة التذكر والتكرار والعمل من خلال قوله: ان الشخص الذي يتم تحليله سوف يستسلم للرغبة القهرية في التكرار، والتي تحل الآن محل الدافع للتذكر، وهي علاقة في جميع الأنشطة والعلاقات المتزامنة الأخرى في حياته، ويبدو ذلك جليًا في جلسة التحليل النفسي العلاجية، عندما يختار شيئًا محببًا، أو قام بمهمة من السهل أيضًا رؤية مقدار المقاومة، وكلما زادت المقاومة، كلما تم استبدال التذكر على نطاق أوسع بالتمثيل " التكرار". ويؤكد فرويد بإن الإنسان عندما يستخدم من ترسانة الماضي المدججة بالأسحلة التي يدافع بها عن نفسه من مواصلة العلاج التي يجب أن ننتزعها منه شيئًا فشيئًا، هي بحد ذاتها مقاومة لا يمكن وصفها بالواقع، ولنا أن نقول ما هي قوة الإنفعالات المصاحبة لما أراد فرويد فعله في الجلسة النفسية التحليلية ونستعير هذا النص من مقالة كتبتها في العام 2007 ومنشورة في الحوار المتمدن: الحوار المتمدن - العدد: 1954 - 2007 / 6 / 22 لكاتب المقال     (اسعد الامارة) وورد فيها: أما الانفعال أو الانفعالات فتعرفه ادبيات علم النفس بانها حالات داخلية لا يمكن ملاحظتها أو قياسها مباشرة، وفي اثناء تفاعل الافراد مع الخبرات التي يتعرضون لها تنشأ الانفعالات فجأة، وهي بنفس الوقت تتصف بعدم القدرة على التحكم فيها، لايمكن بسهولة اصدارها أو كفها. لذا نستطيع أن نستنتج أن الانفعالات هي حالات داخلية تتصف بجوانب معرفية خاصة، واحساسات، وردود أفعال سيكولوجية وسلوك تعبيري معين، وهي تنزع للظهور فجأة ويصعب التحكم فيها. ويضم التفكير الانفعالي ثلاث حالات هي: القلق، الغضب والعدوانية، والابتهاج. وكما أكده لنا " سيجموند فرويد " في مقالته من قوة المقاومة. وأزاء ذلك فالكلمة التي تصدر بلغة رمزية مقطعة ومدغمة كما هو حال الفصامي ولغته التي لها دلالة ومعنى حتى وإن غابت عن التفسير في الوقت الحاضر.

التفكير هو نمط Patrn كانماط الشخصية، يختلف عنه ولكنه يشبهه، فانماط الشخصية معروفة لدى معظم العاملين في المجال النفسي وبالأخص في دراسات الشخصية. فالتفكير في حياتنا يضم  الجانب السلبي في حياتنا المعاشة وإن كان التفكير هو الدافع للنجاح في حياتنا اليومية، إلا أنه  بشقيه السلبي، أو الإيجابي هو مؤشر للقلق – الحصر، ويحمل بين طياته القلق، وربما يؤدي إلى الاضطراب، ويمكن أنه يؤدي إلى الإضطراب النفسي والعقلي إذا أشتد عند البعض منا حتى وإن نجح صاحبه في تحقيق ما يريد تحقيقة، أو فشل في تحقيق ذلك، كلاهما يترك الأثر في النفس، فالتفكير بشقيه السلبي أو الإيجابي يخلق العصاب ومنها  الوساوس القهري، ففي الوساوس تضيع عنده الحدود، وربما لا يفهم النية الحقيقية لدافعه القهري المغلف بالقلق – الحصر -  النفسي.

التفكير المسبب الرئيس للصراع النفسي، والصراع النفسي بأبسط صورة هو وجود أكثر من دافع متناقض مع الدافع الآخر، ويحمل أحدهما رغبة أو مطلب لا أخلاقي، أو بين شعورين متناقضين، ويرى التحليل النفسي وجود الصراع في النفس البشرية هو الأساس في تكوين الإنسان ووجوده، ومن أمثلة الصراع، الصراع بين الرغبة والدفاع، الصراع بين الرغبات والحوافز المحركة في دواخلنا، وهو صراع بالتأكيد مُحركهُ الأساس هو التفكير. ويقودنا هذا إلى "هيجل " الفيلسوف العظيم الذي يرى بوجود الأطروحة " الفكرة " ونقيضها " الاطروحة المضادة " الفكرة المضادة " وما يحدث بعد ذلك هو جماع بين الفكرتين بتسوية متناغمة، ولنا أن نقول لا يحدث الجماع بين الفكرتين، حتى وإن حدث فهو لا ينتج بالضرورة فكرة ثالثة متناغمة توافقية، بل فكرة جديدة هي نتاج ذلك الصراع في التفكير، لم يتوقف التفكير عن إنتاج أفكار، ولن يهدأ أو يستكين، بل يظل في صراع مستمر وينتج الجديد، ربما سبق المحلل النفسي الفرنسي " جاك لاكان  " الجميع بأفكاره وهي عدم قدرة الجماع بين الأطروحة والأطروحة المضادة، بمعنى أدق بين الفكرتين النقيضتين، لا يوجد جماع بينهما، يستمر الصراع بولادة فكرة جديدة  وهكذا.

 كنا نفكر بفكرة التقدم والاستمرار المستقيم في مواجهة تفكيرنا الفردي والجمعي في كل المجتمعات، ثم تعقدت الحياة وازدادت صعوبتها وأصبحت فكرة التفكير بشكل الحركة الدائرية غير المنتهية، تدور حول نفسها ، ومع تعقد النفس من داخلها أصبح التفكير اللولبي الذي يبدأ ولا ينتهي في كل الأحوال وهنا يصدق "جاك لاكان"  بأن جماع الأطروحتين  لا يحدث أبدًا بتسوية بينهما، ويقودنا هذا الحوار الفلسفي – النفسي إلى كون التفكير عملية مضطردة ومتجددة ودينامية لا تنتهي بقبول الفكرة فقط، وهذا ما نجده بشكل واضح في المذاهب بأنواعها في كل الاديان والفلسفات والفنون حتى تصبح فكرة الدين والمعتقد بعدة مذاهب فرعية يتمسك بها مجموعة قليلة، أو شريحة واسعة، ويكون داخل المذهب الواحد عدة انشطارات واتجاهات متنوعة، كانت مختلفة، أو متوافقة، هذا هو التفكير بشكله المختصر وهو الذي يقود الصراع داخل النفس لإنجاب وليد جديد من المذهب، أو الفكر ونتفق مع القول يولد الجديد من رحم القديم ويتخلق من خلاله.

يرى الدكتور فرج أحمد فرج بأن الصراع ليس تقاتل وأقتتال، بل  هو دافع نحو الإنجاز في كثير من الأحيان، وربما يحقق لصاحبه الكثير من النجاحات، والنجاحات لا تتوقف، والرغبة لا تتوقف في الاستمرار بتحقيق ما يطمح له  الإنسان ، ولكن على حساب التفكير وإجهاده، على حساب حالته النفسية وصحتها وقول فرويد أن الناس لا يمكن أن يصبحوا حكماء في الواقع إلا من خلال الضرر وخبرتهم الخاصة " مقالة التذكر، التكرار، العمل من خلال، ترجمة الصديق محمد أمين من اللغة الألمانية "، ونقول كاد تفكيرنا أن يقتلنا ونحن  بحالة الوعي  الكامل، فكيف هو في حالة اللاوعي – اللاشعور مكمن الأسرار وطريقته المختلفة التي لديها لغة أعمق من اللغة التي نتحدث بها مع المحيطين بنا.

نحاول جاهدين أن نستعرض لموضوع التفكير عبر التخييل، فالتخييل كما تقول الاستاذ الدكتورة " نيفين مصطفى زيور"  إنما هو نوع من تحقيق رغبات خفية ومقموعة وهو يحمي الأنا من الحصر الذي يتمخض عن ذلك التوتر الناتج عدم تفريغ الغرائز، وتضيف " نيفين زيور " التخييل إنما هو نتاج صراع، ويمثل تسوية بين هذين النوعين الشعوري – الواعي الواضح واللاشعوري – اللاواعي، وتقول  أيضًا التخييل بوصفه نوعًا من التفكير، وهو أيضًا نمط من التفكير البدائي " نيفين مصطفى زيور، 2013، ص14 -15" كتاب التخييل دراسة في التحليل النفسي.

أما الفيلسوف الفرنسي " جان بول سارتر" فيعرض بوجود تأكيدات التخيل، وإن عناصر الوعي المتخيل الفكرية هي عناصر الوعي نفسها التي نمنحها عادة أسم الأفكار ويضيف "سارتر " قوله: على مدى السنوات العديدة الماضية، كُتب الكثير عن التفكير الرمزي ولا شك تحت تأثير التحليل النفسي، ويقول أيضًا ينظر معظم علماء النفس إلى التفكير على أنه نشاط انتقائي تنظيمي من شأنه أن يصطاد صورة في اللاشعور – اللاوعي لترتيبها ودمجها وفقًا للظروف "، وعليه فإن التفكير يحمل في طياته رذاذ من اللاشعور – اللاوعي، ومن ثم تخرج هذه الأفكار لتؤثر في حياتنا اليومية في حالة السواء، أو حالة المرض، والأمر سيان بينهما ولكن خير عقار، أو وسيلة تستخدم في مواجهة التفكير بشقيه الايجابي والسلبي هو تعرفه على نفسه بنفسه من خلال هذا النمط من التفكير، وهنا هو أسلوب بالإمكان مواحهته كما هو في عملية الطرح الموجب – التحويل الموجب، وهي مواجهة مع النفس أيضًا، مواجهة لتفكيك بنية الفكرة، أو الخاطرة، التي من المحتمل أن تصبح عصاب أو ذهان إذا ما أشتدت، وإذا أستطاع الفرد ربما يمسك بداية الضوء من الفكرة المسببة لصراعه العصابي التي أنبثقت من التفكير في لحظة حزن، أو لحظة فرح، ولا يغيب عن أذهاننا أن المسافة بين السواء واللاسواء خط واهن يقطعه التفكير بلحظة غير متوقعة، في مرض شديد يقود صاحبه لفقدان المناعة بأكملها ومنها المناعة النفسية، كما يحدث في بعض علاجات الدواء الكيميائي في حالات مختلفة، وفي النهاية نقول دوامة التفكير، لولبية غير منتهية، تبدأ بمدورةٍ، وتنتهي بحركة لولبية غير منتهية. أتمنى أن لا أكون أنهكت القارئ الكريم بالتفكير وهو مدخل للتفكير ليس إلا. 

***

ا. د. أسعد الامارة

في المثقف اليوم