قضايا
عبد الأمير زاهد كاظم: فلسفة التقدم تهدف الى بناء الإنسان
رغم حصول التحول السياسي والخلاص من عقود الديكتاتورية والشمولية نحو الحياة الدستورية الديمقراطية البرلمانية.. الا اننا لا نزال نشعر أن هذا التحول عبارة عن بنية فوقية يشيد بنيانه على إهمال متعمد وتقصير واضح في التأسيس الصحيح للبنى التحتية واعني بها بناء الإنسان العراقي لان شرط التقدم ان يبنى بناءً قيمياً عقلانياً نقدياً موضوعياً
لقد أحدثت ثورة تموز 1958في المسار الاجتما- سياسي في العراق متغيرات كثيرة على مستوى القيم وأخلاق العمل السياسي والاجتماعي، بل والفاعلية الاقتصادية على مستوى الدولة والفرد، وما أن حلت سنة 1963 حتى تعرض البلد إلى (سلطة عدوانية) تقوم على أيدولوجية سوداء شمولية الطابع عنفية النزعة، انجازها الأساس مصادرة الحقوق والحريات فهي تجربة منحت (حزب البعث) كل السلطات، وولته على كل الموارد والامتيازات يتصرف بها على معيار الولاء السياسي الأضيق فقط وهو على ثلاثة مستويات اسرة الرئيس وعشيرته، أبناء المذهب السني، المنتمين لحزب السلطة
ولم تعالج فترة (1968-1964) هذه التشوهات في المسار الأخلاقي والعقل السياسي العراقي بل مارستها هي ايضاً ولكن بشكل اقل حدة.. فلقد تحولت الطائفية السياسية من مكمن داخلي إلى سياسات معلنة، وأعقبتها الطائفية الثقافية وتحولت سمة الاعتزاز بالقومية إلى ايديولوجية عنصرية عدوانية تنظر للأخر القومي نظرة دونية أتهامية والى أبناء المذهب الشيعي انهم يجب ان يكونوا تابعين مع ولاء للسلطة من دون حقوق، وأصبحت الدولة هي خزينة الموارد والرواتب والرزق بل والوجود والحياة، وحلت الدولة من حيث الولاء محل القيم النهضوية التي كان المفترض أن تكون الأهداف والمرامي والغايات التي تتجه نحوها كل النشاطات المجتمعية بعد التحول من الأنموذج الملكي إلى الجمهوري، ثم جاءت فترة 1968-2003 وكانت عبارة عن ربع قرن مأساوي تميز بالقسوة المفرطة والقتل الجماعي والتعويل على الظنون ثم التدمير الممنهج للقيم المجتمعية الناهضة، فقد تحول الولاء فيه من الولاء للوطن إلى الولاء للحزب ثم للشخص، وأصبح الحزب مصدر الثقافة وصار التوجيه االسياسي وهو منتج نظرية العمل وغاب البرنامج الوطني والتنافس السياسي في مضمار التقدم وتكلمت الصحف والمجلات والتلفاز والمذياع بلغة واحدة، وعمم هذا الأنموذج على مراحل التعليم من رياض الأطفال حتى الجامعة، ثم أصبح الانتماء لحزب السلطة رديفاً للممارسة اليومية اللازمة التي يجب أن يؤديها العراقي طقساً سواء آمن به أو لم يؤمن، وبذلك سقطت الذات الفردية، والتفكير الوجداني، والتأمل المتفرد غير الخاضع للإرادة الجمعية سواء كانت أرادة حقيقية أو إرادة مفروضة .
ان اول انهيار في هرم القيم الإنسانية، أن الإنسان العراقي افتقد في تلك الأوضاع فردانيته، وحقه في التفكير المستقل والتعبير عما يفكر فيه، وثاني انهيار أن التفكير بمصير البلاد غيب عن العقول وحل محله التفكير بالخلاص الفردي من الأسر الفكري، وشاع إسقاط أو إقالة العقل والعقلانية لصالح الخرافة والثقافة الخطابية وثالث انهيار حصل حينما أصبح النقد والنزعة النقدية ممارسة ممنوعة تفضي بصاحبها إلى السجون أو الإعدام، وحل الخوف والرعب بدل سلوك الشجاعة والتفكير بصوت مسموع .
في ظل هذا الوضع تحول الناس جميعا إلى متهمين وخائفين وعليهم تقديم إثباتات يومية أنهم موالون للسلطة الحزبية وعليهم ان يبرهنوا وان عقيدتهم الدينية لا تعارض ولاءهم السياسي بل يتنازلون صراحة عن (عقيدتهم، وعشيرتهم، بل حتى عن أنفسهم من اجل إثبات أنهم مخلصون للتجربة السياسية رغم أنها كانت ملوثة بالدماء والمآسي والويلات والقسوة واشد إشكال الإرهاب التي تمارسه دولة ضد مواطنيها فنما في نفوسهم سقوط الشعور بالتضامن من اجل الحقيقة وتغلبت الرغبة غير المسوغة في الحصول على الخبز على حساب الحفاظ على الكرامة والاستحقاقات الإنسانية
لقد غادر الناس الذين حسبوا أنهم ملاحقون من السلطة الى خارج البلد.. ورغم انهم سياسيون وقادة في تنظيمات مناهضة لكنهم عاشوا هناك غرباء، واحسوا أنهم عالة على تلك الدول ولاجئون عاديون فيها وشعروا بالقلق على وجودهم.. فقد كانوا مهددين أيضاً فقد اجبر اغلبهم على أن يكونوا جزءاً من تفكير (دول المنافى) حفاظاً على وجودهم فسقط الوجدان الوطني امام القلق على الوجود الشخصي لذلك فلم يفكروا في أن يمتلكوا المهارات والمؤهلات، ولم يفكروا في الحصول على الشهادات الأكاديمية ولم يتملكوا الخبرة لكي يعودوا للبلد فيديرونه على وفق نماذج الدول المتقدمة والحال انهم عادوا وفي أعماقهم نزعة الانتقام من مواطنيهم الذين تجرعوا المرارة والرعب وعاشوا في ضنك الحصار الدولي وتخفوا لئلا يكتشف النظام انهم يكرهونه لان النظام البعثي كان مهووسا بالشك والخوف بل نما في أنفس العائدين من المنافي هاجس كبير من الخوف على انفسهم من أولئك الذين تعايشوا مع التجربة الديكتاتورية بصرف النظر عن أنهم كيف تعايشوا فتنامى في نفوسهم عنصر الشك فيهم وعدم الثقة بهم لتصورهم أن ذلك الرعب القديم عندهم لم يتنه بعد ولم تقف أمام هذا الهاجس المقيت بقية من دين، أو صبابة من فروسية أو شيئاً من الشجاعة أو اوقيم الوطنية والمواطنة او الشراكة الجديدة في بناء الوطن بعد زوال الديكتاتورية ...
لقد رسم السياسيون المنفيون من وطنهم هواجس الخوف من مواطنيهم فشمل ذلك من يخشى منهم من اتباع النظام المقبور ومن لا يخشى منه سواء من تكونت عنده الرغبة في الانضمام للوضع الجديد والتخلي عن أفكاره التي غرر بها او اكره عليها بل شمل هاجس الشك من امن بافكارهم ومسلكهم وتحفظ فانجاه الله من قمع السلطة فانكفأوا على معرفهم واصهارهم والأشخاص الذين ليس لديهم ادنى خبرة سوى الملق وسقوط الذات
ان هذه الهواجس المفترضة إزاء من نالهم الاستلاب الديكتاتوري وهم إخوانهم بيد انهم لم يحصلوا على فرصة الهروب من الوطن واللجوء للغربة كما فعل القادمون بعد 2003 .
و الحقيقة ان الذين: بقوا في اوطانهم قد عاشوا ثلاث تجارب عميقة الأثر في التكون النفسي وهي: (إجبار الإنسان على القتال مسمى مقاومة التمرد الكردي، وإجباره على فقدان الاروح في حرب الثمان سنوات بما فيها من ماسي فضيعة فتخلفوا عن الالتحاق بالجيش وعرضوا انفسهم لاقسى الانتقامات ثم تجربتهم مع الحصار وكان من نتائج التجارب الثلاثة سقوط قيم رفض السلوك السياسي المشين تحت استمرار الشعور بالخوف من الجوع والاقصاء والحرمان من الفرص ثم جاءت تجربة جديدة كانت مميزة بجهل الحاكمين وفسادهم فسقط التضامن الديني بعد سقوط التضامن الوطني) .
لقد كانت أول تجربة مأساوية في مرحلة اجبار الناس عل القتال في جبال كردستان وعندها بدأ الشعور بالمواطنة يتصدع، ويقبل الإنسان أن يقتل أخاه وشريكه في وطنه ثم تطور الحال إلى حرب مركبة من دوافع طائفية وأهداف سياسية لصالح استراتجيات إقليمية دولية (حرب الثمان سنوات) التي تهاوت فيها اغلب قيم الفروسية –مع رهبة الخوف من موت جماعي زاحف من جبهات القتال الممتدة أكثر من ألف كيلو متر، ورغم شعور المواطن العراقي إنها حرب لأجل الغير مثل امارات الخليج والسعودية ثم امريكا.. فقد صار في اغلب اللاوعي ميل مع الأناشيد الحماسية التي كانت تغسل الدماغ والتي لم تترك فسحة للإنسان أن يتامل خارج ذلك الضجيج الممنهج الذي كانت وظيفته أن يملأ الفراغ النفسي للإنسان العراقي حتى لا يراجع ولو للحظة لماذا هذه الحرب الضروس؟ لقد سقطت امام زحف الموت القادم من الشرق كل قيم المجد الشخصي، والاعتزاز بالذات في التعامل الاجتماعي فانتشرت الوساطة والرشوة، وقبول الإذلال لكي يتفادى العراقي الموت استشهاداً من اجل (البوابة الشرقية) وعاشوا في وطن اختطفته (قوى الجهل، واجبرته على ان تتصحر فيه القلوب وتتبلد فيه النفوس والعواطف وأصبح الموت والعوق الجسدي والترمل واليتم والمشكلات الاجتماعية يلف طيفاً واسعاً لم يكن العراقي يتوقعها في مجتمعه فضلا عن تاثيراتها على العقل والأخلاق والسلوك وقد اغتيلت الشجاعة وقتلت الفروسية، وأعيد الإنسان إلى دائرة الأشياء بعد أن أغلقت عليه نوافذ الأفكار والقيم.
لقد غيرت حرب الثمان سنوات مساحة كبيرة من قيم الإنسان في العراق.. وتكونت في ذاكرة الناس قصص كثيرة حصلت في تلك السنين (لو كنا سمعناها في الخمسينات لقلنا أي شعب يقدر أن يعيش وسط هذه المآسي لكننا قبلناها
والشعب حينما يتقبل أنموذج الذل والانحطاط، يتحول برمته إلى أغلبية مقهورة مستعبدة مشوهة يفتقد رأيها إلى أصالته وفردانيته ويصبح اغلب المجتمع قطيعا تقوده (عصا ومقصلة) وانتهت الحرب – بلا مبرر – كما بدأت بلا مبرر ولم يتساءل الناس لماذا دخلنا حربا مدمرة ولماذا قبلنا بانهائها ولا التساؤل بماذا انتهت حرب راحت فيها الالاف من البشر والمليارات من الثروة كل الذي كان ان الناس يستمعون إلى أناشيد الانتصار والنصر ويجبرون على تصديق هذه الخرافة ..وبذلك تكرس سقوط العقلانية المجتمعية بعد ان سقطت العقلانية الفردية.
لقد افرغ هذا النصر (البلد من كل احتياطي الثروة مما دفع التجربة الشمولية إلى اشعال حرب جديدة للاستيلاء على منابع النفط – بعد أن وجد انه قد غرر به فخسر كل شيء وبدل أن يعيد حساباته – لجأ مرة اخرى إلى – القوة غير العاقلة .. وبلع الطعم وكانت النتيجة انه في هذه الحرب الحمقاء فقد السيادة وأصبح تحت الوصاية الدولية وبدا مسلسل الموت المجاني (جوعا/و مرضا ) وتحت سيناريو الحصار الاقتصادي صار التسابق للحصول على الغذاء أو المال بأي وسيلة هو السلوك الاعتيادي ..فانهارت قيم (من أين يجب أن يكون مصدر الرزق) لقد سمع الناس آنذاك قصصا من إشكال الخديعة والسرقة والسطو والرشوة والفساد والهروب من الخدمة العامة والاشتغال بالإعمال المشبوهة لتحصيل المال تلك التي لم يكن العراقيون يعرفونها ولم يمارسها احد منهم لكن ذلك حصل ليتفادى الإنسان الموت جوعاً ومرضاً وهكذا أسقطت تجربة الرعب كثيراً من قيم النهوض على مستوى الفرد وقيم الأمة وضاعت الفرص الحقيقية لصنع المستقبل .
وجاء الفتح والفرج والانفراج في 2003 – رغم انه ليس فتحاً على يد أبناء الوطن فأنهم حينما ثاروا في 1991 ودفعوا تضحيات كبيرة جداً تخلت عنهم أمريكا وتأمرت عليهم دول الإقليم وتسمرت (جحافل المعارضة فى منافيها) ألا ما كنا نسمعه منها بين فترة وأخرى من اجتماع شكلي للمعارضة لاستغلال تلك التضحيات الكبيرة كمغانم خاصة لتلك الشخصيات والاحزاب وأخيراً جاء الأجانب وأسقطوا النظام المقيت وتكسرت المقصلة لكن أقيمت مكانها تجربة ديمقراطية على بنى تحتية مدمرة قيمياً صنعت دمارها في الإنسان العراقي (1958 – 2003) . وكان الامل ان تلفت التجربة الجديدة للذي ترسب في الوعي العراقي وفي السليكولوجيا العراقية لكن ما حصل أن تجربتنا السياسية المعاصرة لم تفكر في فلسفة نهضوية للمجتمع (المنكوب)، لإسعافه وإنعاشه وبناء أجياله الجديدة على أسس قيم النهوض والإيثار والصدق والمواطنة فلقد اختارت هذه التجربة ان تنطلق من (واقع أنساني قيمي مدمر) فسقطت في وعي سياسي مشوه، ولم تتفهم مشكلات الوطن. ومما زاد في البلاء ان كثيراً من (أهل الحل والعقد) اختاروا الرهان على بقاء جهل الغالبية، والتعويل على غيبوبة الوعي، وتفشي القيم الهابطة، لأنهم في اجواء خطاب يحشد لانتخابهم نواب ووزراء وليس بناة وعي..وها نحن نحصد كل ذلك : فقد تضاءلت في نفوس أهلنا قضية المشروعية وخبت بواعث الواجب وصارت مطامع الافراد هي الحق والقانون اما المصلحة العامة والمستقبل وحقوق الفقراء والأيتام فهي المثالية والطوباوية .
وصار: من يقف بوجه ثقافة (الأستغنام) من الدولة التي تحولت الى (غنيمة) متهماً بانه ضد التجربة ومن يقف بوجه هذا التوجه يجب ان يقصى وان يكون بعيداً اممنوعا عن حقوقه ومنها اشتغاله بدوائر تصنع القرار فقد جاءت زمرهم لا تفكر الا بالانتهاب المنظم وغير المنظم سواء على مستوى المال العام أو على مقترباته الوظائف والمناصب
لكل ذلك سقط في في ذهن المتصدين جميعاً احترام الكفاءة والمعيارية والحرفية والممارسة المهنية تحولت كل هذه القيم الى كلمات اذا احتجنا إليها رددناها تقية واذا فعلنا فعلنا فبخلافها،
أذن : دعونا نواجه أنفسنا بما حصل في التكون القيمي للشخصية العراقية ونعترف – رغم مرارة هذا الاعتراف أننا بحاجة الى برنامج تعليمي أخلاقي معرفي يعيد لنا ما افتقدناه من قيم الصدق والمواطنة والتضامن والاحتشاد من اجل الرفاهية والدولة الرشيدة ... والمستقبل الواعد.
و هذا يتطلب :
1- ان يكون لدولتنا فلسفة مجتمعية بدءاً من الدستور الى كل النظم والقوانين
2- ولدولتنا بكل مؤسستها رؤية وأهداف وبرامج، وخطط معيارية معلنة يكمل بعضها بعضا وتتجه نحو صنع الإنسان أولاً، ثم حماية الوطن والأمة من خلال تعزيز الشعور بالوطنية
3- يجب ان تكون للتعليم – بكل مراحله فلسفة وهدفاً تركز على – بناء الشخصية الإنسانية الرفيعة .
4- وان تتزايد الدراسات النفسية من اجل اكتشاف أفضل الوسائل نحو خلق مواطن يعشق وطنه، ويعمل لحاضره ومستقبله ويضحي من اجله ويحلم بكبريائه ومجده.
5- وان توجه كل وسائل الإعلام ضمن حملة وطنية منظمة نحو إدانة السلوك الذي خلقته تجربة عسكرة المجتمع وتجهيله ومحو اثار الرعب والظلامية( 1958 -2003) .
الخلاصة: نحن بحاجة ان نعيد صناعة الإنسان في العراق فهذا هو الطريق الانجح لمقاومة الفساد والارهاب.. الذي فشلت كل وسائلنا المعاصرة في إيقافهما بل هو الطريق الافضل لمكافحة الإرهاب الذي عجزنا ان نقنع المغرر بهم بأنهم واهمون، والوسيلة الناجحة لمنازله سلوكيات الاستغنام في أروقة السلطة
هذه دعوة للإخوة العلماء والباحثين لكي يفكروا بها تفكيراً جاداً ومبدعاً ثم تسطر أقلامهم – أوراقاً تلتمس الطريق في ضوء بصيص من نور ينير عقولنا لرؤية غدٍ كريم لكي يصبح.
***
أستاذ متمرس
د. عبد الأمير زاهد كاظم