آراء
صالح الطائي: أمينة فقيم وأمانة السياسيين العراقيين
حتى في سياستنا نختلف نحن العراقيين عن شعوب العالم الأخرى، فحزبنا لا يريد له شريكا في (الملك)، ومن لم يكن معنا فهو علينا، والسياسي عندنا يعتقد أنه وحيد الله العالِم بأسرار السياسة والكون، وكل الآخرين جهلة أميين، والوحيد الذي لا يعرف القراءة والكتابة والعزف على الربابة والأكل مع (الذئابة) لكنه ممكن أن يصبح لواءً في الجيش أو وزيراً سياديا للتحشيش أو شيخا للدراوش.
والأنكى من ذلك أن الشعب نفسه لا يعترض على ذلك، بل جاهد وناضل وقاتل لكي يصبح هذا السياسي بمركز الأفضلية، ويتبوأ المسؤولية، لكي يخدم (القضية) لا قضية شعب عانى الويلات، ووطن أدخله الحكام الأغبياء في عالم المتاهات، وإنما ليخدم حزبه أولا، والمخدوعين به ثانيا، تحت بواعث الطائفية والمناطقية والمذهبية والقومية، والأشد نكاية أن هذا الاعوجاج صار منهجا يتبعه السنة، والشيعة، والعرب، والأكراد، والمسيحيين، والرأسماليين، والشيوعيين، والعلمانيين وللاأدريين، والملحدين، وحتى الموسيقيين والمغنين والعازفين، كل (يحضن) ليلاه، ولا يدري بالليالي السود التي تمر على البلاد والعباد.
ووفق توافق (الملاوصة) والمحاصصة صار من اللزوم أن يكون رئيس الجمهورية كرديا، ورئيس الوزراء شيعيا، ورئيس مجلس النواب سنيا، لا فرق بين أن يكون خائنا أو وطنيا، عميلا لدول الجوار أو صنميا. وبناء عليه يتم تقسيم حقائب الوزارات والسفارات والإدارات العامة والمناصب الهامة، والمواقع المربحة الجامعة و(أم الخبزة اللامة) دون التفات إلى الخبرة والكفاءة والممارسة والبرستيج (prestige)، يكفي أنه يعرف كيف يستخدم (الإبريج) (كلمة دارجة وأصلها إبريق).
بل يكفي لمن كان يشتغل بمنصب معاون سائق باص أجرة (سِكن) باللهجة الدارجة في خط سير علاوي الحلة/ الكاظمية أن يدير وزارات الخارجية والداخلية والاتصالات والنقل والسياحة والثقافة والآثار، وممكن أن ينجح في وزارة النفط أو وزارة المالية؛ ويتحكم بنسب المياه والأمطار بوقت واحد، وتملأ صوره الجرائد.
هذا حالنا منذ أن كان السلطان العثماني يتربع على خيرات بلدنا وينهبها باسم الدين، تؤيده الملايين، ونفسه في حقبة سيطرة أبو ناجي (الإنكليز) على مقاليد البلد، ولغاية عام 1921؛ تاريخ تأسيس الدولة العراقية الحديثة؛ التي لم تجد بين رجالها من كان يصلح أن يقودها، فاستوردت ملكا من دول الجوار، ومنه وصولا إلى عام 1958؛ الذي عرف بعام التحرير، ثم عام 1963، وبعده عام 1968، استمرارا إلى ما بعد طلة المتعجرف الهمام ذو الوجه القبيح العم سام عام 2003.
أما بعد 2003 فقد جمع السياسيون والنواب والحاكمون والمدراء العامون والمحافظون المقيمون والوافدون جميع خبائث تلك التواريخ، وأضافوا لها ما اكتسبوه من خبرة في بلاد الغربة، ومعاشرة العرجة والجربة، وحملوا شوكاتهم ليأكلوا الكعكة ولكنهم لم يعرفوا استخدامها لأنهم لا يجيدون فن (الأتاكيت) (The art of etiquette) ففضلوا الأكل بأيدهم، فهو أدسم وأهضم، يسمح للقمة أن تكون ملء الفم، أما الشعب فبقي طوال هذا التاريخ، ولغاية هذه الساعة ينتظر أن يشبعوا، ويكتفوا، عسى أن يتركوا له الفتات؛ وهو يعاني المأساة والويلات، ولكنهم كانوا يشغلونه عن المطالبة بحقوقه بـ(الكلاوات) والأناشيد الوطنية، وشعارات العروبية، والدروشة واللطميات، فعاش في سبات وخلَّف الصبيان والبنات، كل هذا في بلد علَّم العالم كله الثقافة و(الترافة) والشياكة والأناقة والقراءة والكتابة والعجلة والعزف على (الربابة).
بينما نجد في مكان آخر من زوايا العالم القصية دولة صغيرة فتية اسمها جمهورية موريشيوس، تزهو بحلة عروس، وهي مجموعة جزر تقع وسط المحيط الهندي، وتعرضت مثلنا للاحتلال الأجنبي، فاستعمرها الفرنسيون والبريطانيون، واستقلت عن بريطانيا عام 1968، يبلغ عدد سكانها 1,078,000 نسمة، وكانت قد انتقلت إلى النظام الرئاسي عام 1992.
فيها امرأة عالمة كبيرة أسمها أمينة غريب فقيم مواليد 1959، وهي مسلمة من أصول هندية، نالت دكتوراه الكيمياء العضوية بجامعة إكستر البريطانية وعادت إلى بلادها عام 1987. عينت رئيسة لجامعة موريشيوس وعميدة لكلية العلوم، واختيرت لتكون قائدة لأول مشروع بحث إقليمي لدراسة النباتات الطبية والعطرية من المحيط الهندي، بتمويل من الصندوق الأوروبي للتنمية ورعاية لجنة المحيط الهندي بين عامي 1987 و1992. ألفت أمينة فقيم أكثر من عشرين كتابا وثمانين بحثا في علوم الأحياء. وحصدت الكثير من الأوسمة والجوائز، منها جائزة لوريال من منظمة الأمم المتحدة للتريبة والعلوم والثقافة (اليونسكو) في أفريقيا والعالم العربي.
انتخبت رئيسة للمجلس الدولي للاتحاد العلمي المكتب الإقليمي لأفريقيا للمدة من عام 2011 ولغاية عام 2014، وعملت في مجلس البحوث بموريشيوس مديرة للبحوث 1995-1997، وعضوا منتدبا في المركز الدولي للبحث والابتكار.
لم تختر أمينة فقيم أن تعمل في السياسة، ولم تختر أن تكون رئيسة للبلاد بل وجدت نفسها مرشحة لمنصب الرئيس بعد أن أعلن رئيس الوزراء أنيرود جوغنوث أن البلاد تريد شخصا لا علاقة له بالسياسة وله مصداقية محلية ودولية لقيادتها. ولذا قرر البرلمان بالإجماع في حزيران 2015 تعيينها بمنصب رئيس البلاد، التي يشكل المسلون أقلية من سكانها لأن الأعم الأغلب من سكانها هم مسيحيون، فلم يعترض أحد منهم، ولم يطالب بتنحية الرئيسة المسلمة.!
والنتيجة أن بلادها بفضل وطنيتها وحكمتها وعلميتها وتفانيها في العمل، أصبحت إحدى أغنى دول أفريقيا، إذ يبلغ دخل الفرد فيها نحو 19600 دولار سنويا، بينما انسحقت الطبقة العراقية الوسطى وتحول المجتمع العراقي إلى طبقتين: سياسية كترفة إلى حد الإفراط، وجماهيرية معدمة إلى حد الإملاق، ولا زالت البلاد تقاد من قبل أكثر من رئيس وأكثر من رئيس مجلس وزراء وأكثر من رئيس مجلس نواب فضلا عن مئات الأحزاب التي جلبت لنا الويل والخراب وصادرت الشبابيك والأبواب، وإذا بقيت في السلطة سوف تنهب الماء والزرع والتراب.
***
الدكتور صالح الطائي