نصوص أدبية
سعاد الراعي: ولادة في مِهاد المسيح
تحت خيوط الفجر المرتعشة، حين كان الضوء الوليد يتسلل بحذر بين غبار القصف ورائحة البارود، كانت زينب تمشي ببطء في باحة كنيسة العائلة المقدسة. لم تكن خطواتها تقيس المسافة بقدر ما كانت تحاول مهادنة الألم الذي أخذ يتفتح في جسدها كجرحٍ حيّ؛ مخاض مبكر يعلن نفسه في شهرها السابع، كأن الحياة استعجلت موعدها وأصرت أن تخرج من قلب العاصفة.
بدت الكنيسة، بجدارها المنهار جزئيًا وسقفها المثخن بندوب الشظايا، ككائنٍ جريحٍ لا يزال واقفًا. كانت آخر ما تبقى من يقين في مدينة أُفرغت من البيوت ومن أصوات الضحك.
لجأت زينب إليها مع أمها بعد أن شظى القصف منزلهم، وبعد أن خرج الأب والزوج والإخوة بحثًا عن كيس طحين، فاعترضتهم رصاصات القناصة، وتبددوا في الطرقات، ولم يعد منهم سوى ثقل الأسماء حين تُستعاد. بقيت زينب وحدها، تحمل في رحمها حياة معلّقة بين السماء والأرض، وبجوارها أم أنهكها الفقد حتى صار جسدها هشًا كغصن يابس، بلا سند سوى هذا المكان الذي جمع تحت ظله المكسورين من كل الجهات.
في باحة الكنيسة، امتزجت الأنفاس بالدعاء. وجوهٌ أثقلها الخوف، لكنها ما زالت قادرة على التطلع. نساء يضممن أطفالًا أنهكهم الهلع وليالٍ بلا نوم، شيوخ يتكئون على صبرٍ أطول من أعمارهم، وشباب شاخت ملامحهم قبل أوانها.
هنا، تلاشت الأسماء والفروق.. لم يعد المسلم ولا المسيحي سوى كيان إنساني يحاول أن يبقى. كانوا يتقاسمون الماء والخبز القليل كما يتقاسمون الرجاء، دون كلامٍ كثير.
حين دقّت الأجراس استعدادًا للمساء، لم يكن رنينها احتفالًا بقدر ما كان إعلان تحدٍّ. صوتها شقّ ضجيج القصف كصرخة حياة في وجه موتٍ معتاد، معلنًا اقتراب عيد الميلاد. عيد بلا زينة كاملة، لكنه مشبع بمعنى البقاء.
شجرة صغيرة نُصبت في ركن القاعة، زُيّنت بما تيسّر من بقايا الألوان، بدت كابتسامة خجولة في وجه العتمة.
الشموع وُزعت بعناية الخبو، تجنبا للقصف.. كل شمعة كانت وعدًا صامتًا بأن الضوء، مهما كان ضئيلاً، قادر على أن يقاوم.
واصلت زينب مشيها، تضع يدها على بطنها، وتهمس لجنينها بكلماتٍ لا يسمعها سواهما.
كانت تحدثه عن الصباحات التي ستأتي، عن بحرٍ لم تره منذ شهور، عن عالمٍ أقل قسوة مما عرفته.
في تلك اللحظة، بين انقباضةٍ وأخرى، أدركت أن الكنيسة لم تكن ملاذًا من القصف فحسب، بل رحمًا آخر يحتضن حياة تصرّ على أن تولد.
تكاثفت الساعات من بعدها، ثقيلة، بطيئة، كغيومٍ محمّلة بالانفجار. الألم كان يسبق الزمن ويتسلل إلى روحها قبل جسدها، لكنها كانت تجد في صوت أمها ملاذًا خفيًا. كانت الأم تجلس في باحة الكنيسة، تصلي الظهر، تتلو آياتٍ من القرآن، وتستعيد دعاء زكريا في مطلع سورة مريم، تهمس به كمن يتشبث بحبلٍ غير مرئي. في تلك اللحظة، تشابكت السماء بالأرض، وتلاقت الأدعية بلا حدود، ولم يكن للألم سوى وجهٍ واحد.
ومن بين موجات الوجع، كانت زينب تلتقط أصوات الترانيم الإنجيلية، رخيمة وشفافة، تتردد في جدران الكنيسة العتيقة. رأت الكاهن يوحنا يعمّد طفلًا وليدًا، صوته يرتفع بالدعاء في طقسٍ مهيب. بدا المشهد لها علامة خفية، رسالة طمأنينة جاءت في وقتها، كأن الحياة تعلن عن نفسها بعناد، وكأن مولودها القادم يتلقى بركته الأولى قبل أن يرى النور.
لم تكن زينب وحدها في معركتها الصامتة.
الرهبان والراهبات والنازحون أحاطوها بنظراتٍ مؤازرة وقلوبٍ مفتوحة.
كلماتهم كانت قليلة، لكنها دافئة بما يكفي لتعيد ترتيب أنفاسها.
اقتربت منها الأم ماجدة، بوجهٍ حنون خطّت التجارب تفاصيله، وقالت بهدوءٍ ثابت إنها تعرف هذا الألم، وإنها شهدت ولاداتٍ أصعب. حدثتها عن حفيدٍ لها وُلد في شهره السابع، صار اليوم طبيبًا مناوبًا في مستشفى غزة. ثم وضعت يدها على كتف زينب، ووعدتها أن تكون معها حتى النهاية. عندها، أحست زينب أن الخوف يتراجع خطوة، ومسحت دموعها، وقبّلت يدها بامتنانٍ صامت.
حين أرخى المساء ستاره على غزة الجريحة، امتلأت القاعة بالناس. وجوه متعبة، لكن العيون كانت مشدودة إلى الداخل. في الخارج، كان القصف يرسم ليلًا مضطربًا، وفي الداخل ارتفعت الصلوات كدرعٍ غير مرئي. تقدّم الكاهن يوحنا إلى المذبح. وقف شامخًا، رغم أن الحرب سرقت منه عائلته. صوته لم يكن مكسورًا، بل مشبعًا بصلابة من عرف الفقد ولم يتراجع. قرأ قرار الكنيسة بالبقاء في غزة، بصوتٍ واضح، وقال وكأن الكلمات كانت تخرج من قلب المكان نفسه: "واجهنا كل شيء معًا.. العنف، القصف المتواصل، الخوف والجوع، البرد والفيضانات، والموت وفقدان الأحبة. لذلك علينا أن نعتني ببعضنا، بكل أبناء شعبنا، بتراثنا، وبأرضنا. التهجير حكم إعدامٍ مذل، ربّنا واحد، وسنقاوم جميعًا باسم الله وكلمته".
وقف الجميع، وتوحّد الصوت في لحظة نادرة: آمين
في ذروة ذلك التماسك والخشوع، شقّ الصمت صراخٌ حاد، أعقبه بكاء طفل. كان صوتًا صغيرًا، لكنه أربك الموت للحظة. ساد صمتٌ مهيب، ثم دخلت الأم ماجدة تحمل لفافة بيضاء، كأنها قطعة ضوء انتُزعت من العتمة. أعلنت أن زينب بخير، وأن الطفل بخير، وأن اسمه زكريا. عندها، بدا الاسم وعدًا صامتًا، لا لطفلٍ فقط، بل لمكانٍ بأكمله، بأن الميلاد ما زال ممكنًا، حتى هنا، في قلب الألم.
**
سعاد الراعي
2025.12.24






