قضايا
عدي عدنان البلداوي: الكتاب كائن حي..
في الجاهلية وقبل مجيء الإسلام. كانت البضائع الصينية متوفرة في أسواق مكة، وكان أبو سفيان يرعى الأدب والأدباء ويكرم الشعراء ويحضر وغيره من سادات مكة مهرجانات الشعر. كانت الصناعة رائجة، وقوافل التجار تحمل من بلاد الأرض مختلف السلع. وكان عدد الآلهة يزداد كلما إزدادت مواردهم، حتى صار حول الكعبة اكثر من ثلاثمائة صنم. كانت الطبقية هي السائدة، والمال هو الحاكم، والعصبية هي دين القوم. لقد إعتاد الناس آنذاك على قبول الواقع الإجتماعي والإقتصادي حيث السادة والعبيد، الأغنياء والفقراء. ومن يدخل مكة لا يكاد يكتشف ان هناك ظلماً وظلاماً، وما كان لغير الراسخين في العلم ان يتنبؤوا بأن الأرض تنتظر منقذاً بات ظهوره ضرورة حتمية اقتضتها إرادة الخالق، فكان محمد بن عبد الله رسول الدعوة الى الإنسانية عن طريق التوحيد.
كانت الأعراف الإجتماعية تملي على الأبناء طاعة آبائهم، فما كان “ للصادق الأمين “ أن يجمع الناس حوله في ذلك الوقت لولا فسحة الوعي التي كان عليها بعضهم. أما أغلبية أبناء المجتمع فكانوا مستسلمين لإرادة العرف الإجتماعي السائد، إذ هم تبع آبائهم وأسيادهم الذين وجدوا في عبادة رب واحد ما يتقاطع مع توسع التجارة وإزدهار الصناعة ودوام النفوذ والسيادة. لذلك عرض سادة مكة، المال والجاه على النبي الجديد من أجل ان يترك لهم حياتهم تسير على ما هي عليه.
كانت الكلمة هي المادة الخام التي استخدمها النبي الخاتم في مشروعه الرسالي المتضمن صناعة وعي ذاتي في الفرد والمجتمع يحمله على تغيير واقعه الى ما ينبغي أن يكون عليه كوجود إنساني لا كتواجد بشري، ففي عبارة (أفلا ينظرون) التي جاءت في سياق آيات قرآنية، دعوة إلهية للناس لكي يستخدموا التفكير الموضوعي في تعاطيهم مع الطرح الجديد في ضوء الواقع الذي كانوا يظنونه آمناً بوجود تلك الأصنام في الكعبة وفي بيوتهم. الوعي هو الذي حث الذات الإنسانية في (سميّة) و(ياسر) بعدما أظهرا قلقهما وخوفهما حال سقوط الصنم الى الأرض في حركة غير مقصودة من ولدهما عمار وهو يحاول ان يطمئنهما على حاله بعد علمهما بأنه يلتقي بالنبي الجديد. سرعان ما تحول ذلك القلق والخوف الى باعث للتامل ودعوة الى إسترجاع الأحداث حين اخبرهما (عمار) ان هذا الصنم لا يضر ولا ينفع، والكلمات التي جاء بها النبي محمد فيها من الطاقة الروحية ما يشجع على قبول الفكرة. هكذا تهيأت للذاكرة أجواء العودة بـ (سميّة) الى الوراء لتقف عند مشهد وأد أبيها لأختها، وما خلفه ذلك الفعل اللاإنساني من الم مزمن في نفسها لم يغادرها برغم السنين، ولم تتمكن وهي بقرب الألهة من ان تشعر بالأمان، فأستمدت من إستقرار نفس ولدها (عمار) وهو يذكر كلمات الله، طاقة حركتها وزوجها لإستنهاض وعيهما الذاتي.
وعندما اصبح (عمار) في مواجهة مع سادة مكة، دعوه الى التعقل والى استخدام المنطق الذي يظنونه في جانب تخلي عمار عن اتّباعه الدين الجديد، واتسعت دائرة الوعي الإنساني حين أمر (أمية بن خلف) عبده (بلال) بجلد (عمار) بالسوط، فكان إمتناع (بلال) عن تنفيذ الأمر إيذاناً ببدء مرحلة التعذيب الجسدي البشع، تلك المرحلة التي كان اهون خطواتها هي هلاك جسم ذلك العبد، لكن رحمة الله شاءت ان ينجو بعرض قدمه (ابو بكر) الى (أمية)، فكانت حياة بلال مقابل 100 دينار.
مات (ياسر) وماتت زوجته (سمية) ميتة بشعة أُرغم (عمار) على حضورها في مشهد تعذيب علني أدّاه سادة مكة. ترك ذلك المشهد أثره العميق في نفس (عمار). فمثلما كانت قوة العضلة غالبة في ذلك الوقت الذي لم تصل فيه قوة الكلمة الى ما يكفيها من قدرة على المواجهة، كانت معادلة التوازن تدّخر شخص (حمزة) ليوظف قوته البدنية المشهود له بها، في الدفاع عن كلمة العدل والحق، ودعم حرية الكلام والتعبير.
(كيف نقاتل رجلاً لا ندرك سر قوته) هذا ما قاله أبو سفيان حين قاس بعين رؤيته المادية إمكانات محمد التي تفتقر الى المال والسلاح والرجال الأشداء، فالذين يتبعون الدين الجديد هم من العبيد والفقراء، ومع كل صنوف التعذيب والتنكيل والقتل والقمع كانوا يصمدون ويزدادون. لا يفرطون بالكلمة التي خاطبهم بها نبيهم بوحي الله، حتى عندما حمل روع المشهد الأليم (عمار) الى ذكر (هبل) بخير، كانت كلمة النبي الخاتم أكبر من مجرد تهدأة للنفس وتطييب للخاطر ومواساة على الفاجعة. لقد كانت تكريماً ووعداً إلهياً بأعلى مرتبة في الجنة.
“ محمد إنسان، ونحن لا نركع إلا لله “. هكذا وجد جعفر بن أبي طالب طريقه الجديد في الحياة، فوظف رؤيته الجديدة في حضرة ملك الحبشة حين أمر بالسلاسل لتقييده ومن جاء معه من مكة. فأنبرى مخاطباً الملك بثنائية الدين والعدالة، حين قال له ان نبينا ارسلنا اليك لأنك ملك عادل، ولأنك من أهل الكتاب.
وجد الملك في قول جعفر ما يحمله على الإصغاء اليه، فوجد كلامه مقنعاً ملزماً له، فمنحهم حق اللجوء والإقامة في المدينة. هكذا مثلت الكلمة شرارة الثورة العظيمة التي زلزلت المجتمع في ذلك الوقت. وكأي تغيير لم تخل أحداث تلك المرحلة من وقوع ضحايا وخسائر بالأرواح والممتلكات. فكان الصبر رافد النبي في دعوته التي كلفته وفاة زوجته وعمه في عام الأحزان، وكلف أتباعه إغترابهم عن عوائلهم وفقدانهم أموالهم وأعمالهم. لكن تنمية الذات والعمل من أجل لحظة وعي ذاتي في كل شخص كان مشروعاً إستحق كل ذلك العطاء وكل تلك القرابين التي أفصح عنها قوله صلى الله عليه واله (ما أوذي نبي مثلما اوذيت). وبينما كانت الحروب الأهلية متوقعة في تلك الظروف وكان متوقعاً توسعها كلما اتسعت دائرة الدعوة الى الدين الجديد، كان الإسلام يرى نواة دولة انسانية جديدة في طريق انشطارها محدثة بركاناً وجدانياً، إيمانياً، إنسانياً، أدهش سادة مكة لما اقتحم رجالهم بيت النبي ليلاً، فإذا بـ (علي بن ابي طالب) ينام مكان رسول الإنسانية ليفتديه بنفسه حين دبر العقل التسلطي القرشي مكيدة قتل النبي بيد جماعية يضيع معها دمه بين القبائل. كان الصدق رفيق خطوات الدعوة الإيمانية الجديدة في تدابيرها وهو يكفي علياً خطر الموت المحتمل على أيدي القوم وهم يتعجلون الإنتقام، لقد كان الله معه يسمع ويرى، هذا هو سرّ قوة الدين الجديد التي حيرت أبا سفيان ومن معه.
كانت الدفوف التي استقبل بها المسلمون نبيهم في المدينة إيذاناً بدخول المجتمع لأول مرّة مرحلة التصويت الحر لحكومة جديدة دستورها الكتاب المبين، يتحركون بهديه الى ما يرتقي بهم ويحفظ لهم كرامتهم وامنهم وحريتهم وحقهم في العيش في مجتمع عادل، هو اليوم وبعد أكثر من الف عام ينادي بكتاب الله دستوراً. لكن الكتاب لم يعد كائناً حياً حين اكتفت أنظمة الحكم المعاصرة بوجوده للتبرك والعمل به في حدود لا تشمل كل مفاصل حياة الناس اليومية، الأمر الذي دفع بالناس في ظل ظروف الدولة الجديدة الى هجر القرآن، ثم العزوف عن القراءة، ثم دخل فارق التطور الكبير بين المجتمع العربي والمجتمع الغربي أو الأوربي على خط جذب الناس الى الكلمة العلمية، المادية البحتة الخالية أحياناً من الروح التي حركت مجتمع الأمس قبل أكثر من الف عام. شيئاً فشيئاً تحولت آلهة الأمس الحجرية الى آلهة بشرية في زمن الرياء والنفاق والمصالح المادية والصراعات والنزاعات التي كادت تفتك بالبلاد وترجع بها الى زمن السبي والظلم والظلام، ليس باسم اللات وهبل، ولكن باسم الله هذه المرة. انه الإستغراق في المادة بعيداً عن الروح، الأمر الذي من شأنه أن يقود المجتمع المعاصر الى جاهلية وثنية بشرية بتقينة رقمية وبأدوات معاصرة غير التي كان يستخدمها مجتمع الأمس. ان تفعيل المشروع المحمدي الإنساني يقتضي منا اليوم ان نتفاعل مع الكتاب ككائن حي، لا مجرد كلمات في صفحات كتاب على رفوف مكتبة لا نقصدها إلا في أوقات معدودة ولحاجات محدودة بسبب عزوف كثير من الناس عن القراءة، حتى ممن يتخرجون من الجامعات. الذين إذا قرأوا فإنهم لا يقرأون إلا كتباً في مجالات تخصصاتهم التطبيقية فقط. أما عوام الناس فقد استسلموا لروتين الحياة وتعقيداتها وانغمسوا في طلب العيش فأقصروا وجودهم على تأمين احتياجاتهم من مأكل وملبس ومسكن وتكاثر.
***
د. عدي عدنان البلداوي