آراء

محمد العفو: هابرماس.. تجاهل القيم من أجل سداد ديون الماضي

عرف الإعلام الألماني في الشهور الأخيرة ردود أفعال، مكنت من الكشف عن حقائق جديدة حول سيرة ومواقف شخصيات فكرية وثقافية ألمانية على وجه التحديد. ولعل هذا ما لقيناه مثلا في بيان موقع من نيكول ديتلهوف، وراينر فورست، وكلاوسغونتر ويورغن هابرماس. أهم ما جاء فيه: " أن تصرفات إسرائيل لا يمكن وصفهابأنها إبادة جماعية"!؛ وأن لدولة إسرائيل والجالية اليهودية فيألمانيا الحق في الوجود؛ وأن ما يحدث في قطاع غزة لا يمكن مناقشته باسم: "التضامن المفهوم بحق مع إسرائيل واليهود في ألمانيا".

عند قراءة بيان، يتولد انطباع بأن الصراع بينفلسطين وإسرائيل بدأ لأول مرة في 7 أكتوبر 2023؛ وأن ماضي المحرقة في ألمانيامرتبط بأعمال حماس. إن الهدف الأساس من البيان هو إيصال الفكرة التالية: أنه "في الماضي كان كل شيء على ما يرام، ولم تكن هناك مشاكل في فلسطين، وكل المشاكلبدأت مع عملية حماس في 7 أكتوبر 2023".

في المقابل، فإن البيان لا يدعو إلى مناقشة حياةالفلسطينيين ومعاناتهم في السجون مع الاستعمار والاحتلال ومآسيهم مع الإبادةالجماعية وهجمات المستوطنين والاغتيالات واللائحة تطول..

إن أرشيف هابرماس وغيره بات منذ الساعة محط نظر وإعادةالنظر لقراءة ما بين السطور. في هذا السياق، ينقل موقع ت. ر. ت دوتش: أن هابرماسوزملاؤه يستخدمون حياتهم المهنية بأكملها للمساهمة في إدارة التصورات عن إسرائيل داخلألمانيا وخارجا. لكن كيف ينظر المجتمع العالمي إلى هابرماس حتى الآن؟ ما هي القيمالتي دافع عنها حتى الآن؟

يقول دينس بيرغر: لقد حاول هابرماس- كما تعلم منمدرسة فرانكفورت- الالتزام بإجراء فحص نقدي ومساءلة الظواهر الاجتماعية والثقافية والسياسية، وهذا يعزز التفكير النقدي بهدف فهم أسس المشاكل الاجتماعية وتغييرها. معذلك، فإن بيانه الأخير لا يُظهر أي جهد لفهم جذور الصراع المستمر منذ 70 عاما بينإسرائيل وفلسطين. وبدلا من ذلك، يتم تجاهل معاناة الفلسطينيين والأطفال الذينقتلوا في غزة.

هناك اهتمام آخر لمدرسة فرانكفورت وهو: الحساسيةتجاه الظلم الاجتماعي وعدم المساواة. ولسوء الحظ، فإن البيان لا يظهر سوى الحساسيةتجاه إسرائيل. وفيما يتعلق بمسألة العدالة، فلا يوجد في البيان ما يشير إلى أنالفلسطينيين يعيشون تحت الحصار منذ سنوات.

لقد أكد هابرماس، الذي كان يعتبر في السابق "منظرا مهما" في مجالات التواصل والفضاء العمومي والمناقشات الأخلاقية، على أنالتواصل بين الناس يجب أن يكون حرا وعادلا، إلا أن تصريحه لم يذكر أن إسرائيل تغلقكافة وسائل التواصل الفلسطينية. بعد سنوات من اعترافه بأهمية النقاش العقلاني، لايوجد في بيان هابرماس ما يتعلق بالعقلانية. وبدلا من ذلك، هناك دعم أحادي الجانبلإسرائيل في هذا النص.

لماذا قام هابرماس والآخرون، الذين دافعوا لسنواتعن مفاهيم؛ مثل: "القيمة والأخلاق والديمقراطية والمناقشة والعدالةوالمجتمع"، فجأة بنشر بيان يتناقض مع كل هذه القيم؟ أ خدعونا في الدفاع عنهذه القيم أم أنهم الآن يستخدمون هذا الإعلان لخدمة إدارة الوعي؟ ما هو الهدف من البيان؟

جوابا على ذلك، يضيف بيرغر، أنه في عام 2012،عندما سأل أحد مراسلي صحيفة هآرتس الإسرائيلية هابرماس عن كيفية تقييمه لسياساتإسرائيل، صرح أنه ليس من وظيفة أي شخص من جيله أن يحكم على ذلك. في الواقع، فإنالتناقض الأساسي عند هابرماس ليس قضية اليوم؛ فمنذ سنوات، ظل هابرماس صامتا في وجهسياسة إسرائيل وتجاهل مفاهيم؛ مثل: النقد والعدالة والديمقراطية والقيم والنقاش. إنمشكلته الأساس له ولجيله هي سيكولوجية الذنب اللانهائية. إن الجيل الذي يتحدث عنههابرماس هو ذلك الجيل الذي عاش الحرب العالمية الثانية والمحرقة في أوروبا. ولكنهنا يكمن تناقض هابرماس: هل ارتكبت حماس هذه الإبادة الجماعية في التاريخ؟.

هنا، يستخدم بيرغر إعارة من أليكس كالينيكوس وهي نقدلاذع وساخر، يوصله إلى موت النظرية النقدية التي يشكل هابرماس أحد أعمدتها حتى اليوم. لقد كتب كالينيكوس عن بيان هابرماس وزملائه، وذلك مثال جيد على كيفية فصل"الأنظمة المعيارية" عن أي اعتبار للحقائق؛ يقول: إن الفلاسفة يدركونببساطة، ومن دون أن يكلفوا أنفسهم عناء شرح، من أين حصلوا على هذه المعرفة: "أن حماس هي التي ترتكب الفظائع، وأن إسرائيل ليس لديها " نوايا الإبادةالجماعية"!، على الرغم من تأكيدات وزرائها المتكررة على هذه الفظائع. لقد ماتت النظرية النقديةرسميا".

إن مساهمة كالينيكوس ليست محض صدفة، بل هي مثال لقلةمن الأكاديميين ذوي الضمير الحي والموضوعي في الغرب، رغمأن المثقفين الغربيين يحاولون التعويض عن ذنب الماضي من خلال الصمت. وهنا هابرماس لم يختر ذلك، لقد فضل الكلام، ودافع عن أي سياسة إسرائيلية لسداد ديونجيله. لكن، كما يختم بيرغر " هناك حقيقة واحدة يتعين على المثقفين والناسكافة أن يتقبلوها اليوم: وهي أن الدروس المستفادة من المحرقة لا تكمن في مشاهدة الفلسطينيين وهم يُطردون من أرضهم أو يُقتلون"؛ أَضيف إليها مع شارلوته فيديمان،أن على الألمان أن يبدؤوا في نقد اعتبار أمن إسرائيل مصلحة عليا للدولة الألمانية.

***

محمد العفو

 

في المثقف اليوم