آراء
عبد السلام فاروق: الفوضى الخلاقة

الشرق الأوسط حقل تجارب لصراعات القوى العظمى؟
الأديان ساحة معركة: من يحارب باسم الله؟
***
لا تخفى على متأمل في أحوال الشرق الأوسط اليوم حقيقة مرة: أن الفوضى العارمة التي تكتسح المنطقة ليست وليدة الصدفة، ولا هي مجرد انتفاضة شعوب عطشى للحرية فحسب. بل هي، وكما يخبرنا التاريخ حين يقرأ بعين ثاقبة، حلقة من حلقات مسلسل طويل من التآمر العالمي، تديره أياد خفية تحمل أختام الماسونية والصهيونية، وتستظل بخيانة حكام تخلوا عن عروبتهم قبل أن يتنكروا لشعوبهم.
المؤامرة.. ليست وهماً!
من ينكر نظرية المؤامرة اليوم، كمن ينكر حرق نيرون لروما! التاريخ، منذ اتفاق سايكس-بيكو إلى وعد بلفور، إلى غزو العراق، وإلى "الربيع العربي" المشبوه، يخبرنا أن المنطقة لم تكن يوماً ساحة لصراع القوى العظمى فحسب، بل ميداناً لتنفيذ مشاريع استعمارية تهدف إلى تفكيك الهوية وإعادة تشكيل الخريطة بما يوافق مصالح الكيان الصهيوني. فكيف لنا أن نفسر تزامن الحروب الأهلية، وتفتيت الدول، وتغيير الحلفاء، وخروج الثوابت السياسية عن مسارها، إلا بضغطة زر من غرفة تحكم في عاصمة غربية أو تحت أنقاض هيكل مزعوم؟
ليس غريباً أن تتحول الفضائيات ومواقع التواصل إلى ساحات لحرب نفسية تذيب العقول قبل الأجساد. فالثورة الإعلامية التي يزعمونها "تحريراً للرأي" هي في حقيقتها آلة لتزييف الوعي، تصنع الأعداء وفق القلب، وتبرر الغزو باسم الديمقراطية، وترفع شعارات الحرية بينما تدفن الحقيقة تحت ركام الأكاذيب. ألم يكفنا أن الإعلام الغربي يعلق على دموع الأطفال في غزة بينما يبرر قتلهم باسم "الحق في الدفاع عن النفس"؟!
رغم ذلك، فإن المفارقة الأقسى هي تنامي الحس الإنساني لدى شعوب المنطقة رغم القهر. فالشاب العربي اليوم يقرأ التاريخ بعين نقدية، ويربط بين النقاط بين الماضي والحاضر، ويرى أن الفوضى ليست قدراً، بل نتيجة لسياسات ممنهجة. والسؤال الآن: هل ستنجح هذه الشعوب في كسر حلقة المؤامرة، أم أن التضحيات ستذهب سدى كما حدث في مآس سابقة؟
التاريخ يعيد نفسه.. فمن يتعلم؟
لطالما كان التاريخ ساحة لصراع الإرادات. وإذا كانت المؤامرات قادرة على صنع فوضى، فإن إرادة الشعوب قادرة على صنع مستقبل يكسر القيود. فهل ننتظر جودو ليخلصنا، أم نكون نحن البناة الحقيقيين لتاريخ جديد؟ الجواب يكمن في ذاك الحس المشبوب بالغضب والأمل الذي يملأ شوارع بغداد ودمشق والقاهرة وغزة.. فلا يأس مع الحياة!
إذا كانت الفوضى في الشرق الأوسط تشبه زلزالاً لا يتوقف عن الهز، فإن يداً خفية تحرك الصفائح التكتونية للتاريخ من خلف الستار. فما نراه اليوم من دمار وتفتيت ليس انهياراً تلقائياً، بل هو "فوضى منظمة" تدار بمزاج القوى الكبرى، وتوجه نحو أهداف محددة: إضعاف المقاومة، تفكيك الهوية، وإعادة تشكيل المنطقة وفقاً لخرائط جديدة تكرس التبعية والانقسام.
لا يخفى على أحد أن الكيان الصهيوني هو أكبر مستفيد من هذه الفوضى. فكلما اشتعلت حرب أهلية في دمشق أو بغداد، ازدادت شرعية "إسرائيل" كـ"واحة استقرار" في محيط مضطرب! والأمر لا يقتصر على ذلك، بل يتعداه إلى اختراق الاقتصادات العربية عبر شركات وهمية، والتغلغل في الإعلام لترويج "ثقافة الهزيمة". حتى بات بعض العرب يصدقون أن السلام مع العدو هو الحل الوحيد!
الإعلام: سلاح التضليل الأكثر فتكاً
في عصر "الحروب الهجينة"، لم يعد السلاح التقليدي هو الأشد فتكاً، بل الإعلام. فبينما تقصف غزة، تتحول الفضائيات إلى منصات لتبرير المجازر أو ليّ الحقائق. والمؤسف أن بعض العرب انضموا إلى هذه الآلة الإعلامية، فصاروا يروجون للأجندة الصهيونية دون أن يشعروا!
الشرق الأوسط اليوم أمام مفترق طرق: إما أن يستمر في لعبة الفوضى، أو ينتفض ليكتب تاريخه بنفسه. والخيار ليس صعباً.. فالشعوب التي قاومت، انتصرت. والباقون سيدفنون في صفحات التاريخ كخونة أو خونة!
ليس غريباً أن تتحول بوصلة السياسة الدولية نحو الشرق الأوسط، فمنذ أن أدرك الاستعمار القديم أهمية المنطقة الجيوستراتيجية، واللعبة الكبرى مستمرة. لكن الجديد اليوم هو تحول المنطقة إلى "مختبر مفتوح" لتجارب العصر: من حروب الجيل الرابع إلى هندسة المجتمعات، ومن اقتصاديات الحروب إلى اختراق السيادات الوطنية تحت شعارات براقة.
لم تعد الحروب التقليدية هي الأداة الوحيدة للهيمنة. اليوم، نرى "حروب العقوبات" التي تحولت إلى أداة لإخضاع الأمم. من حصار العراق في التسعينات إلى عقوبات إيران وسوريا اليوم، تظهر معادلة واضحة: "أفقر الشعب تسيطر على القرار". والغريب أن المؤسسات المالية الدولية أصبحت أدوات تنفيذ لهذه السياسات، بينما تتحول البنوك إلى حراس للهيمنة الغربية.
الثورات الملونة: عندما تتحول الأحلام إلى كوابيس
ما يسمى "الربيع العربي" لم يكن سوى فصل جديد من فصول تفكيك المنطقة. اليوم نرى الحصاد المر: دول منهارة، هويات ممزقة، ومجتمعات تعيد تعريف نفسها بقوة السلاح. اللافت أن نفس أدوات "صناعة الثورات" تتكرر: من منظمات المجتمع المدني الممولة خارجياً إلى قوى إعلامية تزرع الفتنة تحت شعار التغيير.
أصبح الخطاب الديني سلاحاً ذا حدين. من جهة، نرى "الإسلاموفوبيا" كأداة لتبرير العدوان، ومن جهة أخرى نرى الجماعات المتطرفة كأداة لضرب استقرار الدول. المفارقة أن نفس القوى التي تدعي محاربة الإرهاب هي من صنعته وموّلته في ثمانينيات القرن الماضي. اليوم، تحولت سوريا والعراق وليبيا إلى ساحات لتصفية الحسابات تحت غطاء ديني.
بين حرية التعبير واستعمار البيانات
في عصر الثورة الرقمية، لم تعد الحدود الجغرافية كافية لحماية السيادة. منصات التواصل الاجتماعي تحولت إلى أدوات للتأثير السياسي، وشركات التكنولوجيا الكبرى أصبحت لاعباً أساسياً في تشكيل الوعي الجمعي. الأسئلة المقلقة تتكاثر: من يملك بياناتنا؟ كيف تستخدم خوارزميات الذكاء الاصطناعي لتوجيه الرأي العام؟ ولماذا أصبحت "الرقمنة" شكلاً جديداً من الاستعمار؟
في مواجهة هذه العواصف، تبرز المقاومة الثقافية كخندق أخير. من إحياء التراث الفلسطيني إلى صمود الهوية اليمنية، تثبت الشعوب أن الثقافة يمكن أن تكون سلاحاً أقوى من الدبابات. هنا يبرز سؤال المصير: هل نستطيع تحويل تراثنا من مجرد ذاكرة إلى مشروع مستقبلي؟
رغم كل هذا الظلام، تبقى المقاومة هي الأمل الوحيد. تثبت الشعوب أنها قادرة على كسر القيود. والسؤال الآن: هل نتعلم من الدروس؟ فالتاريخ يعلمنا أن الأمم التي توحدت أمام المؤامرات، استطاعت أن تصنع مصيرها.
هل نستحق البقاء؟
التاريخ لا يرحم الضعفاء. أمام هذا المشهد المعقد، لم يعد أمام شعوب المنطقة إلا خياران: إما الاستسلام لمشروع الفوضى الخلاقة، أو إعادة اختراع الذات من خلال:
1- بناء وعي جمعي قادر على قراءة المؤامرات
2- إعادة تعريف مفاهيم السيادة في عصر العولمة
3- تحويل الأزمات إلى فرص للبناء الحضاري
السؤال الذي يطرح نفسه بقوة: هل نتعلم من دروس الماضي أم نكرر أخطاءنا؟ الجواب لن تجده في الكتب، بل في إرادة الشعوب التي ترفض أن تكون ضحية للتاريخ.
***
د. عبد السلام فاروق