نصوص أدبية
حسن لمين: الملف الأخير

كان الليل ساكنًا، لكن عقل أنور لم يعرف السكون. في ركنه المعتاد من المكتب، جلس ببدلته المنزلية الرمادية، وأمامه كومة من الأوراق والصور والمستندات القانونية. كانت الساعة تشير إلى العاشرة والنصف، لكنه لم يشعر بالزمن. منذ شهر، لم يعش غير هذه اللحظة: لحظة الحسم، التي ستحدد مصير قضية ظلت تلاحقه ليلاً ونهارًا.
كان أنور محاميًا مخضرمًا، شارف على التقاعد بعد ثلاثين عامًا من المرافعات. هذه القضية لم تكن فقط قضية قانونية؛ كانت قضية كرامة. الفتى الذي مات في حادث سيارة كان ابنًا لجاره القديم، الذي عرفه طفلاً ثم شابًا يحلم بدراسة الطب. اصطدمت أحلامه بسيارة يقودها ابن رجل أعمال شهير، كان في حالة سكر، وقيل إنه كان يسابق رفيقه في شارع ضيق.
مسح أنور جبينه، ثم وقف لينظر من نافذته. الشارع مظلم، ورذاذ خفيف ينقر الزجاج. عاد إلى مكتبه وأخذ يراجع الملف بندًا بندًا، شاهد الصور، قرأ تقارير التشريح، راجع الشهادات. ثم أخرج من درجه مستندًا سريًا، شهادة خادمة كانت تعمل لدى أسرة المتهم، قالت فيها إنها رأت الشاب يتسلل إلى المرآب ليلاً بسيارته الفارهة. كانت هذه الشهادة، رغم خطورتها، غير رسمية، وقد رفضت لاحقًا المثول أمام المحكمة.
دخلت زوجته سعاد تحمل كوبًا من الشاي بالنعناع، اقتربت منه بلطف وقالت:
– أنور، أرجوك، إن لم تنم الليلة، لن تكون قادرًا على المرافعة غدًا.
ابتسم لها، وربّت على يدها بحنان.
– هذه القضية يا سعاد... هي آخر ما سأخوضه في هذا العالم المليء بالخداع. أريد أن أخرج مرفوع الرأس.
صباحًا، بدت قاعة المحكمة أشبه بمسرح متوتر. عيون الصحافيين، كاميراتهم، همسات الحضور... كلها كانت تترقب ما سيقوله المحامي أنور.
وقف شامخًا، بصوته الهادئ، بدأ يلقي مرافعته، معتمدًا على ترتيب منطقي محكم. استعرض مراحل التحقيق، ثغرات رواية الدفاع، تقرير الطب الشرعي، وفجّر المفاجأة: تحليل الدم أثبت وجود نسبة كحول عالية في دم المتهم.
– "أيها القاضي المحترم، لا نبحث عن الانتقام، بل عن الحقيقة... هل يجب أن يموت شاب بريء دون محاسبة؟ هل العدالة تفرّق بين الفقير والغني؟"
كان الجمهور مشدودًا، حتى هيئة المحكمة بدت متأثرة. أنور شعر بالاطمئنان، حين التفت نحو والد الضحية الجالس في الصف الأول، رأى في عينيه بريق أمل.
في نهاية اليوم، أعلن القاضي أن النطق بالحكم سيكون في جلسة الغد. خرج أنور من المحكمة كمن خرج من معركة رابحة.
في المساء، جلس مع سعاد يشربان الشاي. ابتسم وقال:
– أشعر أنني فعلت ما بوسعي. القضية واضحة، وكل شيء في مكانه.
قالت زوجته:
– هذا أكثر ما أحبه فيك... إيمانك بعدالة الكلمة.
قبل جبهتها. ثم صعد إلى مكتبه، تفقد الملف مجددًا، أغلقه بعناية، ووضعه في الدرج السفلي. ترك النافذة مواربة. لم يكن يتوقع أن أحدًا سيتسلل إليه، فالثقة كانت تملأ قلبه.
في صباح اليوم التالي، كانت المحكمة أكثر ازدحامًا. جلس أنور في مكانه بثقة، وعيناه على القاضي الذي بدأ تلاوة الحكم:
– "بناءً على المعطيات المتوفرة، وبعد دراسة الأدلة والشهادات... تقرر المحكمة: تبرئة المتهم لعدم كفاية الأدلة."
كأن شيئًا انكسر في أنور. لم يفهم... ما معنى "عدم كفاية الأدلة"؟ لقد سلّم كل ما في الملف، كل وثيقة، كل صورة...
بجانبه، ابتسم المحامي الخصم وقال بصوت خافت:
– أحيانًا... لا يكفي أن تكون الأدلة موجودة، بل أن تبقى في مكانها.
بدأت الشكوك تنهشه. راجع ذاكرته: هل سلّم المستندات كاملة؟ هل... ترك الملف؟
ركض نحو سيارته، انطلق بسرعة نحو منزله. دخل المكتب، بحث في الأدراج، لم يجد الملف. كل شيء كان كما تركه، ما عدا شيء واحد: النافذة مفتوحة أكثر مما كانت عليه، والملف... مفقود.
في تلك اللحظة، فهم أنور. لم يكن الأمر صدفة، ولم يكن فقط إهمالًا. لقد دُبّر كل شيء. ربما أحدهم دخل ليلًا، سرق الملف، وربما بترتيب من الطرف الآخر.
جلس على كرسيه، وضع يده على جبينه. لم يشعر بالغضب... بل بشيء أعمق: الخيانة. خيانة للنظام الذي آمَن به، للقانون الذي خدمه، للحياة التي عاشها من أجل الدفاع عن المظلومين.
سعاد دخلت ووجدته مطرق الرأس. اقتربت وسألته:
– خسرتم القضية؟
هزّ رأسه ببطء.
– بل خسرنا العدالة.
في الأيام التالية، لم يغادر أنور البيت. كان صامتًا، يقرأ الجرائد، ويراقب التلفاز. صور المتهم الشاب وهو يبتسم أمام الكاميرات، التصريحات التي تمجّد "انتصار البراءة"، كلها كانت خناجر تغوص في صدره.
ذات صباح، قرر أن يكتب مذكراته. جلس إلى المكتب، وبدأ في تدوين عنوان الفصل الأول: "كيف تُسرق العدالة في وضح النهار؟"
***
حسن لمين - كاتب مغربي