قضايا
محمد الربيعي: الشهادات المزورة في العراق.. خطر يهدد هيبة الدولة ومستقبلها
في عالم يتسارع فيه السباق نحو التميز الأكاديمي والمهني، يعد الاعتراف بالشهادات المزورة ضربة قاصمة للنظام التعليمي وهيبة الدولة. ان الشهادة الجامعية ليست مجرد وثيقة تعلق على الجدران، بل هي اعتراف بالجدارة العلمية والمهنية لحاملها، وعندما تمنح هذه الشهادة دون استحقاق، فإنها تفقد قيمتها ومصداقيتها تماما، وتساهم في تفشي ثقافة الغش والخداع في المجتمع ويصبح من السهل التلاعب بالنظام التعليمي، وبالتالي الى تدهور جودة التعليم ومستوى التحصيل العلمي. وهذا ما يحصل بالفعل في العراق فقد اصبحت الشهادات المزورة بمثابة افة خبيثة تنخر في جسد المجتمع الاكاديمي وقيادات الدولة، وتهدد مستقبل الأجيال القادمة.
بالرغم من ان تزوير الشهادات والوثائق التعليمية تعود الى نشأة التعليم في العراق الا انها برزت بشكل مكثف وواضح بعد 2003. ومن الأمور المثيرة للدهشة أن البرلمان العراقي سعى إلى إخفاء هذا الواقع، محاولا إدراج الأشخاص الذين قاموا بتزوير شهاداتهم الجامعية ضمن قانون العفو العام. وفي خطوة اذهلت الانظار واثارت الاستياء، أقر البرلمان في عام 2020 قانونا يخص معادلة الشهادات، مما يسمح بتمرير عمليات التزوير هذه دون عقاب. وفي الآونة الأخيرة، تم الكشف عن حصول مسؤولين وسياسيين على شهادات مزورة من بين 27 ألف شهادة عليا مزورة (ماجستير ودكتوراه) حصل عليها طلاب عراقيون من ثلاث جامعات لبنانية. وقد أثارت هذه الفضيحة استياءً واسعا في الشارعين العراقي واللبناني، وادت إلى تعليق دراسة الطلبة العراقيين في هذه الجامعات.
تأثير الشهادات المزورة على هيبة الدولة
تمثل الشهادات المزورة ظاهرة خطيرة تهدد هيبة الدولة وتقوض ثقة المواطنين بمؤسساتها. فعندما تغض الدولة الطرف عن هذه الممارسات، تظهر ضعفا فاضحا في نظامها القانوني والتعليمي وفسادا واسعا في جهازها الاداري، مما يشكل خطرا على استقرارها وأمنها على المدى الطويل. ويفقد الدولة شرعيتها ويضعف قدرتها على تطبيق القانون فيصبح الفساد والرشوة سائدين، وتنتشر ثقافة الإفلات من العقاب، وهو ما يؤثر سلبا على التماسك الاجتماعي ويعيق تحقيق التنمية. ويشكل ذلك عبئا كبيرا على سمعة الدولة على الصعيد الدولي، ويصبح التعاون العلمي والتبادل المعرفي مهددين، مما يزيد من خطر الانغلاق الذاتي وانعزال الجامعات والاكاديمين عن العالم. وبالتالي، تصبح الشهادات المزورة بمثابة قنبلة موقوتة تهدد استقرار الدولة وتعيق مسيرة تقدمها. من هنا تأتي ضرورة التصدي لهذه الظاهرة بكل حزم، من خلال تشديد العقوبات على مزوري الشهادات، وتعزيز سيادة القانون، وتفعيل دور المؤسسات التعليمية في نشر ثقافة النزاهة والأمانة.
تأثير الشهادات المزورة على التعليم العالي
يمثل التعليم العالي ركيزة أساسية للتقدم والابتكار في أي مجتمع، فمن خلاله تبنى الكفاءات وتصقل المهارات، مما يساهم في ازدهار الاقتصاد وتحقيق التنمية المستدامة. الا أن الاعتراف بالشهادات المزورة يشكل خرقا فادحا لهذه القاعدة، ويشجع الفساد ويعيق مسيرة التقدم بشكل مباشر.
ويؤدي الاعتراف بشرعية هذه الشهادات إلى تقويض جودة التعليم العالي بشكل مقلق. فبدلا من أن تصبح المؤسسات التعليمية بمثابة منارات للعلم والمعرفة، تصبح بيئة خصبة للغش والخداع ومأوى للفاشلين والفاسدين. ويصبح الطلبة الذين بذلوا الجهد والمثابرة لتحقيق تفوقهم الأكاديمي ضحايا لهذه الظاهرة، حيث يشعرون بالإحباط وفقدان الثقة بالنظام التعليمي عندما يرون أن الغش يكافأ، بينما لا يحظى العمل الجاد بالتقدير الذي يستحقه. تخلق هذه البيئة السامة مناخا سلبيا يثبط الحافز للتعلم والابتكار. فبدلا من أن يركز الطلبة على اكتساب المعرفة وتطوير مهاراتهم، يصبح همهم الأساسي هو البحث عن طرق للالتفاف على القوانين والحصول على شهادات مزيفة دون اي جهد يذكر. وبالتالي، تصبح الشهادات المزورة بمثابة سم قاتل يهدد مستقبل التعليم العالي ويعيق تقدمه.
الشهادات المزورة تزيد من التخلف والفساد
تشكل الشهادات المزورة آفةً خبيثة تلتهم ثقة المجتمع وتعيق تقدمه. فعندما تصبح هذه الشهادات بمثابة جواز مرور للنجاح، تصبح القيم الأخلاقية والنزاهة عرضة للانهيار. ينعكس ذلك على مختلف جوانب الحياة، بدءا من المجال الأكاديمي حيث تفقد المؤسسات التعليمية مصداقيتها، مرورا بالسوق المهني الذي يصبح مشوشا ومزيفا، وصولا الى النسيج الاجتماعي الذي يصبح متخلخلًا بفعل انتشار ثقافة الغش والخداع.
تشجع الشهادات المزورة على السلوكيات غير الأخلاقية، فتصبح السرقة والاحتيال أسلوبا للحصول على المناصب والوظائف. كما تضعف هذه الشهادات النزاهة الأكاديمية والمهنية، فتصبح المعايير العلمية مزيفة، وهو ما يؤدي بالتأكيد الى تدهور جودة التعليم.
اخيرا، للحفاظ على هيبة الدولة وضمان مستقبل يبشر بالخير للتعليم العالي، يجب على الحكومة ووزارات التربية والتعليم العالي والجامعات والمؤسسات التعليمية اتخاذ موقف صارم ضد الشهادات المزورة. يجب تعزيز الرقابة والعقوبات لردع هذه الممارسات وحماية قيمة الشهادات الحقيقية. يجب أن نرسل رسالة قوية مفادها أن تزوير الشهادات امر غير مقبول ولن يتم التغاضي عنه. وعلى الحكومة طرد كل من يثبت تزييفه لشهادته من منصبه وتقديمه للمحاكمة بتهمة التزوير وخداع المجتمع، وذلك لضمان نزاهة المناصب القيادية وحماية المجتمع من الخداع.
فقط من خلال الحفاظ على النزاهة والجودة في التعليم يمكن للأمم أن تزدهر وتتقدم نحو مستقبل أفضل.
***
ا. د. محمد الربيعي