نصوص أدبية

سهام بورجيع: العوالم الموازية

كان الطريق من المدرسة إلى البيت طويلاً، بحيث كنت معتادة على التوقف بين الفينة والأخرى أملاً في أخذ قسط من الراحة.  ذات يومٍ جلست تحت ظل شجرة بجانب الطريق عَلِي أتقي شر خيوط الشمس المنهمرة على رأسي. أخرجت كتاباً من محفظتي كنت قد عثرت عليه وسط ركام من الأزبال المتراكمة قرب بيت مهجور. لقد كان مكتوباً باليد، دون اسم كاتبه ولا ناشره، عدا عنوان غريب: "العوالم الموازية". ما فهمت منه هو أن الشخص الواحد منا يحيا في عوالم مختلفة، عالم تغمره فيه السعادة وآخر  يلفه فيه الشقاء والتعاسة. لم يكن الواحد منا لينتقل من عالم إلى آخر دون تدخل وسيط، إنه "البَابَان"، هكذا لقبه صاحب الكتاب!

أثار هذا الكتاب سخريتي، لسبب بسيط وهو أنني لم أكن ممن يؤمنون بالترهات والخرفات، وقلت، مخاطبة نفسي: "لا أفهم كيف يتمكن التفكير الغرائبي والعجائبي من عقل بني البشر !" وضعت الكتاب في محفظتي، وهممت بقطع طريق مختصر علني أصل المنزل في الوقت المحدد كيلا تعتقد أسرتي بأنه قد حل بي مكروه. فجأة وأنا أخطو داخل الممر، أحسست وكأن ظلاماً دامساً يتسلل خفيةً لدرجة أني لم أعد أرى أين أنا، هل أخطأت السبيل؟ ربما! بدأ الخوف يتسلل بداخلي، أسرع الخطى، أركض بلا شعور. فجأةً لمحت نوراً شديد البياض لدرجة أني كنت مضطرة لغلق عيناي، شعرت على إثرها بيدٍ تجرني لتلقي بي في مكان غريب حيث الليل ألقى سدوله، وحيث ضوء القمر الخافت يتأهب لاحتلال موقعه. أحاول جاهدةً فهم ما جرى، ثم بدأت أستحضر آخر ما قرأته عَلِي أجد رابطاً يُفْهِمُنِي كل ما يدور حولي. حين وصلت إلى ما يشبه غابةً لمحت رجلاً متكئاً على شجرة وهو ينظر إلي بابتسامة لا تخلو من احتقار، فسألته: "من أنت؟" فأجاب: "أنا ذاك الذي أثار سخريتك!"رجعت، من هول الصدمة إلى الخلف بضع خطواتٍ، وأنا أتساءل: "كيف عَلِمَ بما يجوب بخاطري؟! أيكون جنياً أم ماذا؟! أم أني أحلم؟!" نظر إلي وانفجر ضاحكاً، وبمجرد ما أَمْسَكَتْ يَدُهُ يَدِي عاد الضوء الأبيض للظهور، لكنه كان هذه المرة أقل شدة، كان الأمر شبيهاً بمن يدخل لوحة خلفها لوحة أخرى لأجد نفسي فوق مرتفعٍ عالٍ يطل على بحر شديد الزرقة، وأمواجه تصطدم بحافة الصخور وكأنها تنين لهيب هائجٍ. أحسست بهلع عظيم، والأفكار تتداعى في ذهني: "أيريد إلقائي في هذا اليم؟! كلا، لا أريد أن أموت، أريد العودة إلى بيتي وأسرتي" ثم رجوته أن يخلي سبيلي: "أنا آسفة، اعتقدت ما جاء في الكتاب مزحة، محض خيال، لم أكن أعي ما أقول، رجاء أطلق سراحي وأعدك بأن لا أكرر ما قلت."

- فقال: "لا تخافي هي فقط البداية صغيرتي"؛

- "عن أي بداية تتحدث سيدي؟ أرجوك، أعترف أني مذنبة في حقك..."

- فقال: "أنظري ، أترين تلك الفتاة هناك؟"

- "ماذا؟ إنها أنا، أيعقل أن تكون هي أنا؟!"

- فأجاب قائلاً: "نعم إنها أنت لكن في عالم آخر!"

لقد كانت حالة شبيهتي أو بالأحرى حالتي أنا في ذاك العالم تبعث على الأسى، ملابس رثة وممزقة، تجلي للبؤس والشقاء...

- فقال: "هل صدقتي الآن ما جاء في الكتاب؟"

- "نعم، نعم سيدي ليس لدي أدنى شك في ما ورد فيه، فرجاء هل تسمح لي بالعودة إلى عالمي، أعني عالمي الآخر؟"

في هذه اللحظة وضع يداه على رأسي، فأحسست بنوبة إغماءٍ فقدت معها وعي، لأستفيق وأنا ملقاة على قارعة الطريق، الطريق نفسه حيث بدأت سلسلة الحوادث الغريبة، وحيث دخلت عالمي الآخر. غمر نور الشمس كامل جسدي بشكل جعلني أسترد بعض حيويتي بعد هذا الرعب الذي عشته في عالمي الثاني وما رأيت فيه من الأهوال. هرعت إلى البيت فوجدت الجميع في انتظاري، إخواني وأخواتي، أبي وأمي، كان الجميع يبحث عني، لم يتركوا باباً إلا وطرقوه، اتصلوا بجميع صديقاتي وحتى بالثانوية حيث أدرس...لم يكن زمني هو زمنهم، بدا لي غيابي بضع دقائق، والحال أنه مرت على سفري خمس ساعات بالتمام والكمال. لم يصدق أحد قصتي، لم تكن بحوزتي حجة سوى ذلك الكتاب الملعون. أردت اطلاعهم على محتواه، لكن يا لها من صدمة ومفاجأة، اختفت كل سطوره وكلماته، تحول إلى صفحات بيضاء!

***

سهام بورجيع

 

في نصوص اليوم