قضايا
علاء اللامي: بحث أكاديمي جديد حول أخلاق التصوف بين العلوي والجابري (2-2)
عفيفي يدحض مقولات الاستشراق
بالعودة إلى موضوع جذور التصوف الإسلامي ونشأته الأولى، يمكن أن نجد دحضا قويا لمقولة وفادة وأجنبية التصوف الإسلامي التصوف الإسلامي وتفنيدها التطبيقي في ما كتبه أبو العلا عفيفي في كتابة "التصوف الثورة الروحية في الإسلام" قبل أكثر من نصف قرن، لنقرأ ما كتب وعذرا سلفا لطول المقتبس لضرورته القصوى: "الصورة الثانية هي الصورة الفارسية التي يدَّعي أصحابها أن التصوف الإسلامي نتاج فارسي في نشأته وتطوُّره، ولكنها أيضاً دعوى لا تقوم على أساس من التاريخ. نعم كان عدد كبير من أوائل الصوفية من أصل فارسي، ولكن أغلب متأخِّريهم كانوا من أصل عربي؛ كابن عربي وابن الفارض، وأكثر الذين تأثَّرُوا بابن عربي - العربي القح - كانوا من الفرس كالعراقي وأوحد الدين الكرماني وعبد الرحمن جامي وغيرهم".
ويُرجع عفيفي أصل هذه الفكرة عن هندية أو فارسية جذور التصوف إلى ما يسميه "التعصُّب لفكرة الآرية ضد السامية، وادِّعاء من جهة المتعصِّبين بأن العقلية السامية ليست أهلاً للفلسفة ولا للتصوُّف ولا للعلوم والفنون".
ثم يفترض عفيفي التسليم جدلا وافتراضا بصحة فكرة أن "التصوُّف كان رد فعل للعقل الآري ضد دينٍ سامٍ "الإسلام" فُرض على فارس فرضاً، وأن كبار المفكِّرين الفارسيين لم يَعتنقُوا الإسلام إلا صورةً، وكان غرضهم الأول تشويه الإسلام وقلب أوضاعه لأغراضٍ قومية وسياسية" أفلا تطعن هذه الفكرة بأفضلية العنصر الآري نفسه، وتوجه ضربة إلى كبار علماء الفرس وفلاسفتهم ومتصوفتِهم المسلمين من حيث إنها تُنكِر عليهم كل صدق وإخلاص في مجهودهم العَقلي والرُّوحي الإسلامي"؟
وعلى سبيل النفي، يتساءل عفيفي أيضا، إنْ كان هناك من يشكُّ في إخلاص سيبويه للنحو العربي، وصاحب الأغاني "الأصفهاني" للأدب والقصص التاريخي العربي، والفخر الرازي للتفسير، وابن سينا للفلسفة، وشقيق البلخي وأحمد بن خضروَيه ويحيى بن معاذ وأبي حفص النيسابوري، وأبي عثمان الحيري وأبي حامد الغزالي ومئات غيرهم في التصوُّف؟!
ويختم عفيفي مستنتجا من قراءة معطيات الواقع التاريخي الموثق في سجلات التأريخ وحولياته إنَّ هؤلاء الذين ذكرهم بالأسماء كانوا جميعاً "من أصل فارسي ومع ذلك لم نَجِد فيهم نزعةً نحو الانتصار للغتِهم الفارسية على حساب اللغة العربية، ولا انتصاراً لعقائدَ فارسية قديمة على حساب العقائد الإسلامية، بل بذلوا جهداً صادقاً في فهم الإسلام ونشْر عقائده (تفاخر الشيخ يوسف القرضاوي حين كانت علاقاته جيدة بالحكم في إيران بأنَّ أصحاب كتب الصحاح الستة الجامعة للأحاديث النبوية والمعتمدة من قبل المسلمين السنة بمختلف مذاهبهم كلهم من الفرس وهم البخاري والترمذي والنسائي ومسلم وأبو داود وابن ماجه وهم مبجلون وموقرون لدى المسلمين السنة حتى يومنا هذا، ومعلومة القرضاوي صحيحة تماما!)، إنَّ العكس هو الصحيح، وهو أن لغة الغازين وأدبَهم ودينهم لم تتأثَّر بلغة المغزوين وأدبهم وأصول عقائدهم، بل فرضت اللغة العربية كما فرض الدين العربي نفسيهما على أهل فارس وغيرها من البلاد الإسلامية غير العربية بحيث لم نَجِد بعد جيل أو جيلَين من بين العلماء من يكتب بالفارسية في فارس ولا باليونانية في سوريا ولا بالقبطية في مصر، وفيما يتَّصل بالتصوف بوجهٍ خاص، لم تكن العربية لغة التأليف وحسب، بل كانت لغة الوعظ والتعليم". المصدر: التصوف الثورة الروحية في الإسلام ابو العلا عفيفي. ويمكن أن نذكر بعض الاستثناءات التي تؤكد القاعدة المضمرة في ماكتبه عفيفي فإذا كانت الحالة العامة تؤكد إخلاص الفلاسفة والمتصوفة المسلمين الفرس لأنفسهم ولإيمانهم الديني أو الفلسفي فهي لا تنفي وجود حالات استثنائية من الفرس القوميين الكارهين للعرب وللإسلام والمفاخرين بديانتهم المجوسية ولكنها تظل حالات نادرة واستثنائية وعلنية تؤكد تلك القاعدة ولا تنفيها. ومن تلك الاستثناءات حالة الشاعر بشار بن برد والذي لم يُقتل بأمر الخليفة المهدي العباسي لأنه جاهر بمجوسيته وقد فعل ذلك شعرا بل لأنه هجا الخليفة العباسي المهدي وشتمه في عِرضه أي إنه يحسب على ملاك المعارضة السياسية لا الإيمان الديني المخالف وقد قال بشار بحق المهدي العباسي:
ضاعتْ خلافتُكم يا قومُ فالتمسوا........... خليفةَ اللهِ بين الناي والعودِ
وقال فيه أيضا:
خَليفَةٌ يَزني بَعَمّاتِهِ ........ يَلعَبُ بِالدَبّوقِ وَالصولَجان
أَبدَلَنا اللَهُ بِهِ غَيرَهُ ..... وَدَسَّ مُوسى في حِرِ الخَيزُران
والخيزران هي زوجة الخليفة المهدي، وهي جارية يمنية أعتقها ثم تزوجها وأنجب منها الرشيد وموسى الهادي.
والحالات المماثلة لحالة بشار بن برد نادرة ولا يخلو منها أي مجتمع بشري وهذا ليس تبريرا لقتل هذا الشاعر المسن بل هو إدراج للحالة في سياقها التأريخي الحقيقي لتفهم فيه وبموجبه.
بين أخلاقيات التصوف وأخلاقيات السلفية
ينقل الباحث المحمد عن الجابري قوله حول نشأة التصوف "ذلك أن من شأن ظهور البذور الأولى للتصوف، ولا سيما الحركة الزهدية الممهدة له، كان في مدينتي الكوفة والبصرة. وجل سكان هاتين المدينتين من الفرس، الذين يعيشون وضعية نفسية وسياسية تحمل الحقد الدفين للعرب". وهذا الكلام ليس صحيحا كمعطيات تأريخية فالبصرة والكوفة حين مُصِّرتا من قبل العرب كانتا عبارة عن معسكرين حربيين للجيوش العربية أكثر منهما مدينتين عاديتين، أي انهما كانتا قاعدتين لتجمع المقاتلين العرب وأسرهم وحتى قبائلهم، وقد قسمت كل مدينة إلى أرباع، أي أحياء كل ربع خصص لسكن قبيلة معينة، ولم يسكن الفرس فيهما على الأقل في مرحلة التأسيس والإنشاء وطوال قرن أو يزيد، بل إنَّ القبائل العربية هي التي اتجهت شرقاً واستوطنت إيران حتى فاق العديد السكاني العربي في بعض الأقاليم كخراسان النصف وأصبح الفرس أقلية في تلك الأقاليم. وإذا كان الجابري يرى في أن الكوفة كانت معادية للدولة الأموية ومنها جاءت الضربة التي قضت عليها وأن الفرس هم سكان أو غالبية سكان هذه المدينة وهذا أمر غير صحيح أو في الأقل مبالغ فيه كثيرا، فهو ينسى أن الحركة التي قضت على الدولة الأموية هي الحركة العباسية وقيادتها من بني العباس وهم عرب قرشيون، وكان لهم مساعدون ومعاونون من العرب والفرس وغيرهم من الشعوب التي ذاقت الأمرين من ظلم الدولة الأموية وخاضوا عدة حروب وثورات قبل أن يجدوا في الحركة العباسية ضالتهم. فحتى حتى العرب لم يسلموا من اضطهاد بني أمية فمأساة ضرب الكعبة بالمنجنيق، وإباحتها للمهاجمين لثلاثة أيام، وأول معارض قتله الأمويون صبرا " أعدم وهو أعزل وتلك نقيصة يشمئز منها العرب" هو العربي حجر بن عدي الكندي، ومقتل الحسين بن علي سِبط النبي ومعه صحبه في موقعة الطف بكربلاء وسبي نسائهم وتسييرها إلى الشام، ولقد كان ضحاياها هذه الكوارث وغيرها من العرب قبل غيرهم، ولكن الجابري يقفز على هذه الوقائع والحقائق التاريخية ولا يرى سوى الجواسيس الفرس يندسون في كل شيء من التصوف إلى الفلسفة إلى الحركات المسلحة دون النظر والبحث في السياق التاريخي الفعلي للأحداث ومضمونه الاجتماعي!
يقارن الباحث بين ما يطرحه الجابري حول أخلاق التصوف وما يطرحه العلوي ويتوصلان إلى أن الطرحين متعاكسان، ففي حين يقدم الجابري رأيا سلبيا من التصوف فهو يقول "وقد ظهرت أخلاق الطاعة الكسروية في المنظومة الصوفية في علاقة الشيخ بالمريد القائمة على طاعة المريد المطلقة لشيخه". ويضيف الباحث "ويذهب الجابري أبعد من ذلك في تأكيد قيم الخنوع التي تظهر في علاقة الشيخ والمريد، وذلك من خلال إظهار العلاقة بينهما بوصفها علاقة بين سيد وعبد، وتتجلى مثلاً من خلال قضاء المريد وقت فراغه في خدمة الشيخ من طبخ وغسيل وغيرها من الأعمال المنزلية. ويُخضع الجابري سيرة أقطاب التصوف لـ "تحليل نفسي"، ويخلص منه إلى القول بأن زهد أقطاب المتصوفة هو عبارة عن جريّ وراء الزعامة. ففشلهم في تحقيق الزعامة الدنيوية جعلهم يطلبون الآخروية عن طريق توسط التصوف والزهد". أعتقد أن هذا كلام الجابري هنا يمت بصلة وثيقة إلى البحث والتفتيش في النوايا والخواطر وأشبه بقراءة "الحظ" في فنجان القهوة منها إلى علم النفس التحليلي أو السلوكي فكيف يتمكن الباحث من معرفة حقيقة ما يفكر فيه الصوفي وما يعتمل في نفسه بهذه الدرجة من الوضوح والتقريرية الباتة.
العلوي ينتقد مفاهيم رينان
على المقلب الآخر يقدم العلوي صورة أكثر انسجاما للعلاقة المريدية، أي التلمذة بين المريد وشيخه وتقتصر هذه العلاقة للتلمذة على فترة المريدية ثم تنحل وتنتهي ويستقل المريد عن شيخه لنقرأ ما نقله الباحث عن العلوي بهذا الصدد: "في المقابل، يرى العلوي أن دخول المرء في سلك التصوف يتطلب بالضرورة أن يكون له شيخ يتتلمذ على يديه، ولكن الاستقلالية من لوازم الصوفية تمنع المريد من تقديس شيوخه، يكتب العلوي في هذا الصدد "الاستقلال في شخصية الصوفي أن لا يقدس شيوخه. ولا يعني ذلك أن لا يوقرهم ويبجلهم التزاما بحقوق الأستاذ على التلميذ بل أن لا يعتقد فيهم العصمة".
وهنا، في هذا السياق، ينتقد العلوي المستشرق الفرنسي رينان الذي عدّ قول المتصوفة، بأن من لا شيخ له فشيخه الشيطان دلالة تقييد، يكتب: "وقد وقع الفرنسي رينان في الجهل المركب لما اتخذ من هذه القاعدة دليلاً على أن العقل السامي مقيد، إذ لم يطلع على التوجيه المكمل بالانفصال عن الشيخ بعد إتمام التعلم". ويرى العلوي - بخلاف تصور الجابري – أن التصوف القطباني الإسلامي هو ثورة على الاستبداد بالقول والفعل منذ بدايته مع إبراهيم بن أدهم كقوله الذي رواه ابن كثير في البداية والنهاية: "كل سلطان لا يكون عادلاً فهو واللص بمنزلة واحدة"، فالهمّ المركزي عند أقطاب التصوف، في رأي العلوي، هو توفير الراحة للخلق وهذا الراحة لا تتحقق إلا بالوقوف في وجه الاستبداد". والخلاصة فالعلوي لا يرى أن هناك خنوعاً في علاقة الشيخ بالمريد في التصوف الحقيقي، ولا تتطلب الخدمة المتبادلة بين الشيخ والمريد هذا الجهد المضني، فهم لا يلبسون إلا للستر والدفء، ولا يتخيرون الأثاث لبيوتهم أما طعامهم فمقنن بحدود الكفاية اللازمة للبقاء".
التوبة والخلاص الهرمسي
قضية أخرى مهمة وددت التوقف عندها في قراءة الزميل الباحث، وهي قضية التوبة الصوفية وكيف فسرها الجابري على أساس أن التوبة بالمفهوم الصوفي لا علاقة لها بالتوبة بالمفهوم الإسلامي، بل تنضوي ضمن مفهوم "الخلاص الهرمسي عبر الفناء". يكتب الباحث "تتجلى رغبة الجابري في إسقاط صفة الأصالة الإسلامية عن التصوف في إظهاره مفاهيم التصوف كلها بأنها بعيدة عن الإسلام، وهو الأمر الذي لاحظناه في تناوله مجال التوبة عندهم، الذي هو ليس برجوع عن الذنب فحسب، وإنما رجوع إلى الله أيضاً، في حين أن الجابري يعتقد أن مفهوم التوبة في الإسلام يقتصر على توبة عن ذنب سبق اقترافه، ويخالف هذا الفهم الجابري بوضوح أهم ما جاء في نصوص الفقهاء بمختلف توجهاتهم المذهبية. إذ إن التوبة عندهم هي ليست متعلقة بتوبة من ذنب سبق اقترافه فحسب بل التوبة واجبة على من ترك ما هو مأمور به بالشرع، يكتب ابن تيمية في هذا الصدد "التوبة المشروعة هي الرجوع إلى الله، وإلى فعل ما أمر به وترك ما نهى عنه. وليست التوبة من فعل السيئات فقط كما يظن كثير من الجهال، لا يتصورون التوبة إلا عما يفعله العبد من القبائح كالفواحش والمظالم، بل التوبة من ترك الحسنات المأمور بها أهم من التوبة من فعل السيئات المنهى عنها، يغيّب الجابري هذا الفهم المتطابق بخصوص مفهوم التوبة بين ابن تيمية والمتصوفة لسبب بسيط مفاده إبعاد التصوف وأخلاقه عن الإسلام بشكل كلي، وبهذا نكون مع التحليل الجابري أمام نقد إيديولوجي تضليلي ولسنا أمام نقد موضوعي". بمعنى، إن الجابري في غمرة حماسته وهجائه للتصوف والصوفية يشتط كثيرا ويفارق حتى الفهم السلفي للتوبة وهو الفهم الصوفي نفسه رغم ما بين السلفية التيمية والتصوف من عداء يبلغ أحيانا درجة تكفير الأولى للثانية.
خلاصات البحث
خلاصة البحث تأتينا على شكل مقارنة مكثفة بين رؤية الباحثَين الجابري والعلوي لموضوع الأخلاق الصوفية أو موقع الأخلاق في منظومة المفاهيم الصوفية القطبانية فيكتب: "إننا كنّا أمام قراءتين مختلفتين من الناحية المنهجية والأيديولوجية. فقراءة الجابري كانت مطابقة للقراءة السلفية، وخاصة المعاصرة منها، يكتب مثلا مقدم كتاب ابن تيمية "الصوفية والفقراء"، ومن الصوفية كما نعلم ويعلم شيخ الإسلام خرجت الزندقة، والهرطقة، والسفسطة، والمروق والفسوق". لنقارن القول الأخير مع النتيجة التي وصل إليها الجابري، يكتب جميع "المقدمات" في الكلام الصوفي تنتهي في النهاية إلى عكسها. وحقاً إنَّ "أخلاق الفناء" – المقصود لدى الصوفية ع.ل- تنتهي إلى "فناء الأخلاق". ثمة تشابه ولقاء، لا فرق سوى أن الأول استخدم ألفاظاً مستخرجة من القاموس الديني التكفيري، أما الثاني "الجابري" استخدم ألفاظاً مستخرجة من قاموس الفكر المعاصر. في المقابل، جاءت قراءة العلوي امتداداً للقراءة الماركسية العربية التي يلخصها المفكر مهدي عامل بقوله "هل من مبالغة في قولنا - شطحاً؟- إن هذا الفكر الماركسي هو وريث كل فكر بقوله ثوري في التاريخ، وهو، لهذا، وريث فكر الإشراق والتصوف الذي هو، بحق، فكر الإسلام، أعني فكر الحق في الإسلام؟ والحق للحق وريث وإن اختلفا ". لذلك كان غرض العلوي من قراءة أخلاقيات التصوف هو دمج هذه الأخلاقيات في مشروعه القائم على ترسيخ قيم مثقفية مناضلة ومقاومة للواقع العربي الرث والمتخلع بفعل تبعية البنية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية العربية للمراكز الرأسمالية الإمبريالية "..." وتساعد قيم التصوف القطباني التي استخرجتها قراءة العلوي في عملية خلق مجتمع عادل لا يكون متجذرا على العنف الإقصائي. كما تساعد أيضاً في العمل على تشكيل خطاب مفتوح ورحيم، بعيد عن أي نسق من التصنيفات القانونية والأخلاقية المتعالية والإلزامية التي تسعى إلى خلق فروق واضحة بين من يجب أن يُدرج في دائرة الأخلاق والقانون ومن لا ينبغي بالتالي أن يُدرج في داخلها. وأخيراً، تساعد قراءة العلوي لأخلاقيات التصوف في مواجهة التيارات العلمانية العربية الزائفة التي لا ترى من العلمانية سوى فصل للدين عن الدولة دون أن تلحظ أن العلمانية لا تكتمل دون فصل واضح بين الدين والأخلاق، لا سيما أن قراءة العلوي بيّنت أن أخلاق حركة التصوف القطباني الإسلامي كانت تجسيداً فعلياً للفصل بين الدين والأخلاق الأمر الذي يمكن التأسيس عليه في تشكيل ممارسة إتيقية تسهم في مواجهة خطاب الدمج بين الأخلاق والدين عند البرجوازيات العربية المسيطرة والتيارات الدينية النصية في أشكالها المتنوعة". وأعتقد المقصود هنا بالفصل بين الدين والأخلاق لا يبتعد عن معنى الفصل بين مضمارين مستقلين؛ مضمار الدين كشريعة ونصوص غيبية وطقوس دينية مختلفة باختلاف وتعدد الأديان، ومضمار الأخلاق كسلوكية وفعالية إنسانية فردية الأساس جماعية التمظهر الاجتماعي، قد تستلهم هذا الدين أو غيره وقد لا تستلهم أي دين ولكنها تنتمي للإنسان الفرد الممارس لأخلاقه الشخصية.
إن الجابري الذي يسفِّه أخلاقيات التصوف ويهجوها من مواقع سلفية ماضيوية يسكت تماما عن الآفات الأخلاقية لدى السلفيين والنصوصيين المحافظين من قبيل التسري وتعددية الزوجات وزواج القاصرات بهدف الاستمتاع والتلذذ الجنسي حتى خارج الشرط التشريعي الإسلامي الذي يبيح التعددية "الزواج الضرائري" بشرط العدل، وامتلاك العبيد والجواري والجشع إلى المال والمجوهرات والممتلكات الأخرى والجاه والسلطان والشهرة، ولكن الجابري، في المقابل، لا يقيم أدنى اعتبار للتجربة السلوكية الصوفية الزهدية المتسامية والتي سجلتها نصوص التراث العربي الإسلامي حتى تلك التي وردت في كتابات خصومهم وأعدائهم ومكفريهم، وهذا ما كرره الباحث بكلمات قليلة قالوا فيها: "أن الجابري لا يعير أي اهتمام بمسألة الرفض العملي عند أقطاب التصوف للتسري وامتلاك العبيد والجواري وتعدد الزوجات، ولا ينظر إليها كمعطى أخلاقي فريد في فضاء تشريعات دينية تبيحها، في المقابل ينظر العلوي إلى ذلك كجانب أخلاقي مضيء بالمقارنة مع الفقه السني والشيعي الذي يبيح التسري وتعدد الزوجات وامتلاك العبيد وزواج الطفلة الصغيرة".
وأخيرا، يمكننا الاتفاق مع ما عبر عنه الصديق الباحث في أن القيم والأخلاقيات الإيجابية التي تحلى بها أقطاب التصوف الإسلامي وعموم حركة التصوف القبطاني لا تشكل أصلاً أو جزءا دخيلا وغريباً عن الإسلام وإنما هي جزء أصيل منه نجد جذوره في النصوص القرآنية وخصوصا "المكية" قبل الهجرة، جزء يتماهى في سلوك وفكر بعض الصحابة والتابعين الذين يعدّون آباء للتصوف الإسلامي، مثل أبي ذر الغفاري وسلمان الفارسي وعامر العنبري وأن الجوهر الاجتماعي الكفاحي لظاهرة وحركة التصوف القطباني يكمن في انحيازها إلى الخلق الفقير وهم الغالبية المجتمعية في كل زمان ومكان وعمل المتصوفة القطبانية على رفع الظلم والحيف والشرور الطبقية عنه ومقارعة الظالمين الكانزين للذهب والفضة وثروات الشعوب.
***
علاء اللامي- كاتب عراقي