قضايا
حاتم حميد محسن: هل الكون صُنع من رياضيات خالصة؟
اذا لم تواجه النظرية ما موجود حقا في الكون، فان صاحب النظرية انما يلعب في الرمل، وغير منخرط في العلم. فكرة ان القوى، الجزيئات، التفاعلات التي نراها اليوم جميعها تجسيد لنظرية واحدة وشاملة هي فكرة جذابة، وتتطلب أبعادا اخرى والكثير من الجزيئات والتفاعلات الجديدة. العديد من هذه الافكار المعقدة توجد لأجل الاستطلاع، ولكن اذا لم يوجد كون مادي نقارنها به، من غير المحتمل ان نتعلم أي شيء مفيد حول الكون.
الأفكار الاساسية:
1- توصل الرياضيون لعدة أفكار ملائمة فيزيائيا لواقعنا، بعضها من خلال التفكير الرياضي الخالص.
2- غير ان الرياضيات وحدها سوف لن تعطي صورة دقيقة للواقع، يجب ان نوفق بين ما "نفكر" به وما نلاحظ او نقيس.
3- اللعب في صندوق رملي أمر جيد، ولكن اذا أردنا الحقيقة علينا مواجهة الكون ذاته.
عند حدود الفيزياء النظرية، في اكثر الافكار شعبية هناك شيء واحد مشترك : انها تبدأ من اطار رياضي يسعى لتوضيح اشياء اكثر مما تقوم به النظريات السائدة حاليا. اطارنا الحالي للنسبية العامة ونظرية الكوانتم عظيمان بما يقومان به، ولكنهما لايقومان بكل شيء. هما غير منسجمان اساسا مع بعضهما ولا يستطيعان التوضيح الكافي للمادة المظلمة، الطاقة المظلمة، او سبب امتلاء الكون بمادة وليس بضد المادة. صحيح ان الرياضيات تمكّننا من الوصف الكمي للكون، وهي اداة مفيدة بشكل لا يصدق عندما تُطبق بشكل صحيح. لكن الكون هو كينونة مادية وليست رياضية، وهناك فرق كبير بين الاثنين. هذا يفسر لماذا الرياضيات وحدها ستكون دائما غير كافية للوصول لنظرية أساسية لكل شيء.
قبل 400 سنة، بدأت المعركة تتكشف حول طبيعة الكون. وطوال ألف عام، وصف الفلكيون بدقة مدارات الكواكب مستخدمين نموذج مركزية الارض والذي تكون فيه الارض ثابتة وجميع الكواكب الاخرى تدور حولها. وباستخدام رياضيات الهندسة والمشاهدات الفلكية الدقيقة كان الوصف الرياضي الدقيق لمدارات الاجرام السماوية تطابق بشكل مذهل مع ما شوهد. غير ان الوصف الرياضي للأجرام السماوية لم يكن مثاليا، وفي القرن السادس عشر أثبت كوبرنيكوس مركزية الشمس. عبر وضع الشمس في المركز اصبحت التوضيحات للحركة اكثر بساطة لكن مطابقتها للبيانات كانت أسوأ. وهنا جاء كبلر بفكرة لامعة سعت لحل كل شيء.
هو لاحظ ان هناك ستة كواكب بما فيها الارض (دون القمر). لاحظ ايضا بطريقة رياضية ان هناك فقط خمسة أجسام افلاطونية صلبة: خمسة اشياء رياضية جميعها مضلعات متساوية الأضلاع. عبر سحب جسم كروي داخل وخارج كل واحد من الاشياء الخمسة، هو استطاع ان يضعهم بطريقة تتطابق بشكل ممتاز مع مدارات الكواكب، أفضل من كل ما قام به كوبرنيكوس. كان نموذجا رياضيا لامعا وجميلا، يمكن القول هو اول محاولة لبناء ما نسميه "الكون الأنيق" اليوم. لكن النموذج فشل بالمشاهدة . انه فشل حتى بمستوى نموذج بطليموس القديم . انه كان فكرة رائعة من زاوية الرياضيات الخالصة او كيف يجب ان يكون الكون. لكنه لم يعمل.
ما حصل لاحقا كان عملا لا نظير له. كبلر أخذ نموذجه الأنيق والمقنع والذي لم ينسجم مع المشاهدات ورماه بعيدا. بدلا من ذلك، هو ذهب وغاص في البيانات ليجد أي نوع من المدارات تطابق حركة الكواكب الحقيقية، وتوصّل الى مجموعة من الإستنتاجات العلمية غير الرياضية:
1- الكواكب لا تتحرك في دوائر حول الشمس المركزية وانما في أشكال بيضوية، وبمجموعة مختلفة من العوامل الثابتة parameters التي تصف شكل كل كوكب.
2- الكواكب لا تتحرك بسرعة ثابتة وانما هي تتحرك بسرعة تتغير تبعا لبعد الكوكب عن الشمس، حيث تزداد فيها سرعة الكوكب عندما يقترب من الشمس ويبطئ عندما يبتعد عنها، حركة في مساحات متساوية في أزمان متساوية.
3- وأخيرا،الكواكب تعرض فترات مدارية تتناسب مباشرة مع طول المحور(المحور الرئيسي) لكل كوكب،مرفوعة لقوة معينة (مصممة لتكون 3/2).
كانت هذه لحظة ثورية في تاريخ العلوم. الرياضيات لم تكن في أصل القوانين الفيزيائية التي تحكم الطبيعة، انها كانت أداة وصفت الكيفية التي جسدت بها قوانين الطبيعة ذاتها. التقدم الرئيسي الذي حدث هو حاجة العلم ليكون مرتكزا على ماهو مُلاحظ ومُقاس، وان أي نظرية تحتاج لتواجه نفسها مع تلك الأفكار. بدون ذلك،سيكون أي تقدم مستحيلا.
هذه الفكرة تكررت طوال التاريخ،فيها تزودنا اكتشافات واختراعات رياضية جديدة بأدوات جديدة في محاولة وصف الأنظمة الفيزيائية. ولكن في كل مرة، لم يكن مجرد ان رياضيات جديدة تخبرنا كيف يعمل الكون. بدلا من ذلك،الملاحظات الجديدة أخبرتنا ان ما هو مطلوب هو شيء ما وراء الفيزياء المفهومة حاليا ، وان الرياضيات الخالصة وحدها غير كافية للوصول الى هناك.
وفي بدايات العام 1900 كان واضحا ان ميكانيكا نيوتن كانت في مأزق. انها لم تستطع توضيح كيف تحركت الاشياء بسرعة موازية لسرعة الضوء، وهو ما قاد الى نظرية اينشتاين في النسبية الخاصة. نظرية نيوتن في الجاذبية الكونية كانت ايضا في موقف صعب، كونها لم توضح حركة عطارد حول الشمس. مفاهيم مثل الزمكان كانت تمت صياغتها توا، لكن فكرة الهندسة اللااقليدية (حيث الفضاء ذاته يمكن ان ينحني بدلا من ان يكون مستويا) كانت حاضرة لعقود بين الرياضيين.
لسوء الحظ، تطوير اطار رياضي لوصف الزمكان (والجاذبية) تطلّب اكثر من رياضيات خالصة، ربما تطبيق الرياضيات بطريقة معدلة، يتفق مع مشاهدات الكون. هذا يفسر لماذا نحن دائما نعرف اسم اينشتاين لكن القليل من الناس يتذكرون اسم ديفد هلبرت.
كلا الرجلين لهما نظريات ربطت انحناء الزمكان بالجاذبية وبوجود المادة والطاقة. كلاهما لديهما صياغات رياضية متشابهة، وحاليا المعادلة الهامة للنسبية العامة تُعرف بـ فعل اينشتاين-هلبرت . لكن هلبرت الذي جاء بنظريته الخاصة، نظرية في الجاذبية مستقلة عن اينشتاين، سعى بطموح أكبر من اينشتاين: نظريته طبقت على كل من المادة والكهرومغناطيسية بالاضافة للجاذبية. هذا ببساطة لايتفق مع الطبيعة. كان هلبرت يبني نظرية رياضية اعتقد انها يجب ان تُطبق على الطبيعة ولم يتمكن ابدا من الحصول على معادلات ناجحة تتنبأ بالتأثيرات الكمية للجاذبية. اينشتاين فعل ذلك، وهذا يفسر لماذا معادلات المجال تُعرف بمعادلات المجال لأينشتاين، دون ذكر لهربرت. بدون مواجهة الواقع، نحن لا نمتلك فيزياء ابدا.
موقف مشابه لهذا جاء مرة اخرى بعد عدة سنوات في سياق فيزياء الكوانتم. انت لا تستطيع اطلاق الكترون من خلال شق مزدوج وتعرف بناءً على كل الظروف الاولية، أين سينتهي به المطاف. كان مطلوبا نوع جديد من الرياضيات – متجذر في ميكانيكا الموجة ومجموعة من محصلات احتمالية.
اليوم، نحن نستعمل رياضيات ناقلات الفضاء والمشغلين، وطلاب الفيزياء يسمعون كلمة مألوفة : فضاء هلبرت.
نفس الرياضي ديفد هلبرت اكتشف عدد من الخطوط الهندسية كانت مفيدة جدا لفيزياء الكوانتم. مرة اخرى، تنبؤاتها لم تحقق فائدة عندما واجهت الواقع الفيزيائي. لهذا السبب،بعض التعديلات البسيطة كانت مطلوبة للرياضيات، لتخلق ما يسميه البعض فضاء هلبرت الفيزيائي. القواعد الرياضية كانت بحاجة لتُطبّق بتحفظات معينة، والاّ فان نتائج كوننا الفيزيائي سوف لن يتم الحصول عليها.
اليوم،من الشائع جدا ان تلجأ الفيزياء النظرية للرياضيات كطريقة محتملة للمضي قدما نحو حدث اكثر جوهرية في نظرية الواقع. هناك عدد من الاتجاهات المرتكزة على الرياضيات مورست عبر السنين:
1- فرض تماثلات اضافية symmetries
2- إضافة أبعاد اضافية
3- إضافة مجالات جديدة الى النسبية العامة
4- إضافة مجالات جديدة الى نظرية الكوانتم
5- إستعمال زمر اكبر(من نظرية الزمر الرياضية) لتمديد مستوى النموذج.
هذه الاستكشافات الرياضية هي هامة وملائمة للفيزياء، انها تمتلك افكار حول ما يمتلكه الكون من أسرار وراء ما يُعرف حاليا. لكن الرياضيات وحدها لايمكن ان تعلّمنا كيف يعمل الكون. نحن سوف لن نحصل على اجابات محددة بدون مواجهة تنبؤاتها بالكون المادي نفسه.
انه درس يتعلمه كل طالب فيزياء عندما يحسب اول مرة مسار جسم يُطلق في الهواء . كم المسافة التي يقطعها؟ اين سيحط؟ كم الوقت الذي يستغرقه في الهواء؟ عندما نحل المعادلات الرياضية – معادلات نيوتن في الحركة – التي تحكم هذه الاشياء، نحن لا نحصل على "الجواب." نحصل على جوابين من الرياضيات. لكن في الواقع، هناك شيء واحد فقط. ان الجسم يتبع مسارا واحدا فقط، يهبط في موقع واحد وفي وقت محدد واحد. أي جواب يتطابق مع الواقع؟ الرياضيات لن تخبرنا. لذلك نحن نحتاج ان نفهم مشكلة الفيزياء المحددة في السؤال،لأن ذلك وحده يخبرنا أي جواب يمتلك معنى فيزيائيا خلفه. الرياضيات ستأخذنا بعيدا جدا في هذا العالم، لكنها لن تعطينا كل شيء. بدون مواجهة الواقع، لا نستطيع فهم الكون المادي.
Bigthink.com, Feb 28, 2023
***
حاتم حميد محسن