آراء
جمال محمد تقي: الحروب بين الصدفة والضرورة! (3)

غدت الحروب متلازمة كالحتميات لتاريخ البشرية، وجزء من طبيعتها، كأسلوب حياة مستدام، اضفت عليها المعتقدات الدينية والدنيوية قداسة تحلل انبثاقها وتحرم تجريمها، مثلها مثل ابغض الحلال عند الله، وكأن الحروب قد كتبت على الجميع دون إستثناء، وقد وضعت ضوابط لجعل ايقاعها مستساغا، بما هو واقع تاريخي لا مفر من التعاطي مع تكراره المزمن!
فجرائم الحرب لا تجرم الحرب نفسها إنما التمادي غير المبرر في تفاصيل سيرها، وبعد ان يكون المنتصر قد حقق مبتغاه في النيل من خصمه المنكسر، وعادة ما يكون المنتصرون فيها من يتحكم في اطلاق الاحكام عليها ثم استشراع ما يناسبهم من اعراف وقوانين، فالقوانين الدولية، ومحكمة العدل الدولية، والاجواء والاجراءات الايجابية التي برزت بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، التي ذهب ضحيتها عشرات الملايين من البشر، قد ارست نوع من النزوع نحو توازن الاقوياء النوويين، والذي سمح للضعفاء، والمتشبثين بالسلام المبني على العدل، ان ينتزعوا من خلال منظمة الامم المتحدة الكثير من التشريعات والقوانين والتعاريف التمييزية متعددة الاطراف للحد من استسهال الجنوح للحروب بدل الحوار وحل الخلافات بالطرق السلمية!
بعد الحرب العالمية الاولى قامت منظمة عصبة الامم، وجرى تجاوزها بعد ان تجاوزتها الحرب العالمية الثانية فقامت على اطلالها منظمة الامم المتحدة، والآن يشهد العالم مرحلة انتقالية تراكمت شواهدها منذ ايام الحرب الباردة وانبثاق الاحلاف العسكرية الكبرى، حلف وارسو وحلف شمال الاطلسي، الناتو، ثم انحلال الاتحاد السوفيتي وسقوط جدار برلين 1989، وما تلاه من ارتدادات جيوسياسية، ادت الى توسع حلف الناتو، مع إستبقاء عقيدته في احتواء اوروبا الشرقية وعزل روسيا، وهذا ما انعش من جديد النفس التوتري في اوروبا، فمحاولة روسيا لترميم حدودها المتداخلة مع جمهوريات الاتحاد السوفيتي السابق اصطدم بصد غربي متكالب، صب الزيت على نار الازمة الاوكرانية الروسية، وعندما جاء ترامب قرر اصلاح المعادلة لانها ستؤدي الى قيام تحالف راسخ بين روسيا والصين العدو الاول والمنافس الاجدر والاخطر لامريكا وقطبها الاوحد والمهدد بالافول، وبدلا من ان تتصرف اوروبا الغربية باستقلالية وتبني علاقة متكافئة مع روسيا، صابتها هستيريا القاصرين، الخائفين، حتى اصبحوا دعاة حرب لا افق لها، غير كسر الروس والانتصار عليهم حتى آخر اوكراني!
إستعباد حداثي!
في حروب القرون ما قبل الراسمالية، كان استعباد المسبيين والاسرى امر معتاد، وبعد سيادة مجتمع الحداثة الراسمالي اصبحت للظاهرة الكولونيالية سمة استعباد لشعوب باكملها بعد ان تستعمرها وتتلاعب بمصائرها، فالعبيد الذين استجلبهم الاوروبيين من افريقيا اثناء المرحلة الاستعمارية الاولى كانوا وقودا لاعمار العالم الجديد، امريكا، بعد حروب ابادة الاقوام صاحبة هذا العالم، اي ان الراسمالية الغربية المتوحشة مارست سياسة الاستعباد الحداثي المزدوج، عندما استولت على ارض الهنود الحمر، وعندما استجلبت الافارقة ليعملوا كعبيد في تلك الارض، ويتحول الاستعباد من شكله الاولي الذي يملك فيه السيد حق التصرف بعبده ونسله حتى الموت، علاوة على حق عرضه للبيع والشراء في اسواق النخاسة الى الشكل الثاني الكولونيالي الى الشكل الثالث الذي يجعل من مجتمعات باكملها تتمتع بحريتها الشخصية لكنها خاضعة لتقسيم عمل دولي يجعلها في موقع المفعول به وعلى طول خط السير انتاجا وتوزيعا وعرضا وطلبا!
الحروب سياسة بوسائل عنيفة!
تعرف السياسة بانها فن الممكن، واذا كانت الحرب هي سياسة في الاصل فانها حتما فن له كامل اركان الممكنات، مادامت العقلية الاولى، بوحشيتها وبربريتها، هي الممكن الوحيد لعقلية مدنيتها القائمة!
يتبع الجزء الرابع
***
جمال محمد تقي