آراء

رشيد الخيّون: مكرم الطَّالبانيّ.. المخضرم السّياسيّ الأخير

عاصر المحامي والوزير مكرم الطَّالبانيّ(1923-2025) عهود الدَّولة العراقيَّة كافة؛ مِن العهد الملكيّ(1921-1958)، والجمهوريّ بانقلاباته(1958-2003)؛ وفي العهود كافة: كان إمَّا سجيناً، وحزبياً تحت الأرض، أو وزيراً. أحد المحامين(1947) عن يوسف سلمان يوسف(فهد/ اُعدم1949)، مؤسس حزبه «الشّيوعي العراقيَّ»، بعدها سُجن وأطلق سراحه، ليكون بعد( 14 يوليو 1958) مديراً ومفتشاً عام، ثم تكليفه بوزارة البلديات(1959)، لكنه لم يبدِ حماساً، لأنها كانت مشروطة بالتخلي عن انتمائه الحزبيّ، وحين توزر ممثلاً لحزبه(1972) بعد إعلان الميثاق الوطني وقيام الجبهة بين البعث الحاكم والشّيوعي(1973-1979)، فأصبح وزيراً للري ثم للنقل. لكلّ ما تقدم يكون مُكرم الطَّالبانيّ آخر السَّاسة المخضرمين. كان وجهاً معروفاً لدى النّظام الجديد آنذاك(1968-2003)، فقبيل اِستلام البعث السّلطة(الأربعاء 17 يوليو 1968)، طلب أمين حزب «البعث» وقائد الانقلاب الجديد أحمد حسن البكر(تـ: 1982) مقابلته سراً، فوصله بهيئة طبيب، للتمويه؛ طالباً اِشتراك حزبه الشّيوعي بالانقلاب على العهد «العارفيّ»؛ ولم تحصل الموافقة، لتجربة اليسار المريرة مع «البعث» والقوميين السنة(1963). لذا؛ عندما بُثت البيانات، قبل إعلان البكر رئيساً للجمهورية، سمعها الطَّالبانيّ ببرود، وسط وجوم العراقيين، فهو مِن القلائل، مِن غير قادة «البعث»، لديه عِلم بالانقلاب، فقد ظلت هوية الانقلاب مخفيةً لأيام، وإذاعة لا تبثُ غير القرآن والبيانات.

كنا نسمع أنَّ الحزب الشِّيوعيّ، قبل الجبهة الوطنيَّة، كشف سر اِنقلاب مدبر ضد حكومة «البعث»، وساعة الصّفر يوم (1 يناير1970)، كان أحد الانقلابيين الضَّابط عبد الغني الرَّواي(تـ: 2011)، الذي لحزب مكرم واقعة مؤلمة معه، يوم كُلف بتنفيذ الشّريعة بالشّيوعيين وأنصارهم(1963)، لهذا الغرض أخذ فتاوى من فقهاء المذهبين، الشِّيعي والسّنيّ، لهذا كان حزب الطَّالباني حريصاً على كشف الانقلاب، فكلفته قيادته، لصلته بالبكر، حمل رسالة له، وحال تسليمها اتَّخذ الإجراء لإحباطه. استغل الطَّالباني الفرصة، بما قَدمه للبكر مِن فضلٍ، ونجح بإطلاق سراح المحكومين بالإعدام مِن رفاقه، بحوادث الموصل(1959). خرج معظم قادة حزبه مِن العِراق، بعد إلغاء الجبهة بينهم وبين «البعث»، بسبب المطاردات والإعدامات التي نالتهم. ظل الطَّالباني داخل العراق، بعد تقديم استقالته مِن الوزارة، وربّما خرج وعاد، فلعب دوراً في الوساطة، بين النّظام والمعارضة، ويلتقي بين فترة وأخرى بصدام حسين(أعدم: 2006)، بشأن الوساطة، أو الشَّفاعة لمحكومين بالإعدام. مثلما التقى بالبعثيين قُبيل نجاحهم باستلام الحُكم(1968) ممثلين بأحمد حسن البكر، التقى بهم قُبيل سقوطهم(2003)، ممثلين بصدام حسين، وبطلبٍ من الأخير، فالـ(35) سنة، بوقائعها الهوائل، مرت مرور السّحابة، بين اِرتفاع وسقوط. بحث صدام مع الطَّالبانيّ المسألة الكرديّة ومقترحات المعارضة، وكأنه لم يسمع سنابك الخيل تطرق على حدوده؛ فحينها كانت استعدادات الغزو قد تمت، وقضي الأمرُ.

أتذكر، اِحتفل اليسار بانتصار الفيتناميين (ربيع 1975) على الأميركان، يومها رأينا الطَّالباني، بأناقته المعهودة، يُقدم الشّاعر محمَّد صالح بحر العلوم(تـ: 1992)، في مجلس السلم والتضامن ببغداد، يشحذ فيه روح الأربعينيات، عندما قال قصيدته السَّائرة آنذاك «أين حقّي»، لكن ما أنشده بحر العلوم ليتنا لم نسمعه، لتبقى صورته كما رسمناها للشَّاعر المطبوع، فما سمعناه كان صدىً خافتاً، وقد بلغ مِن الكبر عتياً، وبعدها نكسته المدائح المبتذلات.

مَن يقرأ مذكرات الطَّالبانيّ يشعر به يماهي بين الماركسيّة والصوفيَّة؛ فتراه مع اِعتزازه بيساريته، أظهر اعتزازاً بتكية أجداه الطَّالبانيين، نسبة لقرية «طالبان» الكُرديَّة، مِن تكايا القادريّة، التي اِتَّخذت مِن علي بن أبي طالب عميد سلسلتها، وتقاسمت إقليم كردستان مع البارزانيّة، إحدى تفرعات النّقشبنديّة، التي تَّتخذ مِن أبي بكر الصِّدِّيق عميداً، دون ظهور نزاعٍ بين العميدين، علي وأبي بكر، في أعراف التكيتين، خلاف الحدة المذهبيَّة الطَّاغية(بعد 2003). لم يكن الطَّالباني آخر السِّياسيين المخضرمين فحسب، بل آخر الوزراء، الذين لم يدخل بيوتهم غير معاشهم (الرَّاتب)؛ وأظنها أمةً قد خلت.

***

رشيد الخيّون - كاتب عراقي

 

في المثقف اليوم