نصوص أدبية
مريم عبد الجوّاد: العودة (2)
خلال الفترة الأخيرة لم أعد أحتمل صوت أفكاري، أشياء غريبة تحدث معي ويبدو أنّها تقودني الى الجنون.
كانت ايزلي تنصت بانتباه الى ما تقوله حنين، زائرتها التي ظهرت من العدم وألقت على رأسها سؤالا محيّرا دفعها بعد تردّد قصير لدعوتها للدّخول. طبيعة عمل ايزلي كمعالجة نفسيّة جعلتها تتعامل بمهارة وبشيء من المرونة مع هذيان تلك الشّابّة والتّشتّت الذي بدا جليّا على عينيها وحركاتها اذ قد سبق وأن مرّت عليها عديد الحالات المشابهة لحنين وتعلم ما يمكن أن يمرّ به المرء، وخصوصا النّساء، في هذا السّنّ المُربك. فقرّرت أن تنزع تطلّعاتها لذلك المساء وترتدي ثوب الأخصائية النفسية ذلك أنّ أخلاق المهنة تجبرها على أن تستجيب لمثل هذه النداءات غير المتوقّعة.
جعلت كلمات حنين تخرج مرتعشة ثمّ تنكسر فوق شفتيها رغم محاولاتها لكبح انفعالها.
"- ثلاث مرّات هذا الأسبوع، لقد زاد الأمر عن حدّه. نوبات الهلع هذه تستنزف جسدي. في كلّ مرّة أفقد فيها السّيطرة على نفسي أشعر وكأنّ عالمي على مشارف الانهيار وأنّني أخسر كلّ شيء. فجأة تتمدّد احدى مخاوفي الّتي أستمرّ بقمعها وتغمرني بالكامل حتّى تبدو حقيقيّة ومرعبة. إنًني..
وقفت حنين وجالت بعينيها حول الغرفة ثم صمتت لوهلة وكأنّها تحاول التّذكر أو الهروب ممّا كانت ستبوح به.
خطت بقدميها الى الأمام وأدارت ظهرها كأنّما تتحاشى النّظر في وجه ايزلي بينما كانت الأخرى تتابع حركاتها بتمعّن.
- "أكملي".. قالت ايزلي محاولة الحفاظ على ملامحها المحايدة بعد أن استفزّ الصّمت المفاجئ فضولها " كلّ ما تقولينه سيبقى بيننا لا حاجة الى الخوف أو التّردّد."
أخذت حنين نفسًا عميقًا ثمّ قالت وهي تُدير خاتمها ذي الجوهرة الزّرقاء حول اصبعها:
"أعتقد أنّني أعاني نوعا غريبا من الفصام، إنّني أرى أشياء لا يُمكن أن تكون حقيقيّة. أشعر وكأنّني أعيش في عوالم متداخلة. أحداث الماضي لا ترحل يا سيّدة ايزلي انّها لا تمرّ! تظلّ تلاحقني وتلتفّ حولي كظلّ لا يغادر. تصرخ بي وتؤنّبني كلّ الأشياء الّتي لم أخترها بينما تهزأ بي اختياراتي الضئيلة.."
أخفت حنين وجهها بين كفّيها وأكملت هامسة: أصوات ضحكهم لا تتوقّف إلّا نادرا. البارحة أيقظني صوتٌ ينادي باسمي كنت وحيدة في المنزل لكنّني أعرف صوتها."
سألتها ايزلي وقد ارتسمت في عينها نظرة تجمع بين الحذر والاهتمام:
- صوتُ من؟
اقتربت حنين من ايزلي وكأنّها ستبوح اليها بسرّ ما:
"-صوتي. انّها أنا الّتي كان يجب أن تحلّ محلّي. لكنّها الآن تقيم في مكان بعيد، مكان لم أذهب اليه سابقًا رغم شعوري بأنّه مألوف جدّا."
شعرت ايزلي بقشعريرة خفيفة سرعان ما أخفتها بإيماءة مشجّعة، وقبل أن تتكلّم أكملت حنين:
"كلّما نظرت الى مرآتي، أشعر أنّ الشّخص الّذي يحدّق بي ليس أنا. أحيانا أراها أكبر سنّا وكأنّها تحمل ذكريات لا تخصّني."
شعرت ايزلي بالاختناق للحظة، لطالما راودها الشّعور ذاته، ذلك الانفصال عن انعكاسها في المرآة.. تمالكت نفسها وحاولت تجميع كلماتها بحكمة ذلك أنّه يجب عليها دائما فصل مشاعرها الشّخصيّة عن مشاعر المريض..
"-حنين، يبدو أنّكِ عرضة لضغطٍ هائل. ما تصفينه قد يكون مرتبطا بشيء دفين بداخلك، رغبة هي أو ذكرى قديمة أو حتّى خوف. فكّري جيّدا.. فلنعُد قليلاً الى سنوات طفولتك."
صمتت حنين كي تفسح المجال لذاكرتها بأن تمتدّ الى جذور الطّفولة البعيدة.. ثمّ عادت تلفّ الخاتم حول اصبعها بانفعال وقالت:
"-حين كنتُ طفلة كنتُ أهرب دائما الى الحديقة وأجلس بجانب شجرة التّوت.."
"-ممّا تهربين؟"
سألتها ايزلي بانتباه وكأنّما أمسكت بطرف الخيط الذّي سيوصلها الى حلّ لغز مهمّ. واصلت حنين وكأنّها لم تسمع السّؤال:
-" أذكر أنّني كنت أشغل نفسي بعدّ حبّاتها حتى لا أسمع صراخ أبي وشتائم أمّي " حبّة اثنتان ثلاث... فلتعلمي أنّني باشرت بالفعل باجراءات الطّلاق! لم أعد أحتمل ادمانك على الكحول ولا عجزكِ المقيت عن القيام بدورك كزوجة..
أُكمل العدّ بصوت أعلى حتّى لا تتسلّل بقيّة الكلمات الى أذنيّ "أربعة خمسة...سأترك هذا المنزل، إنّك وغد حقير لا أريد شيئا منك ولا حتّى ابنتك."
كُنت أشد على أذنيّ حتّى تؤلمانني وأنا أحاول عبثا اخراج الكلمات من رأسي. شعرتُ بنفسي عبئا قاتلا على والديّ. لم يكن هنالك أحد لينبّهني الى أنّ الذّنب ليس ذنبي بل كنت أشعر أنّ وجودي يذكرهما بالخطأ الجسيم الّذي ارتكباه وأنّني سبب شجارهما..."
نظرت حنين الى ايزلي نظرة تحمل في طيّاتها شيئا من المعنى فوجدتها جامدة الملامح ولاحظت حجوظ عينيها وقد تراءت في احداهما دمعة مُجهَضة.
كانت صورة تلك الشّجرة واضحة جدّا في ذاكرة ايزلي بل إنّ تلك الكلمات ظلّت تحفر عميقا وتتغلغل الى نقطة دفينة في عقلها..
"- سيّدة ايزلي هل من خطب ما؟"
أفاقت ايزلي من سهوها الذي سحبها منه صوت حنين. فنظرت إليها وهي تتفرّس في ملامحها علّها تقتلع من بينها جوابا على كمّ الأسئلة الذي انهال عليها دونما انذار.
"-من...من هُما والداك؟"
همّت حنين بالإجابة لولا مقاطعة صوت رنين هاتفها الخلويّ. انتفضت الفتاة بسرعة وحملت حقيبتها وقالت وهي تغادر:
"- يحب أن أرحل، سأزورك في يوم آخر. مازال لديّ الكثير لأخبرك به يا سيّدتي. الى اللّقاء."
أغلقت الباب خلفها ثمّ تتالت طرقات خطواتها على السلّم حتى انطفأت بينما ظلّت ايزلي قابعة في مكانها. شعرت بالاختناق وهي تستعرض على نفسها ما روته زائرتها.
كيف يمكن أن تكون قصّتهما بهذا التّطابق المريب؟ أتكون محض صُدفة؟ وهل يمكن للصّدفة أن تكون دقيقة حتى يصل الأمر بأن تطرق بابها وتجلس على كرسيّها؟
حاولت أن تطرد الهواجس المزعجة الّتي يُسرّ بها عقلها وبينما همّت بالنهوض وقعت عيناها على خاتم حنين ملقى على الكرسيّ الّذي كانت تجلس عليه.
"لابدّ أنّه وقع منها بينما كانت تروي لي تلك القصّة"
دنت من الخاتم حتّى تلتقطه فما ان وقعت يدها على قماش الكرسي حتّى أدركت أنّه مازال باردا، وكأنّ أحدا لم يكن يجلس عليه من الأساس..
يتبع
***
مريم عبد الجوّاد - تونس