نصوص أدبية

نضال البدري: وردة حمراء

(عزيزتي).. تلك هي الكلمة التي كان يناديها بها حين يحدّثها، مفردة تنمّ عن الحبّ والاحترام، لكن وقعها عليها مزمجر، بل كجرس إنذار يقول لها: انتبهي! فأنا لست كبقية الرجال، على الرغم من أنها لم تنسَ ذلك أبداً! لكن ما يُفقد تلك الكلمة خصائصها أنه كان يقولها أيضاً لزميلاتها من اللواتي كنّ معها في القسم ذاته. كم كنت أتمنى أن يناديني باسمي أو حتى يا حلوتي، كما كنت أناديه في سرّي (قحطان)، محدثة نفسها.

كان طويل القامة، حسن الهندام، عريض المنكبين، سامقاً، وكأن يديه تلامس النجوم، وقوراً، يخالط شعره الشيب، في عينيه وجدٌ صارخٌ، وابتسامته تجعل الورد يزهر، ذلك ما اتسم به ، وشده اليها وجعلها في حيرة من أمرها.

مثابرتها وإصرارها كانا يثيران إعجابه بها، يقول لها: أنت إنسانة ذكية ولبقة، وهذا ما جعلك أقرب صديقة إليّ، إنك أكثر من كونك إحدى طالباتي، كم تذكرينني بشبابي. ثم يصمت، ويأخذ نفسَاً عميقاً، ويقول: أين كنت قبل ذلك بكثير، وكأنها هيمنت عليه.

ثم يعتدل في جلسته وكأن وعيه قد ارتد إليه، قائلاً لها: عزيزتي لا يذهب تفكيرك بعيداً، سوف أتابع معك كلّ شيء، وسأعمل جاهداً على أن يحصل بحثك على درجة جيد جداً أو ممتاز، لستِ أول من أقف الى جانبه، كثيرون قبلك قدمت إليهم المساعدة والنصيحة، تلك هي رسالتي في الحياة، (زكاة العلم تعليمه).

ما يعرفه الجميع بأنه كان يعيش وحيداً منذ أن انفصل عن زوجته، منسجماً مع وحدته، مكتفياً بشرب كأس من النبيذ يتوحّد فيه مع ذاته بعد أن نذر نفسه لطلابه، متفانياً في عمله كأستاذ جامعي كفء، خصوصاً وأنه على مشارف الستين من عمره، ولا يفصله عن السنّ التقاعدي سوى شهور قليلة.

أصبحت في تحدٍّ مع ذاتها كي تثبت له نجاحها وتميّزها عن الأخريات، بدأت تتواصل معه، وتبدأ صباحتها بأن ترسل له صورة وردةٍ حمراء، وحين يسألها: لمَ هذا اللون تحديداً! تردّ عليه: يستهويني اللون الأحمر. يضحكان معاً، ويقوم بإرسال وردتين إليها. وتسأله إن كان تواصلها معه يسبّب له الإزعاج، أو يأخذ من وقته!!

أبداً عزيزتي، يمكنك أن تكتبي أو ترسلي إليّ أيّ شيء متى أحببت. لا أعلم لمَ أشعر بارتياح حين أحدّثكِ، كما وتعجبني ضحكتك، وأسعد بنجاحكِ واجتهادك. سأهديك بعض الكتب والمراجع المهمة التي ستنفعك كثيراً.

أدمن الحديث معها بعد أن اعتاد على وجودها واهتمامها به، شغلت تفكيره، وكانت سبباً في إقلاعه عن التدخين، إذ كانت تقول له وبإلحاح: كفّ عن تدخين السجائر التي ستحرق رئتيك. كما تغيّرت أشياء كثيرة فيه، إذ أصبح يرى تقاسيم وجهه بوضوح محدّثاً نفسه: أنا لم أعد أشبه نفسي، لقد دفنت فؤادي بيدي، فؤادي الذي أصبح اليوم سرمدياً بهوى العشق، آه يا مدللتي يعتريني الشغف بك، لماذا كلّ شيء فيك يعجبني.

مضت عدة ايام دون اتصال منها، أو سؤال عنه وإن كان بإرسال وردتها الحمراء!! مما أثار تذمّره منها، وكان يتجرع فنجان قهوته الصباحيّة بصمت. لقد راوده شعور بأنها تعبث به، أو أنها كانت من منمقي الكلام، واهتمامها به وتواصلها معه ما هو إلا للمنفعة الشخصية لا أكثر. دخل غرفه نومه، واستلقى على سريره وقد طال انتظاره وأقلقه غيابها، محدثاً نفسه: أين أنت يا عصفورتي الجميلة!

فجأة أضاء هاتفه برسالة منها، تقول: مساء الخير، كيف الحال. نهض من سريره، وشعر بشيء من الفرح. جاءها ردّه سريعاً وكأنه كان يقف خلف شاشة هاتفه النقال: أهلاً!!

ساد بعدها صمت لدقيقتين، ثم أردفت: هل لي أن أرسل إليكَ بعضاً مما كتبتُ بخصوص البحث!؟

هل هذا كلّ ما تودين قوله لي، لم أذق النوم لساعات! لن أعاتبك أكثر كي لا تموت الأشياء الجميلة التي رسمتُها عنكِ: أعتذر عزيزتي.. في الوقت الحالي لدي عمل أنجزه، لا وقت لدي لأضيعه في بحث ليس بالمستوى المطلوب، تحياتي، ثم أقفل الهاتف.

جنّ جنونها، وانتابها حزن شديد.

في اليوم التالي اتصلت به، وحدثته بأسلوب خجول تعتذر فيه عن عدم تواصلها معه في الأيام الماضية، إذ إنها انشغلت بمرض والدتها. ضعف أمام كلماتها ونبرة صوتها الأنثوية الناعمة.

- حسناً، لا بأس.. أرسلي إليّ ما أنجزت من عمل، سأطلع عليه. اشتد بها التملق وهي تعبّر عن مدى سعادتها وشكرها له، بعد أن وعدها بأنه لن يتخلى عنها حتى النهاية، ثم أردف قائلاً: عزيزتي تتكدر حياتي حين تغيبين عني، ويذهب فكري وعقلي، يا ليتني لم أكن بهذا العمر يا حبيبتي.

- هل قلتَ حبيبتك!؟

- نعم.. بل أكثر، أنا أشعر كأنك زوجتي، حين لمست اهتمامك وحرصك على صحتي وغيرتك عليّ.

-  ما الذي تقوله، أنت متوهم، لستَ بالنسبة إليّ سوى أستاذ وصديق مقرّب. أنا لست فاكهة تشتهيها، الخيال كلّ ما يتمناه المرء. أرجوك اترك عنك تلك الأوهام، ثم ساد الصمت بينهما.

ردة فعلها صدمته كثيراً، وأشعرته بالندم والسخط على نفسه.

 سارع إلى شرب كأسٍ من الخمر علّه ينسيه ما سمع منها، ثم كأسٍ ثانٍ وثالث إلى أن أدركه النوم الذي أفاق منه في اليوم التالي بشرب فنجان من القهوة.

باتت الحقيقة واضحة أمام عينيّ، وتقلّب قلبي كتقلّب مزاجكِ، مع أنه مازال أعمى بهواك، مُحدّثاً نفسه.

قرّر أن يخرج من حياتها بهدوء، ولأنه قد قطع لها العهد سابقاً بأنه لن يتخلى عنها، قام بمحادثة أحد زملائه من الأساتذة، وإعطائه معلومات كاملة عنها واسمها بالكامل واسم القسم الذي تدرس فيه.

- أوصيك خيراً بتلك الفتاة ..

- نعم أعرفها جيداً، فقد كنت على عـلاقة سابقة بها، بل وكانت مسلوبة العقل بي.

***

نضال البدري – قاصة عراقية

 

في نصوص اليوم